التاريخ المجهري مدرسة في البحث التاريخي، ظهرت في إيطاليا خلال السبعينات من القرن الماضي، على يد المؤرخين الإيطاليين كارلو غينسبورغ Carlo Ginzburg وجيوفاني ليفي Goivanni Levi، وهي تهتم أساسا بحقبة التاريخ الحديث. وتقوم على دراسة فرد واحد أو جماعة محدودة جدا من الناس ( أسرة، قرية...) خلال مدة زمنية معينة. إن انطلاق هذه المدرسة التاريخية من إيطاليا له ما يبرره، فهذا البلد يتوفر على أرشيفات ضخمة، وعلى مدونات تاريخية تغطي فترات كبيرة من تاريخ المدن الإيطالية، التي كانت عبارة عن دويلات مستقلة إلى أن توحدت إيطاليا سنة 1870، ومن أهم هذه المدونات كتاب الحوليات الجنوية Gli Annali Genovesi، الذي يضم دقائق تاريخ جنوة خلال العصر الوسيط المتأخر. وقد عرفت مدرسة التاريخ المجهري انتشارا لا بأس به خصوصا في إلمانيا وإنكلترا وإسبانيا. بالنسبة لإسبانيا، وعلى غرار عدد من الدول، نجد أن ملوكها ونبلائها حظوا باهتمام بالغ، فألفت حولهم العديد من الكتب التي تعقبت إنجازاتهم، وغزواتهم، دون أن تخلو من بعض المبالغة. ومنها على سبيل المثال: 'حوليات الملكين الكاثوليكيين' Cronica de los Reyes Catolicos الذين أرخ لحكم الملك فرناندو الثاني الأراغوني، والملكة إيزابيلا الأولى القشتالية. لكن هذه المؤلفات على ضخامتها، لم تعر أية أهمية للطبقات السفلى من المجتمع، ولهذا لجأ عدد من المؤرخين الإسبان للبحث في ربائد الأرشيفات الإسبانية في محاولة لكتابة تاريخ هذه الفئة المهمشة، ومن هؤلاء الباحث الإسباني فرمين مايورغا. الكتاب الذي أقدمه في هذه الأسطر هو كتاب: 'هراطقة ماردة ،' لمؤلفه الباحث الإسباني الجريء فرمين مايورغا، المهتم بالتاريخ الحديث، وخصوصا ما له علاقة بمحاكم التفتيش الإسبانية، ويقع الكتاب في 220 صفحة، من القطع المتوسط وقد نشرته دار كولتيبا ليبروس بمدريد سنة 2011. مسرح الإحداث التي يركز عليها الكتاب، هو مدينة ماردة، الواقعة غرب إسبانيا، بالقرب من الحدود البرتغالية، والتي اشتهرت خلال الحكم الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية بثوراتها التي لم تهدأ، خصوصا خلال عصر الإمارة، والتي قام بها في أغلب الأحيان الأندلسيون المنتمون إلى طائفة المولدين - سكان البلد الذين اعتنقوا الدين الإسلامي - ضد احتكار العرب الوافدين للثروة والسلطة. أما أثناء الحكم القشتالي الذي بدأ سنة 1230 فقد اشتهرت بمروق أهلها عن العقيدة الكاثوليكية الرسمية، ولهذا أنشأت بإحدى ضواحي المدينة أشرس محكمة تفتيش في التاريخ الإسباني إذا أخذنا عدد من أحرقوا أحياء كمعيار كما استقرت فيها، وفي أنحائها، أعتى الرهبانيات العسكرية، كرهبانية قلعة رباح Orden de Calatrava ورهبانية سنتياغو Orden de Santiago، أما بالنسبة للفترة التي يتناولها الكتاب فهي تنحصر في التاريخ الحديث، أي من بداية القرن 16 إلى بداية القرن 19، أي إلى ما يعرف في التاريخ الإسباني بحرب الاستقلال الإسبانية Guerra de la Independencia Espaûola. يتكون الكتاب بالإضافة إلى المقدمة التي خصصها الباحث لتوضيح أسباب اختياره للموضوع وللزمن وللمدينة، من سبعة فصول خصص الأول والثاني للوقوف عند ما أسميناه سالفا أشرس محكمة تفتيش إسبانية، والمقصود هنا محكمة التفتيش التي كان مقرها بلدة ليرينة، فأورد الكثير من الوثائق التي تؤرخ لتأسيس هذه المحكمة وتصف مقرها وسجونها ونظامها الداخلي، كما وقف عند المراحل التي كانت تمر بها القضايا، قبل أن يتم البت فيها، ويصدر الحكم، الذي لم يكن في أغلب الأحيان إلى الإعدام حرقا. كل هذا مع توثيق دقيق وغوص في مختلف الحيثيات التي سكت عنها الباحثون الإسبان، قصدا أو إهمالا وتركها غيرهم لصعوبة الوصول إلى الوثائق والاستفادة منها، خصوصا أن معظمها عبارة عن رسائل مخطوطة كتبت بلغة قشتالية قديمة وبخط لاتيني يصعب فك طلاسمه. أما الفصول الخمسة المتبقية، فقد خصصها لهراطقة ماردة. حيث تحدث عن الجماعة اليهودية، التي تعرضت للتنكيل والتحريق، إلى أن اختفت تماما في حدود سنة 1526، أي بعد 34 سنة فقط من صدور قرار طرد اليهود من إسبانيا، وخصص فصلا مستقلا عن الأندلسيين الغرباء (المورسكيين)، متتبعا الأفراد الذين تعرضوا للملاحقة والتنكيل، مفردا صفحات مستقلة لكل فرد، مع إبراز أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، والتهم التي ألصقت بهم، والأحكام التي صدرت في حق كل واحد منهم، وفي هذا الفصل نستنتج على جماعة المسلمين من سكان ماردة، تمكنت من الحفاظ على شعائرها وعاداتها لمدة طويلة بعد صدور قرار التنصير الجماعي سنة 1502، وإلى حدود صدور قرار الطرد لسنة 1610 والذي حسب المؤلف لم يقض نهائيا على وجود المسلمين في إسبانيا، حيث تم اعتقال ومحاكمة عدد من الأفراد سنة 1724 أي بعد 114 سنة بعد قرار الطرد، و232 سنة من سقوط غرناطة، آخر معاقل الأندلسية. وفي فصل آخر، ينتقل بنا المؤلف إلى نوع آخر من الهراطقة الذين توبعوا بلا أدنى رحمة، ونقصد الساحرات، فبعد صدور كتاب 'مطرقة الساحرات' سنة 1487، دشنت محاكم التفتيش حملة ضد كل من يشتبه في ممارسته للسحر والشعوذة، وقد راح ضحية هذه الحملة الكثير من النساء، ورغم أن هذه القضية حظيت باهتمام بعض المؤرخين، إلا أن المؤلف فضل الوقوف عند الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمن اتهمن بالسحر والشعوذة، وقد اعتبر أن هذا الموضوع ما زال في حاجة إلى أبحاث معمقة أكثر للوقوف عند هذه الظاهرة يحيطها غموض شديد بسبب السرية البالغة التي تميز السحر وطقوسه. وفي الفصل ما قبل الأخير، انتقل الباحث للحديث عن من تخلوا عن عقيدتهم الكاثوليكية، وتحولوا للعقيدة اللوثرية، والذين على قلتهم شكلوا خطرا حقيقيا فجلهم من الرهبان الكاثوليك، ذوي التكوين الكنسي المتين، والذين اختاروا ركوب الخطر عبر اتباع ما جاء به مارتن لوثر فكان مصيرهم الإحراق على يد بني جلدتهم. أما الفصل الأخير، فقد تتبع فيه المؤلف تحولات محاكم التفتيش بعد إلغائها أثناء الحروب النابوليونية، وذلك من خلال تتبع سيرة السياسي الإسباني خوسي ماريا دي كالاطرابا Jose Maria de Calatrava، الذي اعتبر مهرطقا من قبل معاصريه بسبب معارضته الشديدة للاحتلال الفرنسي، وللحكم المطلق، ومطالبته بإقرار الدستور. وبسبب ذلك حوكم هو وعدد من رفاقه، وأودعوا جميعا في سجن مدينة مليلية المحتلة، الذي كان يشرف عليه الرهبان الفرنسيسكان، وقد وقفت عند لوحة تحمل أسماء هؤلاء عند باب هذا السجن الذي يقع تحت سطح الأرض بعدة أمتار. يتميز الباحث الإسباني فرمين مايورغا من الناحية المنهجية، بمحاولته أن يكون حياديا قدر ما يستطيع، فمن المستحيل أن تكون محايدا تماما في التاريخ لكنه يحاول أن يحقق هذه المعادلة الصعبة عبر اعتماده الكبير على الوثائق الرسمية، متبعا في ذلك نهج أصحاب المدرسية الوضعية الذين رفعوا شعار 'لا تاريخ بلا وثيقة'، لكن هذا الباحث تنقصه بعض تقنيات التحليل والاستقراء. من ناحية أخرى نجد أنه يتميز بجرأة بالغة، فخطابه، وأعماله المنشورة، والأفكار التي يروج لها من خلال كتبه، تخالف تماما ما ينشره غيره من الباحثين الأسبان الناطقين باسم كبريات المؤسسات البحثية الإسبانية، والذين يعبرون نوعا ما عن الموقف الرسمي، ناهيك عن انتقاده اللاذع للمؤسسات الرسمية، وخصوصا لما قامت به الملكية الإسبانية، والكنيسة الكاثوليكية، في حق الشعب خلال القرون الخوالي. وكباحثين عرب ومغاربة يمكن لمؤلفات هذا الباحث أن تشكل مصدرا مهما للوثائق، وخصوصا المتعلقة بالأندلسيين الغرباء، الذين لا يمكن الغوص في تاريخهم بدون الاعتماد على الوثائق الرسمية والكنسية الإسبانية، وبدون ما خطته أيديهم بلغة الخيميادو من مخطوطات لا تزال تنتظر من يكشف يزيح عنها الغبار أو من ينقلها إلى لغة الضاد. ' باحث من المغرب القدس العربي