بكلمات قليلة أستطاع العقاد أن يوضح الطابع التكاملي للتطور الأجتماعي بقوله 'ما أجادت أمة الجد ألا واجادت اللهو'. وبما أن الأمريكيين يجيدون الجد، يجيدون صناعة السيارات الجيدة والطائرات الجيدة، فهم يجيدون صناعة الأفلام الجيدة. وفي الحقيقة فأنه من الممكن سحب مقولة العقاد هذه على مجمل أوجه النشاط البشري بما في ذلك صناعة السينما، فعادة ما يفوز أحد الأفلام بالعديد من جوائز الأوسكار او بالعديد من الترشيحات، مما يدل على ضرورة وجود توازن في تطور مختلف عناصر بناء الفيلم. ونحن قد يظهر لدينا ممثل مقنع مثل محمود المليجي الا أن موهبته تبقى أسيرة بقية عناصر بناء الفيلم. من الأفلام الجيدة التي صنعها الآمريكيون فلم 'كازابلانكا' الذي تحدى ناب الزمان ولم يفقد الحاحيته وآنيته خلال سبعين عاما. ما الذي ميز هذا الفيلم حتى بين الأفلام التي نالت العديد من الأوسكارات والترشيحات؟ أضافة الى حصول الفيلم على ثلاث جوائز اوسكار وعلى ثمانية ترشيحات فأننا نستطيع فصل ميزتان للفيلم: الميزة الأولى: حسب تورغينيف فأن الأنسان أما أن يكون هاملت او دون كيشوت، وشخصية الأخير كانت دوما آسرة للقراء (الكتاب الأكثر مبيعا بعد ألأنجيل) وملهمة للكتاب ( عندما كتب دوستويفسكي 'الأبله' قال أنه يريدها أن تكون دون كيشوت القرن التاسع عشر) وما فعله كازابلانكا هو دمج الطيفين في شخص واحد. ولتحقيق هذا الدمج كان لا بد من منح دون كيشوت بعض العقلانية. ف'ريك' (همفري بوغارت) لا يبدو كشخص قد قرأ او يقرأ الكثير من الكتب وبالتالي لم 'يختل عقليا' وهو يعي بأن البشر يخدع ويستغل بعضهم البعض بل ويشارك في الخداع (الروليت في الكازينو) وألأكثر من ذلك فأن له قصة حب حقيقية مع ألسا لوند (أنغريد بريمان). لا يوجد ما يدل على أن محاولة الدمج هذه قد تكررت في السينما. الميزة الثانية: منذ أن ظهرت هاملت دار جدال، ولا يزال، حول السؤال لماذا تأخر هاملت في قتل عمه؟. وقد ظهرت أجوبة عديدة مثل 'أنه من الصعب على ألأنسان أن يقتل عمه' أو 'أنها مجرد طريقة لأطالة المسرحية'. ألا أن ظهور 'الكونت دي مونت كريستو' أكد بأن تأخر هاملت أو بكلمة أدق تجاهله للفرصة التي أتيحت له لقتل عمه هي احدى قواعد الدراما المتقدمة. وكما فعل هاملت فعل الكونت دي مونت كريستو حيث تجاهل الفرصة التي أتاحها له الكنز بأن يستأجر من يشاء للقضاء على أعداءه وأنتقم منهم بالطريقة ألتي نعرفها. في أحدى الأقتباسات السينمائية العربية عن مونت كريستو( الظالم والمظلوم) تم ببساطة حذف الكنز من القصة، أي تم أفراغ العمل ألأدبي من محتواه ثم تم تقديمه للمشاهد العربي. وقد تكرر ذلك مرات كثيرة عند أقتباس الأعمال الأدبية او السينمائية. (بالمناسبة فأن دي مونت كريستو مثلها مثل كازابلانكا كانت أقتباسا عن قصة أخرى). كان شكسبير قد وضح في هاملت بأنه لا يجوز قذف ما هو غير عادي بوجه المشاهد مباشرة وأنما يجب التدرج في تقديمه. فلم يكن هاملت هو اول من شاهد شبح والده وأنما شاهده الجنود اولا ثم هاملت. وأصبحت هذه أحدى قواعد بناء ألافلام أستخدمت في جميع أفلام هوليوود. ( وكمثال من السينما العربية كم من مرة أستطاع نور الشريف التغلب على عدة رجال دفعة واحدة دون ان يعرف المشاهد سر قوته أو مصدرها). بما أننا أمام شخصية غيرعادية ستقوم بعمل غير عادي كان لا بد من التدرج في تقديم ذلك للمشاهد. بكلمات أخرى كان من اللازم تقديم هاملت ودون كيشوت قبل الوصول الى ذروة الفيلم. من خلال حديث ريك مع لوي(كابتن الشرطة) نعرف بأن ريك كان يساعد الأثيوبيين ضد الأحتلال ألأيطالي، وأنه حارب الى جانب الجمهوريين في أسبانيا، كان يقف في الجانب الخاسر دوما. لكن ألأهم كان تقديم طريقة تفكير هاملت. هناك أمرأة بلغارية مع زوجها في طريقهما من بلغاريا الى الولاياتالمتحدة وهما محصوران في كازابلانكا لآنهما لا يملكان المبلغ اللازم للحصول على تصاريح المرور. يعرض لوي (كابتن الشرطة الفاسد) على المرأة أعطاءها التصاريح مقابل جسدها. وتحاول المرأة أستشارة ريك ماذا عليها أن تفعل. أثناء الحديث معها يقرر ريك مساعدتها ولكنه يتجاهل أمكانية تقديم المبلغ لها سرا ويذهب الى طاولة الروليت، حيث يجلس الزوج محاولا ربح المبلغ المطلوب. يقوم ريك بمساعدة الزوج في أن يربح المبلغ المطلوب ويخسر المبلغ وسمعة الكازينو ويكسب عداء الكابتن لوي لتدخله في 'قصة حبه' (خسر هاملت حياته لآنه تجاهل فرصة قتل عمه). ألم يكن من ألآفضل أعطاء المرأة المبلغ سرا وتجنب الخسائر الآضافية؟ بما أنه لا يوجد رجل من الممكن أن يصدق أن رجلا آخر من الممكن أن يعطي أمرأة غريبة مبلغا كبيرا من المال دون أخذ شيء ما منها بالمقابل فأن الشك (شك الزوج) سيدمر حياتهما لاحقا وستكون المساعدة لا أنقاذا لهما وأنما تدميرا لحياتهما. أما في الحالة الثانية فأن الزوج هو الذي ربح المال وهو الذي أنقذ العائلة ولا مجال لآي شك. ليس المهم أن يخسر الآنسان أكثر المهم أن توضع ألأمور في نصابها الصحيح بطريقة صحيحة. بتقديم هذه القصة الجانبية أستطاع الفيلم تقديم قاعدة تأخر هاملت بقتل عمه بشكلين مختلفين (قدمت في الكونت دي مونت كريستو بشكل واحد). يطول الحديث عن الجوانب الفنية والأدبية والفلسفية في كازابلانكا. ألا أن ما سبق يوضح ما ميز هذا الفيلم. تبقى هناك كلمات قليلة عن المستوى المتدني للدراما العربية،أن السبب وراء ذلك يكمن في أنها تكتب وكأن شكسبير لم يولد بعد، وهو ما يعكس بدوره فشل الجامعات العربية في تدريس مادة ألأدب، تكفي دراسة هاملت لرفع الدراما العربية عدة درجات أذ لا يوجد عمل أدبي حوى عددا من قواعد الدراما مثل العدد الذي حوته هاملت. [email protected] كاتب فلسطيني يقيم في السويد القدس العربي