كمال القاضي: قدمت السينما المصرية صوراً كثيرة للبلطجية ضمن رؤى اختلفت من حيث الشكل والمنظور والطابع، وقد حرص الكتاب والمخرجين على التفرقة بين الفتونة والبلطجة حتى لا تختلط المفاهيم فيقع الظلم على الفتوات وأظن أن أول من أسس لذلك كان الأديب العالمي الكبير نجيب محفوظ الذي وضع قواعد الكتابة بما يحفظ حق الفتوات ويدين البلطجية. بدأت ظاهرة البلطجة في الوضوح فلجأت السينما الى التعامل معها وإزاء ذلك حملت عشرات الأفلام جينا الإجرام وتشكلت مئات الصور للبلطجية والمجرمين، وبالطبع كان لكل عمل إبداعي في هذا الاتجاه خصوصيته. 'الألماني' واحد من الأفلام التي جعلت من البلطجي بطلاً رئيسياً للحدث الدرامي، فالكاتب والمخرج علاء الشريف رسم صورة واقعية راهنة لبلطجية العشوائيات، وركز بالضرورة على النموذج الأخطر صاحب اللقب 'الألماني' وهي الشخصية التي جسدها الفنان الشاب محمد رمضان، حيث نشأ البطل في ظروف بيئية شديدة الفقر وتعرض لاضطهاد اجتماعي أدى به في نهاية المطاف الى احتراف كل أشكال الجريمة من سرقة وقتل وإدمان وعلاقات نسائية متعددة. عناوين لكثيرة لمأساة مكتملة الأركان لم يكن ضحيتها شاهين أو 'الألماني' وحده وإنما شاطره فيها صديقه 'الفنان ضياء عبدالخالق الشهير ب'الأصلي' والأصلي كنيته في الفيلم الذي استغرق زمنه ساعة ونصف الساعة واصطبغ لونه بلون الدم، إذ اجتمعا الصديقان على الشر وتعاهدا على الخطيئة فلم ينجوا واحداً من شرورهما، لقد ركز السيناريست والمخرج علاء الشريف على النوازع الشيطانية لإبراز مكامن النفس البشرية التي جُبلت على القسوة فصار الخروج على القانون مهنتها التي تتعايش منها، وعلى هذه الخلفية ووفق هذه الطبيعة جاءت الأحداث مفجعة ودامية. لم يستثن الفيلم الواقع من الضلوع في كل الجرائم بل لعله كان الدافع الرئيسي خلف كل جريمة يرتكبها البطلان، 'الألماني والأصلي' وللألقاب هنا دلالة قوية فهي جزء من عشوائية التكوين الإنساني للبلطجيان المحترفان وإرهابهما لأهل المنطقة، إذ يميل المجرمين دائماً الى التسميات التي تعطي انطباعا بالعنف. السيناريو المكتوب ليس به من الحرفية ما يحتم القراءة المنطقية وإن كان صاحبه قد رسم صورة غنية بالتفاصيل تمكننا من التعرف على هوية الناس العائشون خارج الدوائر الآدمية فهم أقرب الى الحيوانات المفترسة وواقعهم أشبه بواقع الغابة، والغريب أن هناك إجماع من كل الشخصيات على ملائمة هذا النمط الحياتي مع طبيعتهم وثقافتهم، بما في ذلك العناصر النسائية، التي مثلتها عايدة رياض أم شاهين المجرم ورانيا الملاح وأخريات ممن لعبن أدوارا ثانوية أو أدوار ثانية فقد لوحظ أن ثمة شراسة تتفوق فيها النساء على الرجال في المجتمعات العشوائية، فعلى سبيل المثال شخصية 'صباح' الراقصة عشيقة محمد رمضان ظلت مبهورة بإجرامه ومشدودة إليه كأنها مسحورة! ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن شخصية صباح هي استنساخ لشخصية 'صباح' التي جسدتها الفنانة هالة صدقي في فيلم الهروب مع الفنان الراحل أحمد زكي وهذا يقودنا إلى إشكالية تقليد رمضان لزكي ومحاولة استثمار أوجه الشبه المتمثلة في التقارب الشكلي والجسماني بين النجم العملاق والشبل الصغير وهي الصفات التي دائماً ما تشجع الأخير على الاقتداء بملك الأداء التمثيلي واستاذ التقمص أحمد زكي. الدور الفارق في بانوراما الدم والقتل كان للفنان أحمد بدير فقد برع في أداء دور الرجل الطيب المسالم البعيد عن شبهة البلطجة والمأسور في حي الجريمة رغم أنفه، ويعد هذا الدور هو شهادة التفوق الثانية لبدير بعد دوره في فيلم 'كباريه' الذي قدم من خلاله ايضا دوراً نوعياً مختلفاً عن بقية أدواره ربما يشابه الى حد كبير شخصيته في فيلم الألماني، ومع إن المساحة المتاحة له كانت صغيرة إلا انه اجتهد فيها اجتهادا يليق ببطولة مطلقة. جانباً آخر من شخصية شاهين أو الألماني وهو المجرم العتيد في الإجرام ظل غامضاً يظهر ويختفي دون الوقوف على حقيقة معينة تثبته أو تنفيه وهو البعد الرومانسي فلحظات الضعف التي كانت تنتابه من حين لآخر تجاه الفتاة التي يريد الارتباط بها وترفضه لسوء سلوكه أعطت ملمحاً مغايراً لطبيعته وفي نفس الوقت لم تكن دالة تماماً على أنه قابل للتأهيل النفسي والاجتماعي، خاصة في ظل استمراره فيما هو فيه من تشرد وضياع ولا مبالاة. لقد تسبب عدم الوضوح هذا في نوع من الارتباك الذهني لدى الشخصية الدرامية وأيضاً لدى المتلقي، فلم يتبين ما إذا كان البطل لا يزال يحمل بقايا سمات الطيبة، وبالتالي يمكن التعامل معه باعتباره ضحية أو أنه مجرم مفقود الأمل في إصلاحه ولا جدوى من التعاطف معه. اعتقد ان هذه الجزئية مثلت نقطة ضعف في السيناريو لا سيما أن الإخراج لم يفلح في معالجتها. وعلى أي الأحوال لم يكن الفيلم سيئاً بل انه كان كاشفاً لبؤر الخطر البعيدة عن محيط الأنظار والمتوارية خلف كثير من الأسرار.