يوظّف المشتغلون بعلم الاجتماع مفهوم 'الجَيْب' في محاولة منهم لفهم الإحداثيّات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والنفسيّة المحيطة بظاهرة 'الاصوليّة الدينيّة' الحديثة. وعلى الرغم من قدرة مفهوم 'الجيب' على الإيحاء بالتقوقع والانزواء، فأنّ التقوقع والانزواء، وحدهما، لا يُلخصان 'الجيب' ولا ثقافته، ف'الجيب' هو مفهوم اوسع من مجرّد التقوقع أو الانزواء. إنّه حالة أشبه ما تكون ب'الغيتو'؛ 'غيتو' روحيّ وثقافيّ وربما اجتماعيّ واقتصاديّ أيضاً. 'الجيب'، هنا، هو ذلك المجتمع الصغير الذي تبتنيه 'الجماعة المؤمنة'، أو 'الجماعة النّاجية' أو'المستضعفون' أو 'النخبة المختارة'، داخل بطن 'المجتمع المركزيّ' أو بين ثناياه. وهي،أيّ 'الجماعة'، إذ تُقيم داخل ذلك المجتمع، فإنّها تضرب سوراً واقياً حول نفسها يعزلها عنه. هذا السور، أو الحائط أو الحزام الواقي، ُيحصّن الجماعة من أمراض 'المجتمع المركزيّ' ويمنحها المناعة ضد فيروساته. يُسمّي ايمانويل سيفان، صاحب أطروحة 'الجيب'، هذا السور ب'حائط الفضيلة'. فأحجار هذا الحائط هي قيمّ وأخلاق وطقوس. وتسّتمد 'الجماعة المؤمنة'، المقيمة في 'الجيب' طاقتها وحيويَتها وقوتها الدافعة من إيمانها ويقينها بأنّها تحمل 'رسالة'سامية خُلاصيّة. و'الجماعة' تتغذى على الخوف من 'الآخر' والتهدّيد الذي يمثّله. لهذا، فهي تخوض حربها 'المقدّسة' ضدّ نمط حياة 'المجتمع المركزي' وثقافته، من جهة، وضدّ مؤسسات 'الدولة' وبُناها ونظمها، من جهة اخرى. وتخبو تلك الحرب أو يزداد أوارها تبعاً للظروف المحيطة. في العالم العربي، تُقدّم تيارات دينيّة ك'التكفير والهجرة' في مصر، 'أنصار الشريعة' في تونس، 'الصّراط المستقيم' في المغرب والطيف الواسع من التشكيلات المختلفة ل'السلفيّة الجهاديّة' في كل من ليبيا والجزائر واليمن، أمثلة حيّة على 'الجيب' وثقافته. غير أنَ النموذج المثاليّ، الذي طغى على ماعداه، تمثّل في بعض التشكيلات المسلّحة الموجودة في شبه جزيرة سيناء. فالتقارير الواردة من هناك، كتقارير وكالة الاسوشيتدبرس تحديداً، تتحدّث عن جماعات تعيش 'حياة سريّة منعزلة'، 'ترفض إرسال ابناءها الى المدارس'، 'لا تأكل اللحم إلاّ الذي يذبحه اتباعها فقط'، 'وهم لا يذهبون الى صلاة الجمعة مع باقي المسلمين ويعتبرون أئمّة المساجد هراطقة' بل أنّهم ' لا يرون الناس ...ويرفضون حضور جنازات والديهم ويصفونهم بالكفّار'. واذا كان أن انتشرت جماعات 'أصوليّة' مثيلة- لم تختزن نفس المقدار من العنف- في الغرب العلمانيّ المتقدم، فإنّ انتشارها جاء، في طور أول، على قاعدة التراجع الكبير الذي عاشته الكنيسة عقب تصادمها مع 'فلاسفة الأنوار' الذين دعوا الى 'عصر العقل' إثر قيام محاكم التفتيش الكنسيّة بإدانة غاليلو غاليلي على اطروحته القائلة بأنّ الأرض تدور حول الشّمس. وجاء انتشارها، في طور ثان، نتيجةً للتهديد الذي رأته تمثّلَ في فصل 'الدينيّ' عن 'الدنّيوي'، أو فصل الدين عن الدولة؛ الإجراء الذي لجأت اليه الثورة الفرنسيّة إثر قيام 'الحروب الدينيّة' بتدمير نسيج المجتمعات الاوربيّة. أمّا في طورها الأخير، فقد جاء انتشار تلك الجماعات بسبب انحسار الثيولوجيا المسيحيّة ونظرتها الكونيّة أمام اندفاعة الثقافة العلميّة والاطروحات الفلسفيّة للفيزيائيين الجدد، من جهة، وبسبب تفكّك العائلة وتوسع صناعة 'البورنوغرافي' وطغيان الليبراليّة الجديدة، من جهة أخرى. غير أنّ التجربة العربيّة مختلفة. فلا يمكن إدارة الكلام حول 'الجيب' وثقافته، في سياقه العربي، بمعزل عن الكلام على 'الحداثة المزّيفة' والعلمانيّة المشوّهة واقتصاد السوق وثقافة الخرافة. فمن المعرّوف أنّ التأريخ للحداثة العربيّة ارتبط بالغزو الاستعماريّ، فلقد جاءت 'الحداثة' الى الشرق العربيّ ممتطيةً صهوة جواد نابليون. أمّا في عصر مابعد الاستعمار، فقد عكفت ماعُرف بأسم' الدولة الوطنيّة الحديثة' على استيراد وتّسويق مثال، أو 'نموذج' حضاريّ، 'حداثيّ' شكلاً و'قروسطيّ' فعلاً. فلقد أُختّصرت الحداثة في نمط حياة استهلاكيّ بدائيّ، على مستوى الاقتصاد، وبنية أمنيّة قمعيّة، على مستوى السياسة، وفكر خرافيّ، على مستوى الثقافة. فكانت الحصيلة، على المستوى الاقتصادي، 'نموّ بدون تنمية'. أمّا على المستوى السياسيّ، فكانت الحصيلة أنّ العالم العربي انتهى الى تسّيد عقليّة أمنيّة مخابراتيّة تُدّير كلّ شيء فيه. فلم يشهد العالم العربي حتى ماشهدته افريقيا من انفتاح سياسيّ وتعددّية حزبيّة وحرّية فكريّة وثقافيّة، في سياق ما عُرف ب'الموجة الديمقراطيّة الثالثة'، سنوات 1990. أمّا على مستوى الثقافة، فلم تعمل المدرسة أوالمؤسسة التعليميّة على تطوّير أساليب التفكير النقدّي أوالابداعيّ أوالعلميّ، فتحوّل 'العقل العربيّ' الى مخزن عتيق للخرافات المتوارثة والمقولات الجاهزة والشعارات المعلّبة. بلغة أخرى، انتهت التجربة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة للانّظمة العربية، تحت مسمياتها المتنوّعة، الى مسعى'ُيغرّبن' الشّرق دون أنّ يُحدّثه، أيّ أنّه انتهى الى نموذج 'غربيّ' مزّيف: شيخ قروسطيّ بقبعة حديثة. في هذا النموذج الحداثيّ المزّيف، الذي انتشرت على أرصفته عطور 'شانيل' ومنتجات 'لوريل' وسلسلة 'ماكدونالدز' جنباً الى جنب مع 'الكتب الصفراء' وثقافة الخرافة والقرى السياحيّة الفارهة المخصّصة للأغنياء، ازداد إحساس قطاع واسع جداً من المجتمع بالاغتراب والاستلاب والتهميش والضياع، فصار الهروب من العالم الفعليّ الى 'الجيب' حلاً خُلاصيّاً وحيداً. من المعروف أنّ التأصيل 'الفقهيّ' والفكري لأطروحتيّ 'الفرقة المؤمنة' و 'المجتمع الجاهليّ'، المعادل العربيّ لثقافة 'الجيب' الغربيّة، تمّت على يدّ سّيد قطب. اندلاق بعض 'العنف الدينيّ'، الآتي من 'الجيب'، في كلّ من ليبيا والعراق واليمن ومصر ولبنان والجزائر والمغرب، الى الفضاء المجتمعيّ العام، أخيراً، يؤشّر الى دخول 'الجيب' وثقافته طوراً جديداً؛ وهو طور يستدعي التوقف عنده ودراسته. فإذا كان فشل بعض التيارات الدينيّة في مغادرة 'الجيب'، حتى بعد وصول بعض التيارات، التي تغذّت على 'المنهج القطبي' نفسّه، الى سدّة الحكم، هو من المواضيع التي تستدعي التأمّل، فإنّ استفحال ظاهرة 'الجيب' وانتشارها، كالفطر، حتى في الدول التي يحكمها الإسلاميّون، هو من المواضيع التي تستدّعي دقّ ناقوس الخطر. فقد يصحو العالم العربيّ ذات يوم على المجتمعات العربيّة وقد باتت...'جيوبا'. القدس العربي