عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات فلسفية في ثورات الغضب والياسمين..بقلم :إسماعيل مهنانة
نشر في حريات يوم 06 - 02 - 2012


إسماعيل مهنانة..
لماذا تفشل مشاريع التحديث في “العالم العربي والإسلامي"؟، لماذا تقاوم الثقافة العربية موجات الحداثة المختلفة؟، هل ثمة تعارض بنيوي بين هذه الثقافة والمشروع الحداثي في صيغته الغربية؟ وهل ينجح تحديث الاقتصاد والمؤسسات السياسية دون تحديث بنيوي للثقافة والمجتمع كما يحدث في دول الخليج؟، وبالمقابل هل تستطيع الدولة تحديث المجتمع وعلمنته كما فعلت تركيا؟ وهل للتجربة التركية حدود تنتهي عندها؟
ألا يمثل “حزب العدالة والتنمية" حدودا للتجربة العلمانية في تركيا؟ ثمّ أليس للبلدان العربية تجارب مختلفة في تلقّي الحداثة الغربية؟ ألا يجدر بالباحث متابعة السيرورة التاريخية لكل بلد على حدة بدل التعميم المغفل للتفاصيل؟ ألا يمثل كل بلد مخبرا مفتوحا لتجربة تحديثية ثرية فريدة من نوعها؟ وهل تؤدي الديمقراطية فعلا إلى صعود الإسلاميين إلى الحكم، وهم آخر من يؤمن بالديمقراطية؟
كل هذه الأسئلة وغيرها أضحت فجأة تمارس علينا ضغطا استثنائيا هذه الأيام، وبعيدا عن تسارع الأحداث والتغيّر اليومي، يبقى السؤال الثابت من صلب التفكير الفلسفي الذي يتجاوز اليومي إلى الكوني والتاريخي، فالرهان حاليا يدور حول كلّه “المصير" واتجاه التغيير، كلنا يتفق على التحديث والحداثة، ولكن الحداثة كصيرورة تاريخية، وكسؤال فلسفي تغيب في لجة الأحداث المتسارعة، رغم أن “التغيير" الذي ترفعه الثورات من مهام الفكر، التغيير هو الفكرة تقودها القوى الاجتماعية الفاعلة، وكما يقول مطاع الصفدي “..مع الحداثة تمّت أنسنة الصيرورة، انتزعت من خامتها الانطولوجية الحيادية، وجُعل التاريخ يمتطيها ويقودها لحساب تجاربه الكبرى، ولاشك فإنه مع الحداثة غدا الفكر هو التغيّر".
إن الحداثة هي تيار جارف يأتي على كل ما هو جامد ومتكلّس، نقض مستمرّ للبداهات والاعتقادات، فمن نقض غاليلي للكون البطليمي، إلى نقض دراوين لهرمية الحياة التي تجعل من الإنسان قفزة نادرة فوق تطور الحياة، إلى “الجرح النرجسي" الذي سببه فرويد لمركزية الوعي والمركزية العقلية، كل هذه الثورات الحداثية دمرت العقائد الثابتة للإنسانية، وكما يقول هاليدي: “لقد حفرت الحداثة قبرا لشيوعية جامدة، لكنها لم تفعل الأمر نفسه حيال رأسمالية دائمة التغيّر" .
ومع ذلك ففي العالم العربي تبدو كل هذه الثورات الحداثية قد مرّت فوق السماء ولم تمطر بشيء مهمّ، إلا بعض محاولات التحديث السياسي، التي لم تصمد منها سوى تجربتين متناقضتين: فالأحداث المتسارعة تكشف؛ أن ثمّة نموذجين كبيرين في بناء الدولة العربية الحديثة؛ وكأنهما يتنافسان في استقطاب العالم العربي: نموذج “الدولة التيوقراطية" في إيران، ونموذج الدولة العلمانية في تركيا، وهما سيرورتان تاريخيتان في الاتجاه المعاكس، إن ما يبدو مثيرا في هذين السيرورتين ليس تعارضهما الصارخ، بل تفرّد التجربة لكليهما، ليس التناقض بينها، بل تناقضات كل تجربة على حدة، وإن الأكثر إثارة وطرافة هو ما تكشفه التجربتين من مدى تغلغل السياسي في صناعة الثقافي، بل تغيير الهووي نفسه.
وهي مسألة فلسفية عميقة تعيد طرح حدود كل تجربة، إلى أي حد يمكن للسياسي أن يوجّه الثقافة والمجتمع؟ وما هي حدود المقاومة التي تبديها الثقافة والمجتمع للمشروع والسياسي؟ وما هي النماذج الثقافية/السياسية التي يمكن أن تنبثق عن هذا الصراع المحموم؟
تمارس هذين التجربتين جذبا لاشعوريا لكل الأقطار العربية، وقد أصبح واضحا الآن أنه لا يمكن فهم تجربة الحداثة في العالم العربي إلا في ضوء هذا الصراع بين البنية الدينية للمجتمع وبين الالتزامات الدولية “العلمانية" للدولة، كما أن الحكم على نجاح التجربتين الإيرانية والتركية محكوم بقدرة السياسي على تخطّي الثقافي، وبالمقابل لن يكون الفشل إلا “عودة المكبوت" الثقافي على سلطة السياسي، في تركيا، أو “انفلات الفردية" من قمع التنميط الديني، في إيران، أي تمرد الجماهير وخروجها من قمقمها، وقد تكون “لسوسيولوجيا الإخفاق" la sociologie d'échec التي أسسها بيار بورديو فائدة قصوى لفهم التجربتين، كما أن ما يحدث في تونس ومصر هذه الأيام، وما سيطال بالضرورة أقطار عربية أخرى، لا يمكن تقييمه أو الحكم عليه الآن بسبب كثافة الأحداث التي تحجب الرؤية.
بين تركيا وإيران تتسم المنظومات السياسية/الثقافة العربية؛ بهذا التراوح المتفاوت بين “الدولة العلمانية" والدولة الكهنوتية"، بل يمكن بسهولة بالغة وضع سلم ترتيب يربط طرفي التجربتين بكل البلدان العربية على أساس الاقتراب والابتعاد من أحد طرفي المحور، والتقارير السنوية للمراصد والهيئات العالمية للديمقراطية وحقوق الإنسان، تكشف في كل مرّة تفاصيل مثيرة لهذا الجذب، بين دول “منغلقة" ودول “منفتحة".
فقد أصبح واضحا كذلك أن دمقرطة النظام السياسي لوحده لا تجدي أي نفع؛ ما لم ترافقها عملية نقدية شاملة تمس نظرة الناس للعالم والتاريخ والسياسة وتقوية المجتمع المدني والمؤسسات العلمانية.
وبلغة أكثر تبسيطية نقول أنه في الوقت الراهن، بل وحتى مستقبلا بعشريات من الزمن فإن أي انتخابات ديمقراطية حقيقية ستقوم في مجتمع عربي تكون نتيجتها معلومة مسبقا: إما صعود الأحزاب الدينية إلى السلطة وإما انفلاق الطائفية،وتفكك الدولة، في كلتا الحالتين انهيار الديمقراطية والحريات العامة، ودخول النظام السياسي في صراع مع المجتمع المدني والدولي معا، والأدهى من ذلك أن معظم الأنظمة العربية تستمد مشروعيتها من هذه الحقيقة الظرفية التي حولتها الدعاية إلى عقيدة سياسية لدى الغرب، فالغرب يفضل بقاء هذه الأنظمة الديكتاتورية “المعتدلة" على المخاطرة بانتخابات حرة تفرز عن صعود أنظمة كهنوتية.
كما أن الأحزاب الدينية نفسها تستمد شرعيتها وشعبيتها من هذه النظرية التي تقرأها كنظرية مؤامرة بين الغرب والأنظمة القائمة، وتجلب عطف الجماهير الناقمة بإعادة تخريج هذه النظرية على عدة نسخ، فكلا اللاعبين السياسيين إذن يستمد مشروعيته من الآخر في غياب المشروعية الحقيقية، وفي نهاية كل تحليل لهذا الدور نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة تتوقف عندها كل حداثة سياسية، وتكمن أهمية ثورة الياسمين التونسية؛-ورهانها الحالي في كونها كسرت هذا الدور، وابتدعت طريقا ثالثا للفعل التاريخي.
ولمن لا ينسى التاريخ، فإن من يؤكد هذه الحقيقة هو كاتب مثل جايمس غلاسمان الذي شغل منصب مستشار وزارة الخارجية الأمريكية في إدارة بوش الإبن، في مقال بعنوان: “كيف نكسب معركة الأفكار" حيث يقول: “أما الصراع الثاني، فهو صراع أكبر و يتضمن الصراع ما بين المجتمعات الإسلامية وحكوماتهم حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، خصوصا حقوق المرأة. إن العديد من الحكومات العربية ترفض ما يطلق عليه الناشط الحقوقي المصري سعد الدين إبراهيم " البنية التحتية للديمقراطية" والتي تتضمن حكم القانون والقضاء المستقل والإعلام الحر والمساواة بين الجنسين والمجتمع المدني المستقل. إن أساسيات الحرية هذه أكثر أهمية من البطاقات التي تلقى في صناديق الاقتراع، كما شاهد الأمريكان ذلك من خلال تصرفات “نظام حماس" في غزة.
ثمة تحدّ آخر يطرح على هذين اللاعبين الأساسيين، وهو التحولات الجذرية العميقة التي أصبح التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات تفرضها مباشرة على المجتمع، دون المرور بوساطة الدولة أو وصاية رجال الدين، وخاصة الإنترنيت، لقد قطع أجيال الألفية الثالثة كل صلة تقريبا بعالم آبائهم البطيء، والمليء بالحكايات الحميمية،أو ما يسمّيه “أركون" بعالم القصص-الأسطوري، الذي تستمد منه الشعوب المتدينة رؤيتها للعالم وتفسيرها للوجود والتاريخ.
عالم هؤلاء الشباب يأتيهم مباشرة بالصوت والصورة من كل نقطة في الكون، وبقدر ما يفصلهم عالمهم عن عالم آباءهم، يفصلهم عن أنفسهم، عن ثقافتهم، وبعض مكونات هويتهم، وهو ما يدخلهم في صراع وتمزق بين ذواتهم وعالمهم، ويجعلهم في حالة دائمة من المصالحة بين الذات والعالم، ينعكس هذا الصراع الخفي في شكل تصدعات خطيرة داخل المجتمع، إننا نلحظ أعراضها بالعين المجردة: فأكثر هؤلاء الشباب يتحول من حياة اللهو والمجون إلى التطرف الديني، وفي كل مرة نجد أن السياسي يتغلغل إلى داخل هذا الصراع بين الذات والعالم وخاصة في أنظمة شمولية.
فلا شك أن الأنظمة الشمولية ستقمع منذ البدء مثل هذا النمط من الحياة المتحررة، وذلك طبعا باسم الدفاع عن المجتمع والقيم الدينية والأخلاقية، وذلك بفرض الرقابة على دخول المواقع الإلكترونية ومضايقة المدونين، وستلجأ إلى إطلاق القوى الرجعية والدينية من عقالها وبثّها داخل الأوساط الشبانية ذاتها، وهو ما يحدث الآن في أغلب بلدان العالم الثالث، فقد تمّ نقل الشمولية من الدولة إلى المجتمع، وهي أخطر عملية ارتدادية يتعرض لها التحديث في هذه المجتمعات، “إيران، السعودية، مصر، الجزائر...".
أما عمل الشمولية في العالم المتقدم فيبدو معاكسا: نقل الشمولية من المجتمع إلى الدولة، فتتجه هذه الدول نحو “الثورة الأمنية"، حيث تتغلغل الأجهزة الأمنية إلى عمق المجتمع وتسعى إلى تنظيم حياة الأفراد، وتوجيه أفكارهم وجهة تخدم الأمن العام، بالضبط كما يحلل فوكو آلية السلطة الحيوية le biopouvoir، وكما يقول مطاع صفدي، ف"إنه في اللحظة التي توفر فيها التقانة أرقى الجاهزيات الالكترونية لتعميم المعلومات، وتسهيل وسائط للتحاور بين شعوب الأرض كافة، مما يفترض قيام أسس موضوعية لحالة تواصل كونية فريدة من نوعها وشموليتها، في هذه اللحظة التاريخانية حقا، يقع اشدّ انفصام بين المدنية ودائرة الثقافويات الشعبوية" .
لقد فرضت العولمة حالة غريبة من التعايش المرَضي بين الذات والعالم، بين الخصوصيات الثقافية والدينية والإثنية وبين الكوني بوصفه الأفق القيمي المشترك للعالمية، وهي حالة سقوط العقائد واحدة تلو الأخرى وحتى الإيديولوجيات والعقائد الجديدة لم تعد تعمّر كثيرا، إنه كما يقول إدوارد سعيد: “مع الاستنفاد الفعلي للأنظمة الكبرى والنظريات الكلية “الحرب الباردة، اتفاق بريتون وودز، الاقتصاد السوفييتي والصيني الجماعيان، قومية العالم الثالث المناهضة للإمبريالية"؛ ندخل في مرحلة جديدة تمتاز باللايقينية الهائلة" .
تلقي هذه اللايقينية بكلكلها على كل المجتمعات في العالم، وهي ليست حالة من الشك الفلسفي الخلاق، بل من التقهقر بسبب تهاوي العقائد الكبرى، وفقدان الإيمان بالقيم الكونية التي تكذّبها يوميا ممارسات السياسة، في مقابل ذلك لا يبدو الفرد مهيّأ كفاية لتحمّل مشروع الفردنة الذي حملته الحداثة الرأسمالية للغرب، والنتيجة هي تقوقع الجماعات البشرية على هوياتها الضيقة، وادعاءات زائفة بامتلاك الحقيقة، تكون أولى نتائجها ما حدث في 11 سبتمبر 2001، في منهاتن، وكما يقول ف. هاليداي: “.. يمكن أن ينظر إلى صعود حركات الاحتجاج الإثني والقومي، والهويات الطائفية الضيقة كتمرد ضد العولمة وكمكون من مكوناتها على حد سواء" .
إن التشخيص الأولي لما حدث في 11/09 يكشف أن خللا بنيويا أصاب ثقافة العالم الإسلامي والنظام السياسي العالمي معا، فالنسبة لباحث أفنى حياته في متابعة الخلل الذي أصاب العقل الإسلامي مثل محمّد أركون: “يشير حدث 11 /9 إلى مسارات مظلمة لتمثّلات قديمة جدا لا تنفذ مطلقا إلى حقل الوعي المتفكّر، بل تترابط وتنتشر بمساعدة خطاب قصصي-إيديولوجي قوي على حد تعبير كلود ليفي ستروس... وموجود بين الأنقاض الحجرية لخطاب اجتماعي قديم.
هذا “الخطاب الاجتماعي القديم" هو خطاب القرآن مصخّما، وتتجاوب أصداءه في الإيضاحات اللامتناهية للمفسّرين الشعبويين، الذين يقذفون بالمخيالات المعاصرة نحو المنزلقات الأشد خطورة" ، أما الخلل البنيوي الثاني والخاص بالنظام العالمي، فلا يمكن فصله عن خلل الثقافة العربية، لأنه يكرس احتكار القرارات المصيرية في مجلس الأمن منذ 1945، من خلال بروتن وودز وحق الفيتو.. والتحيّز في الصراعات مثل التحيّز لإسرائيل في الصراع العربي-الإسرائيلي، وكما يقول مطاع صفدي: “فإنها خوصنة الاستيلاء على/والانفراد بصناعة مستقبل الإنسانية مجددا، ولكن هذه المرّة، باستبعاد غالبية الإنسانية، بقية العالم، من أي دور فاعل، وحصرها وانحصارها في دائرة المنفعل والمتقبّل المقصي والمحروم من أية صيغة اعتراف" .
في عالم معولم مثل عالمنا، يتغذى التطرف من بعضه البعض، وينفرط صوب كل الاتجاهات، فالتدين يعود في قلب أوروبا العلمانية، صعود الأحزاب اليمينية في أوروبا؛ ليس مفصولا عمّا يحدث في ثورات العرب والفرس، فالخوف يغزو أوروبا ويفقدها يوميا الثقة في “أساطير العلمانية" التي اختصرها ماكس فيبر في كلمة “نزع السحر" désenchantement.
وقد لاحظ أركون بدقة عودة المكبوت الديني، فيما سمّاه التدين الوهمي، ووصفه بقوله: “..ليس التديّن التوهّمي بأقل انتشارا ووطأة في المجتمعات المسمّاة حديثة، حيث يزدهر الوعّاظ التليفزيونيون الإنجيليون والتوراتيون، دون الأداء الوظيفي لكبش المحرقة في الخصومات التي تتحرك في جو المحاكاة الميكانيكية هو ما يغذي في كل مكان، وكما في الأزمنة السحيقة، الأشكال الحالية لجنون العنف التضحوي الذي أصبح عنفا عالميا" ، لا شك أنه ليست إسرائيل وحدها معنية بما يحدث، بل الغرب بأسره يترقب يوميا.
وبعيدا عن اللباقة الدبلوماسية المساندة لمطالب الشعب، والموجهة للاستهلاك المحلّي،فإن إمكانية بروز أي صوت نقدي أو مستقل سواء في السياسة أو غيرها، يعتمد على القدرة على التمييز بين الموثوقية reliability ونوعية المواد المختلفة، إذ أن وسائط المعلومات السريعة superhighways هي أيضا ساحة للنفايات الإعلامية، وحين تختلط الأشياء ببعضها فإن مطلب المسؤولية السياسية الاجتماعية يصبح أكثر صعوبة" ، ومما لا شك فيه، فإن الغرب حاليا يعيش حالة استيعاب وترقّب للمفاجأة، وبعد سنة لن يكون سلوكه اتجاه العالم العربي هو نفسه عمّا سبق من قرن.
لم يعد تحديث المجتمعات العربية مهمة الحكومات العربية لوحدها؛ بل أصبح همّ الدول الغربية كذلك، خاصة بعد تفجيرات نيويورك في 2001، فقد اكتشف العالم الغربي حينها، أن للعولمة الغربية “حدود دامية" هي نفسها كان قد سمّاها “صامويل هتينغتون" “الحدود الدامية للإسلام"، وأن العملية العسكرية والثورة الأمنية لوحدها لا تتجاوز هذه الحدود ولن تفتح أبواب العالم الإسلامي أمام العولمة الأميركية، بل يجب إجراء تحولا جذريا في مفهوم الحرب نفسها.
إنها كما يقول أركون: “بعد 11/09 لم تعد وظيفة الحرب هي في تدمير العدو، إنها، وهنا المفارقة، ما يحكم إصلاح العدو، حتى بإعادة خلقه تقريبا، بما أنها تتجه، أولا وقبل شيء، نحو استباق معرفة ولادته الممكنة؛ وجعل هذه الولادة مستحيلة.... فالحرب قد أصبحت استباق نشط للنيات السيئة" ، مبكرا كانت الإدارة الأمريكية قد اكتشفت أهمية الرهان على معركة الأفكار، وتصريح جايمس غلاسمان في مقالة “كيف نكسب معركة الأفكار" يقول: عندما عملت كوكيل لوزارة الخارجية للدبلوماسية العامة فقد حاولنا أن نحقق أهدافنا المتعلقة بحرب الأفكار بطريقتين: الأولى، من خلال تخذيل وتقويض الأيدلوجية التي تقف وراء التطرف العنيف، وفي نفس الوقت توضيح ودعم البدائل الحرة.
والطريقة الثانية، هي من خلال تحويل الشباب من إتباع الطريق الذي يؤدي إلى التطرف العنيف، إن العامل المشترك الموجود لدى جميع المجموعات الإرهابية في واقع الأمر هو استغلال عنصر الشباب الضعيف والمعزول والذي يلقن لكي يصبح قوات الصدمة لدى هذه الحركات...، وقد بات واضحا كذلك أنه لا حملات التحسيس الإعلامي، ولا حتى الهجوم الإعلامي على الثقافة الإسلامية، يمكنها لوحدها أن تنجح في تحييد الشباب عن خط السلفية الجهادية التي يتزعّمها أسامة بن لادن، بل أدهى وأخطر من ذلك.
إن خط الإسلام المعتدل الذي تصنّعه معظم الحكومات العربية والإسلامية في جامعاتها ومؤسساتها الإعلامية، أصبح عاجزا عن استقطاب كل الشباب وتفويت الفرصة أمام التطرف، فأين الخلل؟ لماذا لا يزال تنظيم القاعدة ينجح في تجنيد المتطرفين؟ ألا يمكن أن نفترض أن القاعدة تستثمر في بنية قصصية-إديولوجية موجودة أصلا في الوعي الديني العربي؟
لقد تحولت القاعدة “الجبهة العالمية للجهاد ضد الصليبيين واليهود" من تنظيم عسكري مركزي الأوامر، وموحّد الوسائل، إلى خط إيديولوجي عالمي يجلب إليه المنتسبين من كل أقطار العالم ممن لهم سخط على أمريكا، يحلل أركون الوضع بقوله: “ثمة عملية تنظير مبتسرة تجمع ما كان حتى الآن متشظّيا على شكل أعداء كثر فوق المسارح المحلية للنضالات القومية في عالم واحد معولم، ويرتفع في الذهن غرب ليأخذ شكل قطبية متراصّة تصبح تحالفا للشرّ بين “صليبيين مسيحيين" و “يهود صهاينة" وهو ما يحدد جبهة عجيبة" .
والإدارة الأمريكية تدرك ذلك، وهي تقسم صراعها ضد الإرهاب إلى صراعين:
الصراع الأول يتضمن مجموعة صغيرة من الرجعيين العنيفين تقودهم القاعدة وطالبان، ومجموعات متحالفة معهم، وهم يحاولون من خلال الوحشية المرعبة جذب ما يزيد عن مليار مسلم إلى خط استبدادي شمولي، وهو خط لا يتفق مع تعاليم الإسلام.
أما الصراع الثاني فهو صناعة الثقافة والرأي في العالم العربي بما يتماشى مع الرؤية الأمريكية للعالم والتاريخ والإنسان،إن معظم جهود الدبلوماسية العامة ركزت في الماضي على صورة أمريكا وحدها فقط، و كيف ينظر الآخرون إلى أمريكا و لكن حاليا، وفي حرب الأفكار، فإن مهمتها الأساسية لا تتمثل في كيفية إصلاح نظرة الآخرين للولايات المتحدة ولكنها تتمثل في كيفية عزل وتخفيض تهديد التطرف العنيف، أو بالأحرى فإن الموضوع يتعدّى مجرد الفعل الدبلوماسي، إلى مشروع تواصلي يرفع شعار الكونية، أي كونية النظرة الغربية للعالم والتاريخ والإنسان، إن حقيقة أن الديمقراطيات تزدهر في المجتمعات المسلمة – مثل تركيا و اندونيسيا- تعتبر بمثابة نفي قوي بأن الإسلام و الحرية السياسية لا يمكن أن يتعايشا، وهو ما يجب أن تأخذه أمريكا في الاعتبار من أجل التواصل مع العالم العربي.
إن الطريقة الأفضل للتواصل تتم من خلال توليد حوار عميق وواسع، إن دور الولايات المتحدة في هذا الحوار يتمثل في التيسير والتنظيم، يقول غلاسمان: “إننا نطلق هذا الحوار اعتقادا منا بأن وجهات نظرنا سوف تسمع وحتى لو لم يكن ممثلو الحكومة الأمريكية هم من يطلق وجهات النظر هذه بشكل دائم،إن تقوية المجتمع المدني والحس السياسي، هو الضامن الوحيد للمجتمعات العربية من السقوط في مخالب الديكتاتورية، والمطمئن لمخاوف الغرب من انتشار التطرف الديني وتحكّمه في هذه المجتمعات.
وحسب صفدي: “فما سوف يسمّى بالمجتمع المدني، هو صناعة عقلانية حضارية، وجهد إرادي فردي جماعي، لا تمليه أية هوية ميتافيزيقية، ولا تنتجه بالضرورة لطبيعة قبلية، أو تبدعه عبقرية متعالي، لتثبيت شخصية للأمة، محروس أولا باختلافيتها التمييزية"
إن الفرصة تاريخية لكل الأطراف، لإرساء ما سمّاه محمد أركون “صوابية سياسية للعقل" في آخر كتاباته “من منهاتن إلى بغداد" حين قال: “إن نهاية الإرهاب تتوقف على صوابية سياسية للعقل على المستوى العالمي" ، وقد مات أياما قليلة قبل اندلاع ثورة الياسمين، مثله مثل الكثير من أبناء جيله؛ من المفكرين ممن قضوا قبل رؤية ما حلموا به طوال نضالهم؛ يتحقق، وقد أردت أن أرفع هذه التأملات عرفانا لذكرى هؤلاء: أركون، نصر حامد أبو زيد، الطيب صالح، الجابري، والكثير ممن حلم برؤية الياسمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.