من يزور شرق السودان تسترعي انتباهه الكثير من المظاهر الاجتماعية والموروثات التي ظل يفاخر بها اهل هذا الاقليم الذي تشكل قومية البجا اساسه، ومن ابرز التقاليد التي ظلت راسخة رغم تعاقب الاجيال والعقود والقرون واجتياح روح العصر للشرق، طقوس شرب القهوة او «الجبنة» التي تشكل جزءاً من التكوين النفسي لانسان الشرق الذي بات يرتبط بها وجدانياً ويرفض فض هذه العلاقة حتى لو هاجر الى اقاصي الارض، ومن تتاح له فرصة التجوال في الساعات الاولى من اليوم بمدن الشرق الكبرى مثل بورتسودان وكسلا والقضارف، يلحظ توافد السكان على المقاهي وهي محال تقدم القهوة والشاي، وتتفاوت في درجات تصميمها وأشكالها بين المتطورة والعادية، وتنتشر بصورة واضحة في كل مدن الشرق، ويرتادها عدد كبير من المواطنين لشرب القهوة قبل التوجه لأماكن اعمالهم، وعندما ترى شرقاوياً أو حتى أحد أولئك الذين استوطنوا في الشرق الذي وفدوا اليه من مناطق مختلفة بالبلاد وهو يحمل القهوة في يده ويرتشف منها «بمزاج» سرعان ما تجول بخاطرك الأغنية التراثية التي ترددها فرقة عقد الجلاد، ويخالجك احساس بأن من يشرب القهوة يترنم بها حسبما تشير تعابير وجهه المنشرحة: يا بنية سوي الجبنة فوق ضل الضحاوية سويها الجبنة التسويها حالف ما بخليها بي شماله فنجان جبنة بي شماله يسوي الدنيا بي حاله ولشرب القهوة عند سكان الشرق طقوس خاصة يتمثل أبرزها في تفضيل الرجال الذين يتناولونها في الاسواق الجلوس في اوضاع محددة ويشربونها في أوانٍ أيضاً لا يفضلون تغييرها، ويقول حامد أوشيك وهو من مواطني ولاية البحر الأحمر التقته «الصحافة» بإحدى المقاهي المنتشرة في سوق ديم عرب ببورتسودان، إن إنسان الشرق يضع للقهوة اعتباراً خاصاً، وإنه يستمد هذه الخصوصية من موروثاته، مشيراً إلى أن أوضاع شرب القهوة لدى الرجال تنقسم الى ثلاثة، وزاد قائلاً: نفضل شربها ونحن جلوس على الأرض عند الذين يصنعونها من الرجال وهم ماهرون في ذلك، ويعملون على جذب الزبائن بفرش البروش على الأرض ووضع حافظة مياه، اما الوضع الثاني فهو الجلوس على «البنابر»، وأخيراً يفضل البعض تناولها وهم جلوس على «العناقريب»، أما الطالب الجامعي بالخرطوم حسن محمود فيقول إن إنسان الشرق عندما يهاجر الى مدن داخل البلاد أو خارج السودان يفتقد طقوس القهوة التي يمارسها بالشرق، لذلك يفضل الكثيرون شربها في أماكن سكنهم أو في المقاهي التي تتوافر فيها بعض المظاهر التي تصاحب شرب «الجبنة» بالشرق، وقال إن معظم أهل الشرق بما فيهم المثقفون يرفضون الجلوس على الكراسي وشرب «الجبنة» في «كباية»، وذلك لأنهم يفضلون الجلوس على البنابر او المقاعد المنخفضة وتناول القهوة في فنجان. وقال إن بعض أهل الشرق لا يميلون كثيراً لشرب القهوة لدى بائعات الشاي بسبب اعتقادهم أن الرجال العاملين في الأسواق يجيدون صنعها أكثر من النساء، ويرى آدم أوهاج أن شرب القهوة في فنجان وجلوس من يتناولها على الأرض أو برش يمثل طقساً خاصاً يحرص حتى الجيل الجديد من أبناء البجاء على ممارسته، وقال إن هذا الأمر يشعرهم بالفخر، وذلك لأنه يؤكد تمسك أهل الشرق بموروثاتهم وتقاليدهم.