. سحر كل هذه العناوين الجذابة القادمة من بنوك التفكير العالمية تحت عنوان التسوية التوافقية، يمكن أن تنسف في لمح البصر د.الشفيع خضر سعيد لسنا بصدد إكتشاف مذهل إذا قلنا أن المجتمع الدولي يضع نصب عينيه أهدافه العامة ومصالحه الخاصة وهو يرعى التفاوض بين الأطراف المصطرعة، في السودان أو في غيره من بلدان العالم. فهذا أمر طبيعي ومفهوم تماما في سياق لعبة المصالح، وفي سياق أن تلعب مكونات المجتمع الدولي لصالح مصالحها العليا أو الدنيا. أما من جانبنا، فأعتقد من الطبيعي أيضا تفهم أن الدافع الرئيس لهذه المكونات هو مصالحها الخاصة، لذلك، وبكل وضوح وبدون لف ودوران، نقول: لا إعتراض لدينا على ذلك ما دامت هذه المصالح لا تتم على حساب مصالحنا الوطنية. لكن، هذه المعادلة، مصالحهم ومصالحنا، ليست بالمعادلة البسيطة والسهلة. وإنما هي معادلة صعبة يحتاج التعامل معها إلى قيادات وطنية حصيفة تعرف كيف تضع حدا بين اللحم والدم، وكيف تتمترس في الدفاع عن مصالح الوطن، دون أي إنحناءة أمام هجمة اليانكي، حتى ولو كان الثمن تقديم التفس الغالية. ولعلنا نتذكر القائد الوطني الشجاع، الرئيس البنمي الراحل عمر طوروس عندما قدم حياته وروحه قربانا وهو يتشبث بمصالح بلاده في مواجهة مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية في التفاوض/الصراع الشهير على قناة بنما في سبعينات القرن الماضي، والذي حسمته أمريكا بإسقاط طائرة الرجل. ولا ندري إذا كانت الدوائر النافذة في بلدان المجتمع الدولي، خاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، قد توصلت إلى سر النفور، بل والكراهية، المتأصل في شعوب بلدان العالم الثالث تجاه شراهة دول الغرب، وخاصة أمريكا، لتحقيق مصالحها على حساب مصالح هذه الشعوب الفقيرة. نعم، لسنا بصدد إكتشاف مذهل، ولكنا أحيانا نصاب بالذهول ونحن نشهد حمى المؤتمرات والسمنارات وورش العمل التي تنظمها أطراف المجتمع الدولي، وتدعوا لها لفيفا من الإنتلجنسيا السودانية، لبحث ومناقشة سيناريوهات حل الأزمة السودانية. فخلال أقل من شهر، الفترة من الأسبوع الأخير من أغسطس الماضي والأسبوع قبل الأخير من سيتمبر الجاري، عقد في نيروبي مؤتمر كونسورتيوم دارفور والذي تطرق إلى الحلول المحتملة للأزمة السودانية في شمولها ليعلن تحوله إلى كونسورتيوم السودان. وفي القاهرة، نظمت وزارة الخارجية البريطانية، تحت مظلة منظمة منبر الحوار الإنساني (مقرها جنيف)، لقاءا ناقش سيناريوهات الحلول للأزمة السودانية. وبعد غد، السبت 22 سبتمبر، سيلتئم في الدوحة اللقاء التفاكري الثاني برعاية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أيضا لبحث سبل الخروج من الأزمة الوطنية في السودان...وتستمر الدعوات واللقاءات! وقبل، أو أثناء أو بعد ذلك، هنالك الأوراق العديدة التي عكف على إعدادها خبراء ومفكرون وسياسيون يعملون لصالح بنوك التفكير (think tanks) والمراكز المتخصصة والإدارات المعنية، في عواصم بلدان المجتمع الدولي، وكذلك المبعوثون الدوليون من هذه البدان، ليخرجوا إلينا بسيناريوهات: الهبوط الناعم (soft landing)، والإنتقال المنظم (managed transition)، أو إستراتيجية الخروج (exit strategy)...إلى غير ذلك من السيناريوهات. وبالطبع كل السيناريوهات المحتملة والمقترحة، ترتبط تماما بالإجابة على سؤال رئيسي ومحوري: هل ستنتقل عدوى الربيع العربي إلى السودان، خاصة بعد الإحتجاجات الشبابية الأخيرة؟؟ ومن أجل سبر غور هذا السؤال والبحث عن إجابة شافية له، دفعت بلدان المجتمع الدولي بأعداد كبيرة من نشطائها لزيارة السودان، مبعوثين وباحثين وصحفيين ومتحدثين لبقين في مقهى الأوزون....! حديثنا هذا، لا يحمل مثقال ذرة من الإستخفاف أو الإستنكار، فمن حق المجتمع الدولي أن يبحث عن أيسر السبل وأقلها تكلفة لمساعدتنا ولتحقيق مصالحه، وإلا إنطبق علينا مثلنا الشعبي القائل بإخفاءنا المحافير عن من جاء ليساعدنا على الحفر! ومن ناحية أخرى، من منا يستطيع إخفاء إعجابه بهذه المناهج العلمية في إدارة السياسة والمصالح؟. وعلى الرغم من ذلك، لدينا ملاحظات ومحاذير وتخوف من أن تنتهي هذه اللقاءات والسيناريوهات بالتركيز على قضية السلطة فقط، بعيدا عن المطالب الأصيلة لأصحاب المصلحة الحقيقيين من سكان الهامش والفقراء والشرائح الدنيا في المدينة والريف، والذين في الغالب لا يجدون سبيلا للمشاركة في هذه الورش والمؤتمرات والسمنارات وصياغة السيناريوهات. وأيضا لدينا محاذير وتخوف من مواصلة المجتمع الدولي إصراره على الحلول الجزئية، المسكن المؤقت والهش سريع الإنهيار في نفس الوقت. ونحن، لسنا بالسذاجة حتى نفترض أن من ضمن سيناريوهات المجتمع الدولي سيناريو الإنتفاضة وإسقاط النظام. فهذا السيناريو بعيد كل البعد عن السمنارات والمؤتمرات والمفاوضات التي ينظمها أو يرعاها المجتمع الدولي. فهو سيناريو مكانه جهة أخرى، هي الحركة الجماهيرية وتاكتيكات قياداتها السياسية بمختلف ألوانها. إن العنوان العريض لسيناريوهات المجتمع الدولي هو التسوية التوافقية. ولأن الأزمة التي دفعت بالمجتمع الدولي للتدخل، ليست هي أزمة دبلوماسية عابرة، وإنما أزمة مصطبغة ومشبعة بألوان وروائح الحرب الشنيعة التي يروح ضحيتها الناس، ويصيب شررها كل البلاد...، ولأننا قبلنا بتدخل المجتمع الدولي ليلعب دوره في حل الأزمة، وفق سيناريوهاته المتعددة والتي تندرج جميعها ضمن مشروع التسوية التوافقية، فمن الضروري أن نكون واضحين في القول بأن أي مشروع لحل توافقي يخرج بلادنا من أزمتها الراهنة والطاحنة، يستوجب في البداية التوافق على عدد من الشروط الجوهرية، والتي دونها لا تستقيم أي إمكانية لأي توافق، وهي: أ- إعتراف النظام الحاكم بأن البلاد تمر بأزمة حقيقية، وأن وجوده على دفة الحكم لما يقرب من ال 25 عاما، لم يعالج الأزمة، بل فاقمها. ب- قناعة كل الأطراف بمبدأ المساومة والتسوية والتوافقية، على أن تنطلق هذه القناعة من الموقف الناقد تجاه تعامل الإنقاذ مع الاتفاقيات المختلفة التي وقعها مع أطراف المعارضة. ج- قناعة الحزب الحاكم بأن التسوية التوافقية تعني في المقام الأول فكفكة نظام هيمنة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن بمؤسساتها القومية، وذلك وفق تنفيذ إجراءات محددة تحقق ذلك. د- إمتلاك الجميع، حكاما ومعارضة، للإرادة السياسية الضرورية للسير قدما في مشوار التسوية والتنازلات. ه- ضربة البداية لأي تسوية محتملة، تكمن في أن تتخذ الحكومة قرارين وتنفذهما، وهما:1- العمل على توفير المناخ الملائم لضمان نجاح أي عملية تفاوضية تفضي إلى تسوية، وهذا يشمل: إتاحة حرية التعبير، حرية الحركة، حرية التنظيم، إلغاء القوانين المقيدة وعلى رأسها قانون الأمن،...الخ. 2- الإتفاق على وقف إطلاق النار قي جميع مناطق القتال: دارفور، جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق...، والبدء في عملية تفاوضية تشمل جميع الحركات المسلحة، بما في ذلك الحركة الشعبية قطاع الشمال، وفق إعلان مبادئ يتفق عليه. و- إعادة النظر في كل أجهزة الدولة بما يضمن قوميتها وعدم حزبيتها، ويشمل ذلك: القضاء، أجهزة الأمن والشرطة، القوات النظامية، الخدمة المدنية. ز- التحقيق والمحاسبة في قضايا الفساد والتغول على المال العام. ح- العدالة الإنتقالية على أساس مبدأ الحقيقة والمصالحة، بالنسبة لقضايا الإنتهاكات. ط- برنامج إقتصادي أساسه رفع المعاناة عن المواطن. ي- آليات التنفيذ تتضمن: 1- حكومة قومية إنتقالية، يحكمها إعلان دستوري إنتقالي، وتنفذ برنامج إنتقالي. 2- مؤتمر قومي دستوري. 3- مؤتمرات قومية تخصصية لمخاطبة قضايا الإقتصاد، خدمات التعليم والصحة ..الخ. ومرة أخرى، لسنا بصدد إكتشاف مذهل، ولكن تصيبنا الدهشة ونحن نرى تيم التفاوض من حكومة السودان يدعي السذاجة وهو يتحدث عن الأجندة الخفية الغربية، علما بأن لحكومة الإنقاذ باع طويل في التعامل مع الغرب كوسيط أو راع لمفاوضاتها مع معارضيها، ولا ترفض أي دعوة تأتيها من أي متدرب حديث العهد بالملف السوداني طالما هو قادم من المؤسسات الراسخة والنافذة في بلدان العالم الغربي، مقابل رفضها الفوري لأي مبادرة سودانية حتى وإن أتت من شيوخ الحكمة والمعرفة والذين دافعهم الأوحد هو مصلحة السودان. والحقيقة الساطعة هي أن حكومة الإنقاذ تعرف جيدا الأجندة الغربية/الأمريكية والمصالح الآنية والإستراتيجية لهذه الدول، وتقبل بها حتى ولو كان ثمن ذلك تسهيل عملية إنفصال الجنوب! لذلك، عندما يتصرف تيم التفاوض الحكومي، في مفاوضات أديس أبابا، وكأنه كائن فضائي هش تفاجأ بعالم الوحوش الأرضي (الأمريكي)، فهو قطعا يحاول إخفاء الدواهي!. وعندما يصرخ قادة التيم الحكومي مستنكرين بأن مفاوضي حكومة جنوب السودان والحركة الشعبية قطاع الشمال تركوهم في فنادق أديس أبابا وذهبوا إلى واشنطن، وأنهم يشتكون هذا الوضع إلى الأمين العام للأمم المتحدة، فإنهم في الحقيقة يستخفون بذكاء الشعب السوداني ويؤكدون عجزهم عن مواجهته بالحقائق. فالشعب السوداني يعلم تماما بأن الطرف الآخر هذا لم يذهب إلى الإسنجمام في جزر الهاواي، وإنما ذهب إلى مركز وقيادة راعي التفاوض، حيث مخازن العصا ومزارع الجزرة،...، أي أن سفره هو إستمرار للعملية التفاوضية نفسها، فلماذا الولولة وضرب الأوتاد في فنادق أديس أبابا؟....، وعموما، عاجلا أم آجلا سيوقعون على إتفاق ما...!!. لكن، سحر كل هذه العناوين الجذابة القادمة من بنوك التفكير العالمية تحت عنوان التسوية التوافقية، يمكن أن تنسف في لمح البصر، إذا جاءت اللحظة التي يضع فيها الشعب السوداني النهاية الحاسمة عبر سيناريو الإنتفاضة الشعبية. الميدان