ظهر د.حسن الترابي أكثر من مرة في قناة خارجية بادي الحرص على إظهار الشماتة على النظام القائم في السودان, ويحرص على الإغاظة، بل لا يخفي فرحاً غامراً حين يتحدث عن قرار المحكمة الجنائية، حيث لا يكتفي بدعوة الرئيس البشير لتسليم نفسه للمحكمة، فيقرن الدعوة بضم ساعديه وهو يبتسم لينقل للمشاهد سعادته بتخيل الرئيس في الأغلال. لم تضف لي مواقف د.الترابي جديداً لما أحمله عن الإسلام السياسي، وهو رأي تعزز عندي بعد المفاصلة، فقد اتفق الفريقان واختلفا فيما لا يخص الدين في شيء كبير، بل هو خلاف سياسي ممتد منذ الفتنة الكبرى (التي هي تسمية تاريخية غير دقيقة) وإلى الآن. ولكن سلوك الترابي المزهو والمغتر بالحكم وغير الحكيم في الخصومة جعلني أوقن بعدم وجود نهج سياسي ديني يعصم مدعيه من خطايا السياسة, ورافع لواء الدولة الدينية لا يعصمه نهج مدّعى عن زهو الحكم وفجور الخصومة, وإن الارتفاع عن هذه النقائص خاصية شخصية قد يكتسبها صاحبها من نهج تربوي ديني أو مدرسة تربوية وضعية, وعلها فرصة للغوص في هذه المدرسة السياسية التي رفع لافتتها الترابي. تشعبت الحياة وتعقدت حتى تعددت الخيارات الممكنة التي لم يصدر عن الدين فيها أمر أو منع, وهذا ما جعل الرافضين للدولة الإسلامية يتساءلون: وما الدولة الإسلامية إن كان الدين لا يمنع ولا يأمر أن يكون توجهنا زراعياً أو صناعياً, وإذا اخترنا الزراعة فالدين لا يأمر أن نزرع قطناً أو قمحاً أو أن نركز على زراعة الفول المصري، ولا يحدد الدين أن نقيم السد في مروى ولا في كجبار, بل لا نخالف الدين إذا لم نبنه لا في مروى ولا في كجبار. لا يأمرنا ولا يمنعنا الدين أن نربط ميناء بورتسودان بطريق بري مسفلت أو نفضّل السكة الحديد, ولا يحدد لنا أن نحكم السودان مركزياً أو لا مركزياً, ولا نناقض الدين ولا نوافقه إذا استعنا بالصين الشعبية في التنقيب عن البترول أو إذا استعنا بشيفرون الأميركية أو تلسمان الكندية, ولا نخالف الدين ولا نوافقه إذا انضممنا لجامعة الدول العربية أو إذا انسحبنا منها، وهكذا تتعدد الأمثلة وتصبح الخيارات من السعة بحيث يمكن أن يختار أي حزب منها ما يجعل من غير الممكن التمييز بين حزب إسلامي وآخر غير إسلامي إلا باللافتة، حيث يضيف أحدهم صفة الإسلامية إلى اسمه. هذا ما يلي الإسلام السياسي فيما يتعلق بحياة الناس ومنافعهم وتنميتهم وخدماتهم وكل ما يتعلق بشؤون دنياهم, فهل للإسلام السياسي نهج تربوي خاص به يجعل السياسي الإسلامي يتميز عن غيره ممن لا ينطلقون من مرجعية دينية؟ قد يقول قائل إن الرؤى يمكن أن تتشابه بل قد تتطابق لكن النهج الإسلامي يتميز بنية التوجه إلى الله، ولكن الساسة لا يحاكمون بالنوايا، بل بالسلوك. وإذا اتصف سياسي إسلامي بالصدق والأمانة فهي صفات يتصف بها ساسة غير إسلاميين أيضاً, بل غير مسلمين, بل إن محاسبة الترابي على أساس أنها محاسبة للإسلام تضر بالدين, فإذا اتصف د.الترابي بالمراوغة أو المماطلة فليس من الإنصاف في شيء محاكمة الدين بجريرة رجل لا لشيء سوى أن الرجل اتخذ من الدين لافتة سياسية, فهل يقصى الدين تماماً من الحياة العامة حماية له من مثل هذه المحاسبة غير المنصفة؟ إذا قصد بالدين الإسلام السياسي فمن الأفضل إبعاد الدين عن السياسة، لكن الدين ليس الإسلام السياسي. الدين أوسع كثيراً من الحكومة والحكم, بل أشمل من الدولة ما دام يشمل الكون والغيب وأسباب السماء. وبهذا الفهم لا يعدو الإسلام السياسي أن يكون محاولة لصبغ البعض لتصوراتهم السياسية بصبغة دينية, وهي محاولة لا تختلف كثيراً عن إطلاق أطباء شعبيين على (طبهم) مصطلح (الطب النبوي). الدين بفهمه الأوسع يحقق معاني العبودية بمعناها الواسع، ويلم بحقائق الكون الكبرى, وقد أفلحت مدارس دينية تربوية غير الإسلام السياسي في غرس معاني العبودية والخضوع لله فأفلحت في جعل الخاضعين لنهجها يرضون بالمقسوم ويحمدون الله على المكروه, وبذلك أسهمت بقدر كبير في تحقيق توازن نفسي تعجز عن تحقيقه رؤى السياسة وبرامج الأحزاب, حيث لا يواجه الناس بالبرامج الحزبية صروف الزمان ونوائب الدهر. وإذا أفلحت مدارس غير سياسية في إعداد أفراد مسلمين ومجموعات إسلامية بهذا المستوى فإن الإسلام السياسي -وبتجسيد من الترابي الذي يعد من قادته الكبار- لم يفلح في تقديم أنموذج ينطلق من معانٍ دينية, حيث يلاحظ أن (حظ النفس) عند الترابي متضخم لدرجة تعاب حتى على من لا ينطلق من فهم ديني. اهتم الإسلام السياسي بهياكل فارغة, وهذا يفسر افتقار الترابي إلى التواضع عند الإنجاز والتوازن عند الفشل, ويؤكد أن الإسلام السياسي نتاج عاطفة دينية بلا فهم عميق لكنه الدين. وإن المتقدمين نسبياً في هذه المدرسة لا يتفوقون بقدر كبير على الملا عمر وبيت الله محسود والشيخ باعشير. إذا بقي للترابي من فضل يجود به على الفكر السياسي بدلاً من إضاعة جهده ووقته في التشفي والإغاظة فليتمعن بذكائه في تجربته الطويلة, ثم يعمل بجرأته المعهودة لينعي هذه المدرسة الوهمية. العرب