تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صعود الإسلاميين للحكم بعد الربيع العربي يجدد الجدل القديم حول علاقة الدين بالسياسة. بقلم: سليمان صديق
نشر في سودانيل يوم 22 - 11 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
-1-
إستطاعت الحركات الإسلامية المعاصرة أن تتجاوز دعوات الفصل بين الدين و الحياة العامة و السياسة و الحكم وأن تثبت ان الدعوة العلمانية دعوة أفرزتها البيئة الاوربية و تسلط الكنيسة و رجال الدين المسيحى المتحالفين مع الملوك كما إفرزتها قبل ذلك محاولات المصلحين من رجال الكنيسة النأي بالكنيسة عن السياسة و استغلال الحكام لها وإضطهادهم لأصحاب المواقف المستقلة من المتدينين كما اثبتت التجربة أن العلمانية الاوربية لم تكن شاملة و لم تنجح دعوتها في العزل التام للدين و المتدينين في اوربا عن السياسة و الحكم و ظل الدين هو المحرك للشعوب والمفجر لطاقاتها فقد اجري مركز NORC) ) بجامعة شيكاغو في أكتوبر عام 2006 مسحاً حول اتجاهات التدين في العالم في الأربعة عقود الاخيرة في الولايات المتحدة الامريكية خرج بالنتائج التالية :
90% يؤمنون بالله .
73% يؤمنون بوجود حياة بعد الموت
74% يحسون بأهمية هذا الايمان اليهم .
79.6% يشعرون بقربهم من الله معظم الوقت
على الرغم من تشعب فهمهم لصورة هذا الإله ولطبيعته إلا أن 70.9% يرون ان هذا الإله هو السيد الحكم .
وذلك على الرغم من الانخفاض في أقبال الناس على الشعائر الدينية والمناسبات والاعمال التي تقوم بها الكنيسة ووجود نسب أقل من ذلك في المسح في دول أوربا الغربية كما دلت الدراسة على ارتفاع نسبة الايمان والتدين في الدول الشيوعية السابقة وعزت ذلك نتيجة لزوال الضغوط التي كانت تمارسها الدول الشيوعية على المتدينين والمظاهر الدينية .
كما تراجع العلمانيون مؤخراً عن كثير من مقولاتهم السابقة و تطرفهم تجاه الدين و اكتشف الناس أن العلمانية و المادية الشاملة التي تنكر الغيب و تجعل الإنسان (شيئاً مادياً) تحدد أخلاقه وسلوكه الظروف المادية دعوة تجافي العلم والفطرة السوية و هى فوق ذلك خدعة ماكرة لأنه ليس هناك ثقافة أو فنون او سياسة أو إقتصاد بحت لا تقف وراءه أخلاق و قيم و نظرة للوجود و علاقة الإنسان به أو بمعنىً آخر دين
على الرغم من هذا النجاح إلا أن الحركات الإسلامية لم تقدم رؤية نظرية أو نموذج عملى يقنع الناس و يرد غربتهم عن الدين او غربة المتدينين عن الحياة وأول هذه الحركات هي الحركة السلفية التي أسست دولتها الأولى في المملكة العربية السعودية ثم تكررت نماذجها بعد ذلك في أفغانستان على يد طالبان و الجماعات الإسلامية في باكستان وفي الصومال بواسطة المحاكم الإسلامية و قد إستبدلت هذا الجماعات سلطة الكنيسة و الكهنوت المسيحي بسلطة علماء الدين الذين لم يزعم واحد منهم بأنه نبي أو يملك تفويضاً إلهيا يعبر به عن مراد الله - على الرغم من أن سلوكهم يعبر عن ذلك – فبعضهم يمكنه السلطان السياسي من البروز و قليل منهم يتلقاه الرأي العام الإسلامي بالقبول أو يحوذ بعضهم الآخر على المكانة (بوضع اليد ) و قد تميزت تجارب السلفيين بالتعسف و تبرير إغتصاب السلطة و هم يعتمدون في ذلك على الفقه التقليدي للأحكام السلطانية و السياسة الشرعية و لم تتجاوز الشريعة عندهم كونها أداة لأكساب السلطان المشروعية و بسط هيبته على الناس ويعتبرون الديمقراطية نظاماً كفرياً ويعيبون عليها مساواتها بين (الصالح و الطالح ) و المسلم و الكافر و الرجال و النساء في الحقوق كما يعيبون عليها تحديدها دورة زمنية للحاكم و و لا يعترفون بحق الشعب في نزع الحاكم ( و كأنه اكتسب المشروعية من الله و ليس من الشعب ) أو قبول أو رفض ما يزعمون أنه دستور إسلامي أو رأي الدين و لا حق للأمة في الإجتهاد في فهم النص وتفصيل التشريع الإسلامي أو تنزيله على الواقع
يقول الدكتور جعفر شيخ ادريس - أستاذ الفلسفة و عضو هيئة علماء السودان - فى المقارنة بين الديمقراطية وما يسميه القسطية في مقال له منشور بموقع جماعة الإعتصام بالشبكة الدولية : ( وإذا كانت القسطية هي الحكم بما أنزل الله؛ فإن الديمقراطية هي الحكم بما يراه الشعب. هذا هو معناها الذي يدل عليه لفظها، وهو المعنى المتفق عليه بين منظِّريها. حكم الشعب معناه أن الشعب صاحب السيادة العليا في المسائل التشريعية، وأنه لا سلطة فوق سلطته التشريعية. ... لا يمكن لإنسان يدعي الإسلام ويعرف معناه أن يؤمن بالديمقراطية بهذا المعنى؛ لأنه إيمان يتناقض تناقضاً بيناً مع أصل من أصول الإيمان التي جاء بها دينه، والتي تؤكدها كثير من آيات الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم........ والديمقراطية نظام كفري قائم ومؤسس علي الكفر من أساسه حيث تناقض الديمقراطية وتعاند قواطع القران والسنة فمبناها يقوم علي التسوية الظالمة بين المواطنين مطلقا كافرهم ومسلمهم ذكرهم وأنثاهم في نيل الحقوق والواجبات دون نظر للتمييز بالدين أو أي اعتبار شرعي ، وهي تبيح مشاركة الله في التشريع والحكم ، ومشاركة الكفار للمسلمين في الولاية العامة ، وهي طريقة محرمة في اختيار الحاكم وتداول السلطة السلمي الذي تفخر به وهي معارضة لعقد الحكم في الإسلام اللازم علي الدوام ما لم يخل الحاكم بشروطه وعلي هذا النص والإجماع ، فالديمقراطية نظام له فلسفته المغايرة للإسلام في الحياة ، ويكفي في ردها أنها قائمة علي الإقرار بربوبية وإلوهية غير الله جل وعلا في جعل حكم الشعب للأغلبية البسيطة وليس لله العلي الكبير . .......فضلا عن أن الديمقراطية هي الوعاء الطبيعي للعلمانية والحكم بالنظم والأوضاع والقوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية .)
كما يقول الدكتور عبد الحى يوسف في كتابه حوار مع شاب : (الخلاصة أن للديمقراطية جانبين جانباً يقره الاسلام ويحض عليه وهو حق أهل الحل والعقد من الامة في تولية حكامها ومحاسبتهم وفي الرقابة عليهم وهذا حق معلوم وظاهر في نصوص الشرع من كتاب وسنة نبيه وجانباً يأباه الاسلام ويعتبره نوعاً من ألوان الشرك بالله تعالى وهو إعطاء الأمة ممثلة في مجلس النواب أو البرلمان الحق في التشريع المطلق فهي تحل وتحرم وتبدل كيفما شاءت ومعلوم قطعاً أن التشريع المطلق تحريماً وتحليلاً وتشريعاً إنما هو حق خالص لله تعالى ) و كلمة تشريع مطلق من كلام الشيخ عبد الحي تجعل للشعب حقاً في التشريع مقيداً بمرجعية من يسميهم أهل الحل و العقد - وهم عند السلفيين من يعرف بعلماء الشريعة - لذلك عندما وسعت الإنقاذ هيئة العلماء لتشمل علماء العلوم العقلية و التجريبية أنشأوا هيئة أخرى أسموها الرابطة الشرعية للعلماء و الدعاة غير أن رأي الدكتور عبد الحي يبدو أكثر اعتدالاً من رأي الدكتور جعفر شيخ إدريس
كما تقول جماعة الاعتصام ذات المنهج السلفى في موقعها بالشبكة الدولية : ( السيادة لا تتعدد إمّا أن تكون لله وحده أو للشعب ومما لا ريب فيه أن الديمقراطية ليست نقيضاً للشورى فحسب ولا مجرد تداول للسلطة فقط وإنما هي منهج حياة متكامل مخالف للإسلام في المبدأ والمضمون وإنما جاءت الديمقراطية وعلا صوت المنادين بها لقطع الطريق أمام الإسلام وحكمه وإقامة دولته وخلافته الراشدة ، .......... ، كما أن الديمقراطية تقوم على أساس حكم الشعب للشعب بأن يحكم الشعب نفسه بما شاء وكيف شاء وقد جاء هذا مضمناً في باب السيادة أعلاه – في إشارة إلى الدستور السوداني لعام 2005-. والحق أن المبدأ في الإسلام قائم على أن السيادة لله....... والديمقراطية قائمة على رد التنازع للجماهير أو من ينوبون عنهم في المجالس والبرلمانات ، وفي الإسلام رد التنازع إنما يكون للكتاب والسنة ...... والديمقراطية في شكلها ممارسة تأتي بالمفضول وتدع الفاضل وتأتي بالطالح وتدع الصالح وفي الإسلام الولاية والمشورة لأهل الحل والعقد من أهل الصلاح والعلم والتقى ) نواصل إن شاء الله
-2-
تجربة السودان و مدخل الإصلاح التشريعي السياسي
 تدرك الحركة الاسلامية في السودان أن شمول الدين الإسلامي وشمول منهج التغيير يقتضي أن يكون الإصلاح في كل مجالات الحياة العقدية والأخلاقية والأجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها وهو إصلاح يشمل الفرد والمجتمع والسلطان القائم عليه. وقدرت أن:
- أول عري الإسلام سقوطاً وانحرافاً عن الدين هي الحكم ومؤسسات الخدمة العامة المدنية و العسكرية بينما احتفظ المجتمع بحظ وافر من التدين
- أن طبيعة تكوين المجتمعات العصرية ووظيفة الدولة فيها تجعل منظمات الدولة المدنية و الحكومة أكثر الوسائل تاثيراً في المجتمع وحياة الأفراد
لذلك اختارت - من الناحية الظرفية - أن تركز في خطابها على إصلاح السلطان ونظام الحكم - ابتداءاً - خلافاً للحركة الأم ولكثير من الحركات الإسلامية الأخري التي كانت تركز علي الإصلاح الفردي و الإجتماعي أو ترتب الإصلاح في الفرد و المجتمع و الحكومة و الخلافة بالتتابع و باعتبار أن كل منها يؤدي إلى التالي بصورة تلقائية كما عمقت الظروف التاريخية التي نشأت فيها الحركة الإسلامية السودانية من هذا الإختيار فقد خرجت الي الحياة العامة - بين يدي إستقلال السودان عام 1956م - والحديث وقتها يدور حول تاسيس الدولة الجديدة و دستورها هذا بالإضافة إالي تأثر عناصر الحركة بأفكار و مناهج الجماعة الإسلامية الباكستانية بزعامة الأستاذ أبو الأعلى المودودي - الذي عاش ظروفاً شبيهة وهي إستقلال باكستان عن الهند - كما عمقت منه التحديات السياسية التي ظلت تواجه السودان وتصاعد الصراع السياسي فيه
 لم يمنع ذلك من أن تبادر الحركة إلي الإصلاح في مجالات الحياة المختلفة كلما توافرت ظروف الإستقرار والحرية.فقد ظلت تهتم بالإصلاح الفردي و توسعت بصورة كبيرة في مجالات الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي و الثقافي بجانب السياسي والتشريعي بعد المصالحة الوطنية في الفترة بين عامي 1977- 1985م وبعد الإنتفاضة الثانية حيث أسست مؤسسات الدعوة الشاملة و المنظمات الخيرية و الفئوية للشباب و المرأة و المؤسسات الإقتصادية الإسلامية و البنوك اللاربوية وكذلك في فترة حكم الإنقاذ ما بعد عام 1989م حيث تمكنت الانقاذ من توسيع مدي الإصلاح بأدوات الدولة والمجتمع المدني .
 رفعت الحركة الإسلامية – بعيد الإستقلال – شعار (القرآن دستور الأمه) وحشدت حوله عدداً من الكيانات الإسلامية والأفراد وعدد من العلماء و قادة المجتمع في جبهة للدستور الاسلامي ساهمت في دفع خياره الى الساحة السياسية و خرجت بعد الحكم العسكري الأول – عام 1964 بجبهة للعمل الإسلامي أوسع استطاعت بها أن تشارك في الشأن العام وتدفع الأحزاب الأخرى في حملة سياسية منظمة نحو الإصلاح الإسلامي بادرت بعدها - من خلال البرلمان – الي تكوين لجنة برئاسة القاضي خلف الله الرشيد لمراجعة القوانين لتتماشى مع التقاليد السودانية – على حسب نص ميثاق الثورة – ولجنة أخرى قومية وضعت مسودة لدستور إسلامي عام 1968. انقلب الحزب الشيوعي – الذي كان قد حل و طرد نوابه من البرلمان - وحلفاؤه القوميون والعلمانيون علي هذه المبادرة وعلي النظام الديمقراطي عام 1969م.
 تبنى النميري برنامجا للإصلاح أسماه (النهج الإسلامي ) فصالحته أحزاب الجبهة الوطنية المعارضة ومن بينها الحركة الإسلامية عام1976 م التي اشتركت في أجهزة حكمه وفي لجنة خاصة أنشأها عام 1977 لإعادة صياغة القوانين السودانية لتتماشي مع الشريعة الإسلامية برئاسة مولانا خلف الله الرشيد و لجنة أخرى فنية برئاسة الدكتور حسن الترابي- أمين عام الحركة الإسلامية - لأعداد الدراسات ( لأنها رأت الحسم بالأمر الواقع أقطع لدابر الضغوط التي قد تقع على الإجراءات المتراخية فتعوقها و لأنها لم تملك خياراً بين منهج متمهل يضمن ثباته اضطراداً نحو الكمال و منهج فوري جاء فلتةً من قبل النظام - ربما لغرض سياسي - لكنها إذا فوته لا تضمن استدراكه و قد تستدرك علاته ) كما ورد في منشوراتها
 . وضعت اللجنة خطة عمل من ثلاث مراحل تراعي يسر التطبيق وقلة الحرج واستجابة الرأي العام وأعدت اللجنة مجموعة من الدراسات و القوانين الأجتماعية وبررت أستبطأ النميري خطوات اللجنة فأصدر قانون العقوبات في سبتمبر 1983 - ليشمل الحدود الإسلامية – وأصدر في نفس العام قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لضبط الشارع و السلوك العام فأيد الإسلاميون مبادرته رغم أنها لم تأت على نهج اللجنة المتدرج الذي اختطته ولكنهم سعوا ليجعلوا الإصلاح التشريعي أكثر شمولاً فدفعوا إليه بقوانين أخري منها قانون أصول الأحكام القضائية وقانون المعاملات المدنية وقوانين الإثبات والإجراءات المدنية والجنائية وعملوا على تأهيل المؤسسات العدلية و الشرطية والعاملين فيها حرصاً علي إنجاح التجربة.
 أثارت تلك القوانين جدلاً واسعاً - لا سيما الحدود الإسلامية وتكوين لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- واتهم البعض النظام بأتخاذ هذه القوانين ذريعةً لكسب المشروعية الإسلامية - بعد أن تضعضعت مشروعيته السياسية - ولبسط سلطانه لاسيما أن الرئيس النميري أدخل قانون أمن الدولة ضمن القانون الجنائي وانطلقت حملة مقاومة لأصل تلك القوانين وللنظام من المعارضة الداخلية وبدعم من الدوائر الغربية وبلغت درجة الترتيب مع حركة التمرد وبعض أركان النظام السعي إلى الإنقلاب عليه بدعم أمريكي
 ظلت هذه القوانين(لاسيما القانون الجنائي) محوراً للصراع السياسي في الديمقراطية الثالثة حيث جمدت أحكامها واستظهرت الأحزاب و القوي الداخلية المعارضة لها بالقوي الأجنبية وحركة التمرد (الحركة الشعبية لتحرير السودان) مما دفع الإسلاميين في الجبهة الإسلامية القومية إلي الإنقلاب على النظام الحاكم و برروا ذلك التغيير الذي قادته الإنقاذ عام 1989م - الذي جاء خلافاً للمنهج الذي إختارته - بأنه محاولة لتفويت الفرصة على هذه الحلقات المتراكبة من التآمر الداخلي والخارجي - التي بلغت مداها بمذكرة الجيش المشهورة - ودفاعاً عن الإرادة الشعبية وهذه التشريعات وعصمة للمجتمع من الإرتداد.
 في إطار برنامج الإصلاح الإسلامي العام الذي شمل جوانب الحياة كلها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و التعليمية و الخدمية وغيرها أصدرت حكومة الإنقاذ الوطني القانون الجنائي لسنة 1991م الذي شمل الحدود الإسلامية من غير تغيير في أصلها السابق ولكنه جاء أكثر دقة و وقلل من عقوبات الجلد و السجن و أخذ بمسقطات الحدود واستثني الولايات الجنوبية و شملت التعديلات بعد ذلك قوانين الإثبات والإجراءات الجنائية و توالى بعد ذلك أصدار القوانين المنظمة لجوانب الحياة الأخرى
 خاتمة القول أن هذا الإختيار الأول في خطاب الحركة على الإصلاح السياسي و التشريعي كان إختياراً ظرفياً ساق الحركة طوال العقود الأربع الأخيرة و كأنه خيار إستراتيجي وكانت له آثار سلبية على الخطاب الإسلامي عامة وعلى مساعيها في الإصلاح عامة نجمل منها :
عدم تحقيق التوازن بين تهيئة البيئة الاجتماعية وتطبيق التشريعات
مكن ذلك المدخل الإسلاميين من حشد التأييد الشعبي للإنقاذ التي إستطاعت بالتشريعات الإسلامية أن تحسم وجهة البلاد و تحدث إصلاحاً واسعاً وتحاصر الإنحرفات الإجتماعية غير أن البعض يرى أن هذه القوانين و التشريعات قد منعت التجارة المعلنة للخمر و المخدرات و المظاهر العامة لتعاطيهما ولكنها لم تمنع الجريمة التى ازدادت فيها تجارة وتعاطي المخدرات حتى بلغت نسباً عاليةً وسط الشباب و الطلاب كما أنها أغلقت البيوت المفتوحة للدعارة و انتشرت بدلا عنها عصابات تجارتها و الممارسات السرية للجنس خارج أطار الزواج كما أنتشرت صور الزنا المغلّف وصيغ الزواج التى تتحايل على الشريعة و القانون وتتهرب من مسئوليات الأسرة لأنه لم يسبقها إعداد للأفراد و البيئة الإجتماعية ولا البنية الاساسية للعدالة و يرى البعض الآخر أن سبب ذلك يعود إلي الحملة التي ظلت تتعرض إليها التشريعات كما يشكك في تنفيذ احكامها علماً بأن المحاكم السودانية تصدر سنوياً أكثر من ثلاثمائة حكم في جريمة سرقة حدية و أكثر من ألفي حكم إدانة فى جريمة زنا
الإيحاء بأن الدين هو التشريعات وأن الشريعة هي الحدود
أ صور هذا المدخل الإسلام و كأنه التشريعات و صور الشريعة و كأنها الحدود و الأوامر السلطانية وقد كانت الحدود في القانون الجنائي و قانون النظام العام لولاية الخرطوم اكثر مبادرات الإصلاح إثارة للجدل على الصعيدين المحلي و العالمي بل لازالت تستهوي البعض في صف الحركة و خارجه بحسبانها شعيرة الإصلاح في مجال الحياة العامة
التجربة أغرت بالتوسع في أستخدام سلطان الحاكم في الإصلاح
تبنت الإنقاذ في الإستراتيجية القومية الشاملة فكرة المجتمع القائد وأسست نظام المؤتمرات لتوسيع المشاركة الشعبية وتبنت نظام الحكم اللامركزى كما انشأت اللجان الشعبية لإشراك الناس في الإدارة المحلية و أنشأت الدفاع الشعبي و الشرطة الشعبية و نظم الدبلوماسية الشعبية لأشراك الشعب في الدفاع و حفظ الأمن و بناء العلاقات الخارجية غير أن تركيز خطابها على تطبيق التشريعات الإسلامية و التجربة العملية في هذا المجال أغري بالتوسع في استخدام القوة وأدوات السلطان الحكومى في التغيير و الميلان في المعادلة بين الحرية و النظام رغماً عن الحديث عن شمول منهج التغيير الإسلامي لوجدان الفرد و لسلطان المجتمع و الحكومة
خُيّر المشرّع فلم يختر الأيسر مراعاةً لظروف الإنتقال في المجتمع السوداني
هناك بعض الإنتقادات الموضوعية التى أبداها بعض الحادبين علي التجربة الإسلامية ويأتي في هذا الإطار الحوار الذي اداره المرحوم الأستاذ حافظ الشيخ الزاكى حول السرقة الحدية وما أثير حول وصف الردة والرجم في جريمة الزنا و الإجراءات الجنائية و المذكرة التى رفعها بعض العلماء المسلمين للمجلس العسكرى الإنتقالي و مجلس الوزراء وعلى رأسهم الشيخ عوض الله صالح و الشيخ محمد الجزولي و الشيخ عبد الجبار المبارك و الشيخ عبد الملك عبدالله الجعلي و الشيخ الدكتور عبد الله محمد دفع الله دفاعاً عن القوانين الإسلامية التي أصدرها النميري مطالبة بتجنب أخطاء التنفيذ والتوسع في إستخدام عقوبة الجلد و الغرامة في غير الحدود و التي كان لها صدىً في قانون عام 1991 م .
التعسف في الإجراءات الجنائية و الحكم
غالب الحملات التي كانت ثشن ضد التشريعات الإسلامية في السودان مردها إلى أخطاء في التنفيذ والتعسف في الإجراءات الجنائية و من أشهر هذه الحملات ما عرف بقضية ( بنطلون لبنى الصحفية ) و قضية ( فيدو جلد الفتاة ) في إحدى محاكم الخرطوم و ما أشيع عن ابتزاز بعض عناصر شرطة النظام العام للمواطنين ومنها أيضاً حملات الإشاعة و التشهير التي صاحبت التجربة في عهد النميري فبينما يدور الحديث في التاريخ الإسلامي حول خمس حوادث فقط نفذ فيها الحد على الزاني في عصر النبوة ثبتت كلها بالإعتراف الجنائى غير أن إحصاءات الشرطة و المحاكم السودانية تقضي بالإدانة في أكثر من ألفي حالة في الزنا و اللواط و الإغتصاب و مواقعة المحارم
ومن ذلك – ايضاً - التوسع في توصيف جرائم العرض و الآداب العامة و السمعة وعدم التشدد في الإثبات في إتهامات الشروع في الزنا و الافعال الفاحشة و الفاضحة و المخلة بالآداب وممارسة الدعارة و غيرها من الجرائم المرتبطة بجرائم الحدود و قد تبلغ الإدانة في هذه الجرائم نسباً عالية تصل إلى 80% من جملة البلاغات مقارناً مع نسب أدانة لا تتجاوز 50% في جرائم الحدود علماً بأن الإثبات في هذه الجرئم يعتمد على شهادة المتحري بصورة أساسية
نواصل إن شاء الله
-3-
تجربة السودان و علاقة المؤسسة الدعوية بالسياسة و الحكم
الجدل الدائر في ساحات الإسلاميين هذه الأيام حول وضعية كيانهم الخاص ( الحركة الإسلامية ) في الساحة السياسية و مستقبل علاقاته مع الحزب الذي أسسه و بقية المؤسسات الدستورية و الدستور نفسه ليس جدلاً خاصاً بالإسلاميين يديرونه في الدوائر المغلقة و لكنه جدل يتعلق بمستقبل النظام السياسي في السودان كله لتشابه وضع المؤتمر الوطني بأوضاع الاحزاب السودانية الأخرى التقليدية و القائمة على القوى الحديثة و التي تحتفظ كلها بكيان خاص يشبه الحركة الإسلامية و يمثل القلب الصلب للحزب السياسي و جميع هذه الكيانات رغم فاعليتها السياسية تعاني من مشكلة المشروعية و العلاقات التي أشرنا إليها و قد أدت الضبابية في الرؤية حول هذه العلاقات إلي أزمتي الحزب الشيوعي عام 1971م و المؤتمر الوطني عام 1999م و يحمد لهذين الحزبين ديمقراطية قواعدهما و حيويتها التي عجلت بإثارة هذه المشكلة مبكراً على خلاف قواعد الأحزاب التقليدية التي تعاني من ضعف الوعي السياسي و البناء الطاغوتي الوراثي للطائفة و الحزب .علاوة على أن الغالبية العظمى من الإسلاميين لم يثيروا هذا الجدل بدوافع طائفية تتعلق بكيانهم الخاص و إنما بدوافع الحرص علي معالجة ازمة النظام السياسي البادية للعيان و أنهم يرون ان عودة الكيان ربما تعيد الإستقامة على المسار الإستراتيجي الصحيح و تكفكف غلواء الفساد و مظاهر التمزق والتدخل الأجنبي غير أن عدم مراجعة الإسلاميين لتجربتهم السابقة في هذا المجال جعلتهم يكررون ذات الأخطاء النظرية القديمة في مؤتمرات الحركة الجارية هذه الأيام
ألبس إضطراب العلاقة بين كيانات العمل الإسلامي الدعوية ( تنظيم الحركة ) و السياسي ( الحزب ) و التنفيذي ( الحكومة ) على المراقبين وعده البعض فشلاً في التجربة السودانية فقد كانت الحركة السودانية تعتبر كيانها الخاص عند تأسيسة نموذجاً تحاكى به المجتمع المسلم وو سيلة تسعى بها لأقامة ذلك النموذج في مجتمعها فقد ورد في منشوراتها (الحركة الإسلامية كسب وقوة أضخم بكثير من الجماعة الإسلامية المنتظمة . وبسط الدين وتمكينه لن يتأتى لطائفة طليعية إلا بقدر ما تلتحم بالجماهير المسلمة تستنصر بها بعد الله ، بل إنّ غاية الجماعة ينبغي ان تكون في انبثاثها في المجتمع بما يحيله كله إلى مثالها ، فإن ذابت عندئذ تكون قد أدت رسالتها . فالجماعة الهادية وسيلة لا غاية لذاتها . ...... ينبغي أن تسعى الجماعة للتمكن في مجتمعها تدرجاً حتى تستنفد جدوى تميزها عنه بصف وصورة )
أنطلاقا من ذلك الفهم و أدراكا منها أن الطريق إلي الإصلاح يتم عبر تمكين الإسلاميين من أسباب القوة الشاملة العلمية والعقدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها. وعبر منهج شامل للاصلاح في الحياة تحرك تنظيمها منفتحاً نحو المجتمع فدفعت - منذ وقت مبكر - ببرامجها وتنظيماتها وافرادها الي المشاركة في الحياة العامة في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني أو عبر واجهات متخصصة
وكان الطابع العام لتنظيم الحركة الاسلامية وتدابيرها غير السياسية هو السرية التي أملتها ظروف الضعف الأولي والقهر السياسي والتأثر بحركة الاخوان المسلمين المصرية والمنافسة المحلية للحركة الشيوعية غير أنها كانت تدرك أن ذلك وضع أستثنائي أملته الضرورة . فظلت ترعي المعادلة الدقيقة بين السرية والعلن ( أو الدعوي و السياسي كما يحلو للإخوة المغاربة أن يقولوا ) من جانب وبين ضرورات اعداد العضوية والطليعة التي تقود الاصلاح الإسلامي والانفتاح علي المجتمع من جانب آخر. وقد كان أول ابتلاء تتعرض له في هذا المجال بعد الانفتاح الذي حدث في الفترة ما بين 1964 – 1969م حيث ظهر خلاف بين قياداتها في تقديرات أطراف هذه المعادلات في المؤتمر الذي عقدته عام 1969م والذي ادي الي خروج البعض من صف الحركة وكان معظمهم ممن مالوا الي ضرورة التركيز علي التربية والإعداد الداخلي للطليعة وتنظيمها الخاص. ولكن ذلك لم يثن الحركة عن فهمها وتقديراتها الأستراتيجية التي كانت تري أن الجماعة هي وسيلة وان السرية ضرورة تقدرها بقدرها وكانت قد تمكنت من الاطلاع علي تجارب الحركات الإسلامية في بعض الدول العربية وتجارب الشيوعين والقوميين في هذا المجال كما ظلت تراقب مآلات السرية المفرطة في الحركة الإسلامية في ومصر والدول التي تعاني من قهر سياسي متعاظم. وتأملت في المآلات السيئة للتنظيمات السرية التي قد تؤدي الي عصبيات طائفية وطغيان وفساد كبير لصعوبة تحقيق الشفافية فيها وإحكام نظم وأجهزة الرقابة المختلفة وقد أكد لها ذلك صحة اختيارها لذلك توكلت الحركة علي الله وحققت الانفتاح الاكبر بعد العام 1977 ولم تحدث فتنه في صفها كتلك التي حدثت عام 1969 لتوالي بركات الانفتاح وتوسع عمليات الإصلاح الإسلامي وكسب الحركة في مجال الحياة العامة
استعجلت الحركة خطوات التمكين عام 1989 للظروف السياسية المعروفة وتولت مقاليد الحكم في السودان وقررت وقتها حل تنظيمها الخاص والانفتاح الكامل علي المجتمع السوداني و شركائها الجدد وأبقت علي مركز للقرار جمع بين قياداتها السابقة وقيادات الثورة العسكرية والسياسية في مكتب قيادي وهيئة للشوري علي المستوي القومي تكونت علي ذات النسق غير أنها اضطرت إلي الابقاء علي تنظيماتها الفئوية والقطاعية لتشرف علي تكوين أجهزة الدولة المختلفة والتي كانت تعاني من الاضطراب والضعف. كما استخدمت هذه التنظيمات لاعداد الدولة والمجتمع للدفاع بعد أن تكالب عليها الاعداء من الداخل والخارج و تحالفت المعارضة الشمالية مع الحركة المتمردة في الجنوب وقادت عمليات عسكرية في الجنوب والشرق بدعم امريكي واقليمي سافر.
لم تكن العلاقات بين كيانات الحركة والعمل العام واضحة للكثيرين ولم تطرح أمام الحركة الإسلامية تحديات و مسئوليات وطنية كبيرة كالتي طرحت بعد عام 1989م و لم يكن الأنفتاح الذى تحقق قبلاً بذات الإتساع حتى يمتحن الصيغة التي إرتضتها الحركة الإسلامية في العلاقة بين كيانها الخاص و تنظيمات العمل العام غير أن التحديات والتدابير التي إتخذتها الإنقاذ لم تكن بالامر اليسير علي تنظيمات الحركة الاسلامية وعضويتها – لاسيما انها لم تستقبلها برؤية كاملة - واضطرت الحركة في سعيها لبناء الدولة ومؤسساتها الي أن تدفع بالصفوف الاولي من قياداتها الي تلك المؤسسات ولم يبق في تنظيماتها الداخلية الا بعض من هؤلاء وعدد كبير ممن لم يكن لهم الخبره الكافية في ادارة الشأن الداخلي وتنسيق الجهود مع اخوانهم في مجالات ومؤسسات العمل العام. وقد كان من الصعب عليها - بإمكاناتها البشرية المحدودة - أن تستجيب لاحتياجات العمل على الصعيد الداخلي والخارجي وأن تشرف على العمل على الصعيد الخارجي للحكومة والحزب وتنسق بينهما. أذ سرعان ما توالي حدوث التقاطعات بين تنظيمات الحركة ومؤسسات الدولة والحكم علي كل المستويات ( ليس على مستوى الرئاسة وحدها كما يتراءى للبعض ) فقررت الحركة أن تحل هذه الكيانات المتبقية – لاسيما بعد أن توالت مخالفاتها للسياسات المعلنة - وتدفع بعضويتها تدريجيا الي مؤسسات الدولة والحزب الذي أنشأته وتركز جهودها في بنائهما وابقت علي مركز القرار الذي انشاته غير أن هذا الانتقال الكبير والتدابير المضطربة والتباين الذي حدث بعد ذلك بين القيادات في وجهات النظر في معالجة قضايا السودان المختلفة ادي الي انقسام كبير في صف الحركة الاسلامية وحزبها وحكومتها تم حسمه لصالح الابقاء علي الدولة والمشروع الاسلامي للاصلاح الشامل والذي خطت فيه الحركة خطوات واسعه ونجم عن ذلك خروج بعض قيادات الحركة بزعامة أمينها العام الدكتور الترابي وبعض عضويتها ليؤسسوا حزباً سياسياً معارضاً هو المؤتمر الشعبي. وإعتبر البعض ذلك بداية للمفارقة بين الجماعة و حزبها و حكومتها التي انشأتهما و بداية لمفارقة الايديلوجية التي قامت عليها
حاولت الحركة أن تؤسس بعد عام 2000م لعلاقات جديدة بين كيانها الخاص و الحزب و اجهزة الدولة الرسمية تضمن إستقلالية الجهاز الحكومي التنفيذي وتمكنه من رعاية عهده مع عامة الشعب بالشفافية ووفق القانون وضمان قدرته على الاستجابة للتحديات الكبيرة التي أمامه من غير إنكار للشراكة بينه وبين الحزب الذي يؤسس على ولاء أكثر مرونة ونظام يضمن إستيعابه لكل مؤمن ببرنامجه السياسي ولوكان من غير المسلمين وضمان حقه في الإشراف على إختيار مرشحيه لمؤسسات الحكومة وحقه المؤسسي في الإشراف على نفاذ برنامجه و في مراقبة أداء أعضائه ومحاسبتهم وفق لوائحه الخاصة. وانحصر دور كيان الحركة الإسلامية في دفع عضويتها الي المشاركة في الحزب وتقوية بنيانه وحقها في إعداد عضويتها للمشاركة فيه ومحاسبتهم عبر نظمها ومؤسساتها والتأكيد على واجبها في التأكد من الإستقامة على المسار الإستراتيجي وخلق المجتمع القائد بتفعيل أفراده وتأسيس مؤسساته السياسية والثقافية والخيرية والإجتماعية وغيرها بإعتبارها الضامن لنجاح المشروع الإسلامي والضامن لإستمراره رغم تقلبات الحكم والسياسة
غير أن ان الصيغة و الممارسة العملية لم تؤكدا بصورة واضحة على قومية الحكومة و مؤسسات الدولة التي يحكمها الدستور و القوانين العامة ويزيلا آثار الفهم الذي ترسخ في سنوات الإنقاذ الأولى و التي تعتبر الحكومة (واحدة من حاءات الإسلاميين الثلاث ) كما أنهما لم تؤكدا على الشراكة الحقيقية في الحزب للآخرين أو تحددا آليات فعالة للحركة لتؤدي دورها في المجتمع كما أن ظروف عدم الثقة التي أسست فيها العلاقة الجديدة و حرص المسئولين في الحزب و الحكومة على المشروعية الإسلامية التي اهتزت جعلهم يتسابقون إلى السيطرة علي تنظيمات الحركة علاوة علي أن عضوية الحركة التي كانت تدرك فعالية السلطان السياسي في العمل الإسلامي و التمكين في المجتمع و قلقها على المشروع برمته و خوفها من مآلاته و قلق الكثيرين من أن تضيع المثل التي ظلوا ينادون بها في خصم الموازنات والإمكانات المحدودة في الحكومة دفع البعض إلى منازعة القائمين على العمل السياسي و التنفيذي كل ذلك لم يمكن من تأسيس علاقات صحيحة بين كيانات العمل الإسلامي بل أن الحديث الذي دار في مؤتمرات الحركة الحالية حول قيومية الحركة المباشرة على الحزب و الحكومة قد يعيد إنتاج الأزمة مرة أخرى
نواصل إن شاء الله
--4-
اتجاهات جديدة للتدين خارجة على تنظيم و آيديولوجيا الحركات الإسلامية
بعد تصاعد حدة المواجهة بين حركة الإخوان المسلمين المصرية و بين السلطات السياسية من جانب و من جانب آخر بينها و بين المجتمع - بعد شيوع فكر الجماعات الإسلامية الإعتزالي و ميلان الحركة نحو التسلف - خرجت مجموعة من قياداتها منهم الشيخ محمد الغزالى رحمه الله و الشيخ يوسف القرضاوي ، والقاضي والمفكر طارق البشري، والمفكر وأستاذ القانون محمد سليم العوا، والمفكر والمحكم الدولي وأستاذ القانون الدستوري والوزير السابق أحمد كمال أبو المجد، والكاتب والصحفي فهمي هويدي، و المجموعة التي اصدرت صحيفة المسلم المعاصر و على رأسهم الدكتور جمال عطية . ظلوا كمجموعة واحدة متجانسة فكريا ومتصلة بصلات شخصية مباشرة ورغم استقلاليتها لم تتنازل هذه المجموعة عن الأيديلوجية العامة للحركة الإسلامية وإن كانت قد خرجت عن مؤسساتها التنظيمية كما أنها لم تتنازل عن واجبها في الدعوة و التجديد و الإنتصار لقضايا المسلمين عامة و الحركة الإسلامية على وجه الخصوص و قد إختار ريموند بيكر أستاذ العلوم السياسية بكلية ترينيتى الأميركية أن يتكلم عن هؤلاء في كتابه حول ظاهرة أسماها ( إسلام بلا خوف )
أحيا خطاب الحركة الإسلامية سنن الإسلام التي اندرست ومنها سنة الجهاد وتحكيم الشريعة الإسلامية وغيرها من السنن الاجتماعية .ووصل ما بين الصلاة والشعائر الإسلامية المسنونة وقيم الدين والعمل العام بعد أن كان التدين مظهراً من مظاهر اعتزال الحياة . ومهرباً من ابتلاءاتها وخرج الذكر الذي كان محصوراً في دور العبادة ووجدان العابدين ليصبح الحمد والتكبير والتهليل والتسبيح شعارات للحياة كلها و مكنت الشباب و المرأة و المثقفين و المشتغلين في الحياة العامة من التدين من غير اعتزال للحياة العصرية . غير أن هناك عدة عوامل أدت بعد ذلك إلى ظهور إتجاهات جديدة و متجددة للتدين غير النماذج التي قدمتها الحركة الإسلامية نذكر منها :
تصاعد المواجهة السياسية بين الحركات الاسلامية والانظمة الحاكمة والغرب ودعم الدول الغربية - في مقابلتها للحركات الاسلامية المعاصرة وما يعرف بالاسلام السياسي- لما تسميه بالانظمة والجماعات الاسلامية المعتدلة في الجزيرة العربية والخليج والتي كانت تحتضن الدعوات السلفية . و قدمت بعض الدوائر العربية الدعم للحركات السلفية وهي تواجه المد السوفيتي بالتعاون مع بعض الدوائر الغربية ، كما قدمت لها الدعم مرة أخرى وهي تواجه تنامي مؤثرات إنتصار الثورة الايرانية والتيارات الشيعية ويبدو أن ذلك كان أيضاً بدعم من بعض الدوائر الغربية التي ابدت إنزعاجاً لتنامي الفكر السياسي الجهادي الاسلامي وما كانت تسميه بظاهرة ( حزب الله ) مما أدى إلى تنامي التيارات السلفية ، هذا بالإضافة إلى تنامى التيار السلفي في السودان وافريقيا عامة لارتفاع اصوات الاقليات غير المسلمة في السودان وأفريقيا والوعي والنشاط الديني المسيحي والدور السياسي الذي تلعبه في السودان وحزام السافنا و إحساس الأفارقة من أصول عربية في تلك المنطقة لا سيما المسلمين منهم بأنهم مستهدفون كل ذلك في إطار الإستراتيجيات الغربية مما أدي إلى أرتفاع حدة التوترات في تلك المناطق و المواجهات كتلك التي حدثت في نيجيريا و مالى ودارفور
كما إستفادت الجماعات السلفية في السودان من إشتغال الحركة في عهد الإنقاذ بالعمل الإسلامي في مجالات الحياة العامة التي يصعب وصلها بنيات التدين حيث قلة النصوص الموجهة من القرآن و السنة و كثرة القضايا الإجتهادية و تشعب نوايا التدين بين الآجل و العاجل و الدنيا و الآخرة و استفادت من إنشغال عناصر الحركة الاسلامية الفعالة في النشاط السياسي والجهادي والتنفيذي ومن تراكم الاخطاء في تجربة الانقاذ والدعاية المعادية لعناصرها والحديث المتكرر عن الفساد والانشقاق الذي خيب آمال كثير من الاسلاميين محلياً وعالمياً والذي شوه النموذج الذي كانت تدعو إليه وصور قياداتها كقيادات سياسية تتصارع حول السلطة وتتسابق الى مغانمها
تأثرت الحركة الإسلامية السودانية - كما الحركة الام في مصر– بالفكر السلفي الوارد من المملكة العربية السعودية و دول الخليج و ذلك عندما هاجرت قياداتها بعد مطاردات نظام النميري لها في مطلع سبعينات القرن الماضي حيث وجدت الطريق ممهداً بالإخوان المصريين فاستقبلهم الملك فيصل و تعاونوا مع المملكة في حربها على الناصرية و الشيوعية التي دخلت إلي حديقة المملكة الخلفية في اليمن و شاركوها في التصدي للغزو الشيوعي لافغانستان من باب النصرة و المشاركة الدولية وانتهاز الفرصة لرفع قدرات الحركة القتالية للتصدي لعدوان الانظمة الطاغوتية وإن وقعت مشاركتهم في إطار الإستراتيجية الامريكية - السعودية في المنطقة إذ كانت الحركة تقدر كثيراً خطر الشيوعية على الإسلام ( كان الشيوعيون السودانيون يدربون شبابهم في اليمن الجنوبى على القتال ) وقد تولى الإخوان تجنيد الشباب الإسلامي للجهاد في أفغانستان و ساعدوا المجاهدين في إدارة المعركة سياسياً و إعلامياً و دولياً و توثقت علاقاتها بمجوعات المجاهذين الافغان وإمتدت العلاقة إلي ما بعد إجتياح طالبان لافغانستان و آوت حكومة الإنقاذ من عرفوا بالعرب الافغان بقيادة بن لادن بعد ذلك وقد دفعتها إلى هذا الموقف ضرورات عملية وطموحات مشروعها الدولي و الإقليمي وسعيها للإستفادة من قدرات المجاهدين الافغان القتالية وفي تهريب الاسلحة و تحريك الاموال
أفرزت تجربة الحركات الإسلامية اتجاهات اخرى جديدة للتدين لا سيما وسط الشباب تميل الى التكيف مع الواقع والحياة العصرية ولا تكلف صاحبها عناء التغيير . وتهتم بالتدين الشخصي وتبتعد عن العمل السياسي . والمواجهة مع السلطات السياسية القائمة .و تستغني عن الالتزام والعمل في اطار جماعات سياسية ( ايديلوجيا و مؤسسة ) ينبري لقيادة هذا التيار الجديد دعاة جدد كامثال عمرو خالد وطارق السويدان والجفري وغيرهم . يقدمون دعوتهم بأسلوب عصري ويتسخدمون التقنيات الحديثة في الاتصال ويستهدفون المثقفين وابناء الطبقة الراقية ونجوم الفن والسينما والرياضة ويقدمونهم كنماذج في الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة ويتمتعون بمهارات عالية في فن الخطابة والتأثير والاتصال الفردي المباشر عبر الوسائط الحديثة والحوار والرسائل المتبادلة وتقديم الاستشارات للمشاهدين ويميلون الى التيسير والتصالح مع الحياة العصرية والأوضاع القائمة وهو تيار اسلامي خارج - بصورة ما - على الحركة الإسلامية ومنقلب على منهجها ويستهدف قواعدها و يكتفي فيه الشباب بالطمأنينة الفردية الذهنية و النفسية التي يجدونها.
أظهرت الثورات العربية تياراً إسلامياً جديداً وإن كان قد تربى في البيئة السياسية التي هيئتها الحركات الإسلامية إلا أنه خارج على تنظيماتها السياسية و منقلب على بعض مواقفها و عجزها عن تحقيق تطلعات الشعوب الإسلامية في التحرر الوطني و التنمية الإجتماعية و الإقتصادية و - عينه على بعض التجارب الإسلامية التي فشلت في مرحلة الدولة و التى أحدثت توتراً في علاقات المسلمين مع الغير - ولا يجد حرجاً في إستخدام رموزها في ثورته ( صلاة الجماعة في الميادين العامة– الجمعة – الشهادة – التكبير و التهليل ) كما لا يخفي هذا التيار إفتتانه بنموذج الحرية و الرفاهية الذي حققته الدول الغربية وربما أفرزت ظروف الثورات و الدعم العسكري و السياسي الذي قدمه الغرب للثوار و عودة معظم قيادات الإسلاميين من دول المهجر الأوربي و الأمريكي و توليهم المناصب القيادية إلي تطويير علاقات غربية جديدة مع التيارات الإسلامية وربما دفع ذلك الحكومات الغربية إلى قبول الرأي الذي يدعمه بعض المفكرين الغربيين و الذي يدعو إلي إعطاء الإسلاميين فرصة ليحكموا مما قد يدفعهم لكي يتنازلوا عن كثير من المثل التي تكسبهم التأييد الشعبي ويصبحوا اكثر عملية في التعامل مع الواقع الدولي و الآخر أو ينتهي بهم الأمر إلى الفشل
نواصل إن شاء الله
-5-
تجربة حزب العدالة و التنمية في تركيا و المغرب
كنا قد أشرنا من قبل إلى أن الجماعات الإسلامية بدأت تركز الحديث علي مقاصد الشريعة الإسلامية و كلياتها بدلاً من الحديث عن الإحكام الجزيئة و عينها على التجربة السودانية و مآلاتها التي أشرنا إليها و تجربة المملكة العربية السعودية و مثيلاتها في عهد طالبان و تجارب المحاكم الإسلامية في الصومال و تصاعد التوتر بين العالم الإسلامي و الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر و المراجعات التى أجرتها الجماعات الإسلامية المصرية في سجون النظام و قد أدت هذه المراجعات إلى مشاركة بعض الجماعات الإسلامية و على رأسها جماعة الإخوان المسلمين في العملية السياسة بعد قطيعة طويلة و خاضت حماس إنتخابات السلطة الفلسطينية التي أفرزتها إتفاقيات أوسلو مع إسرائيل
إنصرفت الأنظار و الآمال التي انعقدت على التجربة السودانية إلى النموذج التركي بعد فوز حزب العدالة و التنمية في الإنتخابات و توليه السلطة و تحديه للنظام العلماني - بعد أن كان الإسلاميون يتابعون بغبطة شديدة أخبار المحجبات التركيات اللاتي كن يتحدين العلمانية و يجددن أشواق الخلافة القديمة التي أسقطها أتاتورك قبل ربع قرن من الزمان و قد كانوا من قبل يتابعون محاولات نجم الدين أربكان الحثيثة و المتكررة و هو يؤسس حزب النظام الوطني عام 1970م و السلام الوطني عام 1972م و الرفاه عام 1983م و الفضيلة عام 1998م و يناور العلمانيين مركزاً على الإصلاح الإقتصادي و التصنيع و المدخل الإجتماعي حتي يلتقط الراية تلامذته ليؤسسوا حزب العدالة و التنمية بولاء إسلامي أكثر سيولة وقد كانت هذه المناورات و الحضور الدائم على الساحة السياسية يشبه التجربة السودانية و يختلف عنها من حيث أنه يعتمد على قاعدة إسلامية قوية أسستها الجمعيات الصوفية – السنية بعيداً عن توترات السلفيين و اختارت المدخل الوئيد و المتدرج غير المنقلب على المشروعية العلمانية و هو لا يستعجل معركته معها ليبذ خصومه السياسيين في ميدان الإنتخابات الذي اختاروه و يحارب العلمانية المتوغلة في الجيش و الخدمة المدنية و القضاء بأدوات الديمقراطية و يفسح المجال للمدارس الدينية و الجمعيات و آليات الحركات الإسلامية لتقود الإصلاح و يكتفى في الحزب بما أسماه مدخل الديمقراطية المحافظة التي ترتكز على ثقافة التسوية و الإصلاح و تطبيع النظام و الواقعية في التغيير السياسي إذ ورد في برنامج الحزب ( ويتبنى القيام بالعملية السياسية في إطار القيم الديمقراطية المعاصرة وليس في إطار إيديولوجي وبهذا، يحتضن حزبنا كافة المواطنين على اختلاف أجناسهم وأصولهم العرقية واعتقاداتهم وتصوراتهم للعالم دون أي تمييز بينهم. وعلى أساس هذا المفهوم التعددي فإن من الأهداف الأساسية لحزبنا تطوير الوعي بالمواطنة، وأن نتشارك الشعور بالفخر والانتماء للوطن الذي نحيا جميعًا فوق ترابه. ومن مبادئ حزبنا الأساسية القول المأثور "حريتنا من حريتك". ويعتبر الحزب أن من أهم واجباته تحقيق الديمقراطية من خلال جعل الفرد في مركز جميع السياسات، وتأمين وحماية حقوق الإنسان الأساسية وحرياته...................) وورد فيه أيضاً :
( ضمان حرية التفكير والتعبير وفق المعايير الدولية، من خلال التعبير عن الأفكار بحرية، واعتبار الاختلافات ثراءً فكريًا.
ينظر حزبنا إلى الدين باعتباره أحد أهم المؤسسات الإنسانية، وإلى العلمانية باعتبارها شرطًا للديمقراطية لا يمكن الاستغناء عنه، كما يعتبره ضمانة لحرية الدين والوجدان. ويعارض الحزب تفسير العلمانية على أنها معاداة للدين، ويرفض كذلك الإساءة إليها أو الإضرار بها.
تعد العلمانية أساس الحرية والسلام الاجتماعي؛ حيث توفر في الأساس لأتباع الأديان والمعتقدات المختلفة حرية ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم، والتعبير عن قناعاتهم الدينية، ومن ثم تنظم لهم حياتهم في هذا الإطار، كما تنظم أيضًا حياة أولئك الذين لا ينتمون إلى معتقد بعينه.
يرفض حزبنا استغلال القيم الدينية المقدسة والانتماءات العرقية في السياسة. ويعتبر أن كل ما يجرح مشاعر المتدينين من تصرفات وإجراءات، ومعاملتهم بطريقة مختلفة بسبب تفضيلهم لأنماط حياة دينية أمرًا معارضًا للديموقراطية ومنافيًا لحقوق الإنسان وحرياته. وفي المقابل، يرفض الحزب كذلك ممارسة أي قمع ضد من يعيشون أو يفكرون بشكل مختلف، من خلال استغلال الدين لتحقيق مصالح دينية أو سياسية أو اقتصادية أو أي منافع أخرى.)
ومن الواضح أن الحزب لم يصرح بأنه حزب إسلامي و لم يورد في برنامجه ما يؤكد ذلك بوضوح و لم يتكلم عن الإصلاحات الإسلامية في مجالات التشريع و الإقتصاد و الممارسة السياسية و لو بعد حين و إنما حكم الناس عليه بمواقف الحزب الذي ورثه و الذي كان يتزعمه نجم الدين أربكان و مواقف قياداته الشخصية و بعض المواقف التي تبناها من قبل داخلياً و خارجياً لذلك يرفض البعض أن يضع تجربته ضمن التجارب الإسلامية و يرى البعض الآخر أن المواقف المعلنة للحزب هي مواقف تاكتيكية و أن قاعدة الحزب لا بد أن تدفعه في يوم ما إلى المعركة المؤجلة و الرغبة في التعبير عن نفسها في مجالات الحياة العامة وتبدو إتجاهاته في مجال السياسة الخارجية منفعلة بالقومية التركية المهيمنة عليه و قد طرب بعض قادة الحزب لإطلاق الإعلام الغربي عليهم إسم ( العثمانيين الجدد ) واتهامه بمحاولة إعادة أمجاد دولتهم الأمر الذي جعل الدول العربية - لا سيما مصر و المملكة العربية السعودية - تتوجس من محاولة تركيا لعب دور سياسي قيادي إقليمي غير أن هذا الدور وجد قبولاً في الدول العربية في الشمال الإفريقي و يعرقل طموحات الحزب في هذا المجال معارضة الإتحاد الأوربي الذي يريد أن يؤسس لشراكات أمنية و إقتصادية مع هذه الدول لا سيما في مجال الطاقة فيما عرف بالشراكة اليورو - متوسطية في إطار تقاسم الأدوار مع الولايات المتحدة الأمريكية
و توالت بعد تجربة تركيا و الإهتمام بكليات الدين ظهور ما يسمى بأحزاب العدالة و التنمية و الحرية و الإصلاح و الكلمات الاربع تحوي شارات و اضحة لطبيعة هذه الاحزاب و خياراتها الفكرية و منهجها في العمل و قد كانت دولة المغر ب من تلك الدول التي تم فيها تمييز واضح بين تنظيم الدعوة و الحزب السياسي فالأول تنظيم صارم يأخذ عضويته بالعزائم و الثاني مرن يسع كل مؤمن ببرنامجه السياسي ويؤكد على مرجعيته الإسلامية والتي تقوم على الوسطية والتجديد وتنوع الرؤى الإسلامية وتلاقح الإسلام مع الثقافة المحلية والاعتراف بالمكون البشري في هذه الرؤية لا سيما في تدبير الشأن العام الذي يقوم به الحزب والذي يعمل وفق قواعد الديمقراطية والاعتراف بالتنوع والتعدد والتعايش بين الأديان وحرية الاعتقاد كما ترفض هذه الرؤية حصر الشريعة في الجانب الجنائي وتميز ما بين الشريعة والقانون فقد أورد الحزب في وثيقة مؤتمره السادس الذي انعقد في عام 2008م في باب (الهوية المذهبية للحزب) على المبادئ الآتية:
(يعتبر الإسلام أسمى الثوابت المشكّلة للهوية الوطنية، باعتباره إطاراً مستوعباً ومنفتحاً على كافة مكوناتها الوطنية، الإسلام الذي اغتنى عطاؤه التاريخي والحضاري بإسهام مختلف المكونات الثقافية للشخصية المغربية، والذي أبدى أبناؤه والمنتسبون إليه انطلاقاً من تعاليمه الداعية إلى التعارف والتعاون بين الناس قدرة كبيرة على الانفتاح والتعايش مع غيره من الثقافات والحضارات. وفي هذا الصدد ينطلق حزبنا في فهمه للإسلام من الرؤية المنفتحة نفسها والتي شكلت عنصر القوة في التجربة التاريخية والحضارية للأمة، رؤية تؤمن بالتنوع والتعدد والتعايش بين الديانات، وبحرية العقيدة، واعتبار قاعدة المواطنة أساس بناء المجتمع والدولة).
(إن الإسلام بالإضافة إلى كونه مبادئ وأحكاماً ومقاصد، فهو أيضاً كسب بشري متواصل من جهة الفهم والممارسة، فكل جيل مطالب بأن يعيش تجربته الخاصة في الإسلام، وأن يجدد فهمه له ويستنبط من كليات أحكامه ومقاصده ما يمكن من خلاله الاستجابة لما يطرحه الواقع المتجدد من قضايا وإشكالات. والتجديد المتواصل في نظرنا ليس شرطاً في المعاصرة فقط، بل هو شرط في الأصالة أيضاً، إذ إنه لا محافظة على الثوابت إلا من خلال فهم متجدد للدين، وبالتالي فالتجديد إذ يراعى الثوابت التي حسم فيها الشرع، فإنه يتوجه إلى الفضاء الأوسع المرتبط بالواقع لإبداع الاختيارات الملائمة التي من شأنها إصلاح أحوال الناس ورعاية مصالحهم وتطوير النظم السياسية والاقتصادية وفق مبادئ العدل والمصلحة والخير في تفاعل مع عطاءات الكسب البشري).
(حزب العدالة والتنمية حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية، له برنامج سياسي مدني يعمل على تطبيقه وفق القواعد الديمقراطية، ويجيب عن الأسئلة المطروحة سياسياً باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام، ولذلك فهو يسعى إلى الإسهام في تدبير الشأن العام من قبل مواطنين مدنيين ذوي خبرة في الميدان وفق القواعد الديمقراطية، وبالتالي فإن وظيفة أطر الحزب تختلف عن وظيفة الأئمة أو الفقهاء الذين يبينون الأحكام الشرعية ويصدرون الفتاوى في النوازل المعروضة عليهم).
(والمجال الأساس لاشتغال الحزب هو مجال تدبير الشأن العام، بما يعنيه ذلك من تأكيد على التمييز بين مجال الاشتغال السياسي وأدواته وخطابه، ومجال اشتغال الحقل الديني والدعوي وأدواته وخطابه، وهو التمييز الذي لا ينبغي أن يفهم منه الفصل التام بين الدين والسياسة. والعمل السياسي بطبيعته عمل تنافسي تداولي مما تقتضيه نسبيته واجتهاديته؛ وبالتالي فإن انطلاقنا من المرجعية الإسلامية لا يلغي تعدد الاجتهادات والاختيارات، ولا يصادر حق الآخرين في العمل السياسي، في ظل تعددية سياسية وتنافس بين البرامج السياسية المختلفة ضمن الإطار الدستوري للأمة ، وضمن دائرة التوافق على الثوابت. ويحدو الحزب أمل واسع في أن يصير الدفاع عن هوية الأمة وحماية ثوابتها أمراً مشتركاً بين جميع المكونات السياسية للبلاد بالدرجة نفسها من القوة والحماسة. وتدل التجارب الناجحة والمستقرة للديمقراطية في العالم على أن ذلك لم يأت إلا بعد أن حسمت تلك البلدان في مسألة التوافقات التاريخية الكبرى ذات الصلة بقضايا المرجعية والمكونات الأساسية للهوية الوطنية).
(والتأكيد على أن مجال اشتغال الحزب هو المجال السياسي وتدبير الشأن العام لا يعني عدم اهتمام الحزب بقضايا المرجعية الإسلامية. فالتجارب السياسية والحزبية في أعرق الديمقراطيات في العالم، تؤكد عودة قضايا المرجعية الدينية وقضايا الهوية والقضايا الأخلاقية إلى ساحة العمل السياسي. إضافة إلى ذلك فإن ارتباط السياسة بالمرجعية الإسلامية يجعلها منسجمة مع ثقافة المجتمع وقيمه، مما سيرفع درجة تفاعل المواطن وانخراطه في عملية الإصلاح السياسي، فضلا عن مد السياسة بقوة تخليقية تكون من عوامل تحصينها من الوصولية والانتهازية والارتزاق، والفساد في تدبير الشأن العام).
(على أن الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية وجب أن يتم ضمن آليات الاشتغال وأدوات الخطاب السياسي، أي باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام مما يقتضي التركيز على مقاربتها تشريعياً ورقابياً، وترجمتها إلى إجراءات عملية واقعية، في إطار برامج سياسية تطرح ديمقراطياً ضمن المؤسسات المنتخبة ذات الصلاحية. ومن نتائج هذا الفهم أن الحزب تبنى مبكراً خطاباً مدنياً يستدعي أساساً المصطلحات الحديثة، مثل الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والدولة المدنية ودولة الحق والقانون والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، مع الإصرار على أن فهمه للمرجعية الإسلامية يجعلها تستوعب هذه المصطلحات الحديثة).
(إن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة، والدين والدولة ليست هي الفصل المطلق بين المجالين، وليست هي التماهي المطلق بينهما. فالدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية على الرغم من ذلك هي ممارسة بشرية نسبية قابلة للخطأ. ولا ينبغي إضفاء طابع القداسة عليها. ومن هنا لا مجال في هذا الفهم لأية صورة من صور نظرية الحكم الإلهي أو ما يعرف بالثيوقراطية).
(وإذ نؤكد في حزب العدالة والتنمية على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأسمى للتشريع، فإننا نفهم الشريعة في معناها الواسع الذي يتضمن العقيدة والأخلاق والأحكام، وإقامتها هو مجال لعمل المجتمع بأسره ولا يقتصر على الدولة أو على سلطة القانون.
ونعتبر أن اختزال الشريعة في نظام العقوبات تشويه لها، فإقامة العدل شريعة، ولا يفوتنا التأكيد على وجوب التمييز بين مجال الشريعة ومجال القانون. فإذا كانت الشريعة تضع المبادئ العامة وبعض الأحكام التفصيلية، فإن مجال القانون هو صياغة نصوص تشريعية أو تنظيمية. وهي العملية التي ينبغي أن تتولاها هيئة مخول لها حق التشريع في المجتمع بطريقة ديمقراطية. أما تطبيق القانون وأحكامه فهو من صلاحيات السلطة التنفيذية وحدها، ولا يجوز للأفراد العاديين أن يباشروا بأنفسهم تطبيق القوانين على الآخرين ولا تنفيذ الأحكام القضائية.)
(ومبدأ الحرية العقدية والدينية واجتناب أي شكل من أشكال الإكراه في الدين، عقيدة وشريعة وأخلاقاً، مبدأ مطرد. والمعول عليه فيها هو الإقناع والاقتناع والرضا، وليس سلطة الدولة أو إكراهات القانون. غير أن الإقرار بمبدأ الحرية لا يتعارض مع الإقرار بمبدأ المسؤولية ومبدأ الملاءمة بين حق الفرد وحق الجماعة. فالحرية الفردية، وحرية الإبداع والتعبير، حريات مكفولة ما لم تصطدم بحريات الآخرين، وبالحق في حماية الحياة الخاصة. ولا قيود على الحرية إلا القيود المنصوص عليها قانونيا، وفي الحالات الضرورية التي نصت عليها المواثيق الدولية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي نص على أن الحرية "ينبغي أن لا تمس بحقوق الآخرين أو سمعتهم أو بالأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأدوات العامة، أو أن تتضمن ممارستها الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، أو أن يكون فيها تحريض على التمييز أو العداوة أو العنف". ومثل ذلك، القيود التي تفرضها الضوابط الفنية في حالة الإبداع الفني، أو الضوابط المهنية في حالة حرية الصحافة، أو الضوابط التي يفرضها الضمير العام حين يتعلق الأمر بالمس بالأخلاق العامة. والمعول في هذا الأمر أساساً على ديناميكية المجتمع. أما القانون فلا يتدخل إلا حين المجاهرة بالمس بالآداب العامة أو الحياة الخاصة).
يري البعض أن السقف الذي يضعه الملك للعمل السياسي قد لعب دوراً كبيراً في تشكيل هذا الإختيار فقد إكتفى برنامج الحزب الذي خاض به الإنتخابات الاخيرة بالنص في برنامجه على ان الشريعة هي مصدر التشريع و فصّل في النهوض بدور وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية في النهوض بالقيم الأخلاقية و تعزيز التدين وتيسير اداء الشعائر الإسلامية و المساجد و الأوقاف و إدماج التعليم الدينى و العتيق و لم يشر إلى أي إصلاحات إسلامية في النظام التشريعي والإقتصادي و السياسي غير الإصلاح الخلقي وفي السلوك الفردي للعاملين في تلك المجالات
نواصل إن شاء الله
-6-
التجربة المصرية و التونسية
أما في مصر فقد أنشا الإخوان حزباً سياسياً هو حزب العدالة و الحرية و تبنوا فكرة الدولة المدنية بمرجعية إسلامية من غير بيانٍ للطريقة التي يتم بها تحقيق هذه المرجعية الإسلامية ولا تبدو الرؤية في هذا المجال واضحة أمامهم فقد ورد في برنامج حزبهم في الباب الثاني( الدولة والمبادئ السياسية) تحت عنوان دولة مدنية :
( الدولة الإسلامية بطبيعتها دولة مدنية، فهى ليست دولة عسكرية يحكمها الجيش ويصل فيها للحكم بالانقلابات العسكرية، ولا يسوسها وفق أحكام ديكتاتورية .كما أنها ليست دولة دينية (ثيوقراطية) تحكمها طبقة رجال الدين - فليس فى الإسلام رجال دين وإنما علماء دين متخصصون – فضلا عن أن تحكم باسم الحق الإلهى، وليس هناك أشخاص معصومون يحتكرون تفسير القرآن ويختصون بالتشريع للأمة ويستحوذون على حق الطاعة المطلقة ويتصفون بالقداسة، وإنما الحكام فى الدولة الإسلامية مواطنون منتخبون وفق الإرادة الشعبية والأمة مصدر السلطات وأساس تولى الوظائف المختلفة فيها الكفاءة والخبرة والأمانة، والأمة كما هى صاحبة الحق فى اختيار حاكمها ونوابها فهى أيضا صاحبة الحق فى مساءلتهم وعزلهم .
والفرق الأساسى بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول هو مرجعية الشريعة الإسلامية التى تستند على عقيدة الأغلبية العظمى من الشعب المصرى، والشريعة بطبيعتها إضافة إلى الجوانب العبادية والأخلاقية تنظم مختلف جوانب الحياة للمسلمين بيد أنها تنظمها فى صورة قواعد عامة ومبادئ كلية ثم تترك التفاصيل لهم للاجتهاد والتشريع بما يناسب كل عصر ومختلف البيئات وبما يحقق الحق والعدل والمصلحة وهذا دور المجالس التشريعية على أن تكون المحكمة الدستوريةالعليا هى الرقيب على هذه التشريعات، مع الأخذ فى الاعتبار أن غير المسلمين من حقهم التحاكم إلى شرائعهم فى مجال الأسرة والأحوال الشخصية .كما أن هذه الدولة مسئولة عن حماية حرية الاعتقاد والعبادة ودور العبادة لغير المسلمين بنفس القدر الذى تحمى به الإسلام وشئونه ومساجده )
يقول الدكتور أسامة صالح بقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة عن كيفية تحقيق مرجعية الشريعة الإسلامية للحزب:
(يرى الحزب أيضاً أن المرجعية الإسلامية يجب أن تطبق من خلال الرؤية التي يتوافق عليها الأغلبية البرلمانية في المجلس التشريعي المنتخب من قبل الشعب انتخاباً حراً ونزيهاً). إذن فعلى الرغم من إيمان الحزب بضرورة تفعيل مرجعية الشريعة، فإنه يسند هذا الدور التشريعي لا إلى رجال الدين "أو المتخصصين في الدين"، وإنما إلى أعضاء البرلمان المنتخبين انتخاباً شعبياً حراً).
(لم يعين برنامج الحزب جهة دينية يناط بها التأكد من تطابق التشريعات التي يسنها البرلمان مع الشريعة، بل إنه ذهب إلى أن "المحكمة الدستورية العليا هي الرقيب على هذه التشريعات. ويعد هذا في حد ذاته تطوراً كبيراً للفكر السياسي للجماعة، حيث يعبّر عن تقبل أكبر لفكرة الدولة المدنية ذات المؤسسات التي تستند إلى الإرادة الشعبية.
يتضح ذلك التحول النوعي بشكل جلي، إذا عدنا ل "للإصدار الأول" لبرنامج الإخوان المسلمين الذي خرج إلى النور في 25 أغسطس 2007م. فقد كان البرنامج الأول ينص على تشكيل هيئة من كبار علماء الدين، يقتصر حق انتخابها على المتخصصين في علوم الدين، ويعاونها في العمل عدد من المتخصصين في الشئون الحياتية المختلفة، على أن يأخذ البرلمان رأيها في كافة المسائل التشريعية، ويكون رأيها ملزماً في كافة القضايا التي تتعلق بالنصوص قطعية الثبوت والدلالة. أما فيما عدا ذلك من أمور، فيحق للبرلمان أن يتبنى بأغلبيته المطلقة رأياً يختلف عن رأي الهيئ . أما الآن، فإن حذف هذا الجزء من برنامج حزب الحرية والعدالة ينصرف معناه إلى أن المحكمة الدستورية قد أصبحت (في رأي الحزب) هي وحدها صاحبة الحق في الفصل فيما إذا كان التشريع يخالف الشريعة أم لا، وذلك من باب تطبيق نصوص الدستور التي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع").
يخشى البعض أن تكون مواقف الحزب المعلنة مواقف تكتيكية مرحلية وذلك للاختلاف الجوهري بينها وبين البرنامج الذي اقترحته الجماعة لحزبها المزمع إنشاؤه عام 2006م، ومواقفها السابقة من التنوع السياسي وقضايا حرية التعبير والمظهر العام، علاوة على تأثر قطاع واسع من عضوية الجماعة بفكر الجماعات الإسلامية و(تسلّف) قطاع آخر هذا بالإضافة إلى أن القيادات ما انفكت تحاول أن تكيف الوضع الحالي الذي فرضته عليها الثورة الشعبية ليتماشى مع المنهج المرحلي الذي وضعه الإمام البنا للوصول إلى مرحلة الخلافة منذ أكثر من تسع عقود.
أما في تونس فتبدو خيارات حزب حركة النهضة أكثر وضوحاً فتجربة الحزب كجماعة دعوة ليست بالعراقة التي عليها الحركة المصرية علاوة على أن تونس ليست لديها مكانة مصر الدولية و الإقليمية و قد إختار الحزب الديمقراطية لنظام الحكم و اوكل امر التغيير الإسلامي للمجتمع الذي تبنى فيه فكرة تشبه فكرة المجتمع القائد التي تبنتها الإنقاذ في أعوامها الاولى لا غرو فإن زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشى هو أحد تلاميذ الدكتور حسن الترابي إذ ورد في بيان المؤتمر التاسع للحزب و الذي انعقد فيما بعد الثورة :
( وقد صادق المؤتمر على رؤية للمجتمع ودوره في بناء المستقبل مؤسسة على المبادئ الأسلامية في هذا الشأن . وتقوم هذه الرؤية على ما جاء في الخطاب الديني من تكليف للمجتمع بأن يكون هو القائم بمهمة التعمير في الأرض بصفة أصلية "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس"، "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" ووفق هذه الرؤية فان المجتمع مكلف بان يقوم بنفسه على توفير قوّته وفاعليته عبر مبدإ التكافل الإجتماعي بمؤسسة الأوقاف والزكاة وغيرهما وهو الذي يحدد سياسيا مشروعه الحضاري ويحدد المشرفين على تنفيذه، وهو الذي يتولى بصفة أساسية مهمة الإنجاز الحضاري في كل اتجاهاته .)
( والدولة في هذه الرؤية هي التي تدير هذا الدور المجتمعي، توفيرا للشروط والأسباب، وحفاظا على الأمن وبسطا للعدل، وبذلك يتم التوازن بين المجتمع والدولة، ويحل بالتدريج محل ماهو حاصل من الخلل في هذه المعادلة . ومن هذه الرؤية المجتمعية تنبثق مؤسسات المجتمع ومناشطه وقضاياه، ففي مجال الثقافة يدعو المؤتمر إلى مشروع ثقافي وطني يؤسس لقيم الحرية والكرامة والعدالة، ويحرر الضمير الجمعي من التبعية والانهزام الحضاري، ويقوم على حرية الإبداع في نطاق احترام تلك القيم وبغاية تحشيد الطاقات لإنجاز المشروع المجتمعي بقوة وفاعلية )
و قد إجتهد الاستاذ راشد الغنوشى مؤسس حركة النهضة في تونس في تحرير فكرة الديمقراطية و المواطنة و الدولة المدنية و الحرية و حقوق الإنسان عن إرتباطهما في التجربة الغربية بالعلمانية الشاملة وحاول أن يؤصل لها في الإسلام ( في تقديرنا أن هذا الارتباط حتى ولو صح لا يحمل أي دلالة لزومية وإنما مجرد حدث غربي، والغرب اعتاد في بحثه للظواهر الاجتماعية أن ينطلق من مسلّمة مركزيته الكونية، فما يصح في تاريخه ومجتمعاته يصح قانونا للبشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها! وقد تقدم أن الارتباط بين الديمقراطية والعلمانية هو من هذا القبيل هو في أعلاه مجرد واقعة وليست قانونا، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقة بين فكرة المواطنة والعلمانية أو المواطنة والدولة القومية. فلقد عرف العالم ومنه أوروبا دولا قومية علمانية لا تعترف لكل مواطنيها بحق المساواة بل قد تقترف في حقهم اضطهادا يبلغ حد الإبادة ، كما فعلت النازية والفاشية، ولم يكتسب السود في الولايات المتحدة، مع أنها دولة قومية علمانية، حقوق المواطنة ولو من الناحية النظرية إلا في ستينيات القرن الماضي، ولا يزال المسلمون يتعرضون وكذلك أعراق وديانات أخرى لضروب بشعة من التمييز والقمع في دول قومية علمانية عديدة. بما يؤكد أن هذا الربط لا يحمل أي دلالة عابرة للتاريخ وإنما هو مجرد واقعة، ومقابل ذلك قامت في الغرب والشرق حكومات ديمقراطية على أساس المواطنة دون أن تكون علمانية بل تتبنى دينا رسميا مثل المملكة المتحدة البريطانية حيث تجتمع في رئاسة الدولة السلطتان الدينية والسياسية، وكذا حكومات غربية وشرقية أخرى..........)
لا يبدو أن معظم هذه الحركات الإسلامية قد قرأت جيداً التجربة السودانية لتتجنب أخطاءها التي أشرنا إليها ويبدو أنها تتحسب كثيراً للضغوط الأجنبية و ضغوط العلمانيين و النظام الملكي في الداخل كما أنها تحاول أن تتجنب المعركة التي لا محالة ستخوضها في يوم من الايام لأن نجاح المنهج الوئيد الذي اختارته رهين بقدرة القيادة على إقناع قاعدتها ( المتسلّفة ) و سوق التيار السلفي المتنامي في المجتمع من حولها لذلك يتخوف الكثيرون من أن تتطور مواقف هذه الحركات الإسلامية إلى قبول العلمانية و قد تعود المراقبون على تحول كثير من مواقفها التاكتيكية إلى مواقف إستراتيجية في ظل غياب الرؤية و العمل الإقليمي و الدولى المشترك و ضعف القدرات
ومما لا شك فيه إن الناس بعد أن إقتنعوا بخطأ العلمانية و مجافاتها للفطرة و الواقع لا زالت لديهم مخاوف من طرح الإسلاميين لتصورهم عن علاقة الدين بالسياسة منها :
- أن تجربة الكنيسة في أوربا أعطت رجال الكهنوت المسيحي إمتيازاً على الآخرين كما أن اليهودية تميز عنصر اليهود المنتسبين إلى إسرائيل و تحمل بعض الطوائف الإسلامية الشيعية و الصوفية ذات التفكير الثيوقراطي حيث يكون الإمتياز بالنسب إلى الرسول (ص) وزعيم الطائفة و تميز الجماعات السنية من يعرفون بعلماء الدين ولا تقف عند دورهم في توجيه الرأي العام
- تلتبس علي الكثيرين رؤية الإسلاميين للحرية و هم يتكلمون عن العبودية و المقررات المسبقة في الوحي ولا تقبل الجماعات السلفية التمييز بين السنة التشريعية و غير التشريعية و تتوسع في النص المقدس لتضم إليه أقوال الصحابة و السلف و اجتهاداتهم كما يتوسعون في الحديث عن شمول الشريعة الإسلامية حتى ضيقوا مساحة العفو و التجربة الشخصية
- يتحول إستمساك كثير من المتدينين إلي عصبية و تتحول مبادئ الدين الإنسانية ( من حيث المدى و ليس المصدر ) إلى أدوات تعبر عن مصالح الطائفة مما دفع الآخرين إلى الإساءة إلى الأديان عندما أضافوها إلى اسس العرق و اللون في التمييز بين الناس حيث لاأن التدين كسبي وطريق السمو فيه مفتوح لكل الناس بينما العرق و اللون ليسا كذلك و إنما يعني الناس في ذلك عصبية الملة الدينية
سليمان صديق علي
suliman sidig ali mohammed [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.