كانت الولاياتالمتحدةالامريكية والى عهد قريب دولة عنصرية تضطهد الاجناس القادمة من آسيا وامريكا اللاتينية، وتميز الجنس الابيض القادم من اوربا عليهم.. فهم غير مسموح لهم بالدخول الى معظم الاماكن التي يرتادها البيض.. لكنّ التمييز الاكبر كان من نصيب الافارقة القادمين من القارة السمراء.. فهؤلاء كانوا في ذاكرة الامريكان البيض ليسوا سوى عبيد جلبهم الأجداد وأصبحوا ممتلكات للأبناء.. وبالفعل فقد كان الامريكان يوقعون صكوكاً مع النمساويين والبرتغاليين لتوريد آلاف من مواطني أفريقيا سنوياً الذين أصبحوا عبيداً للبيض بحكم الواقع .. تماماً مثلما يوقعون عقوداً لتوريد المواشي والخيول.. وكان الأفارقة يباعون ويُشترون في الاسواق مثلهم مثل السلع والبضائع والمقتنيات.. ويخدمون في بيوت ومزارع أولئك دون أن يحصلوا على حق في مقابل ما قدموه من خدمات.. دعك من الحقوق الاخرى.. ولكنّ الأمريكيين تداركوا هذه الاوضاع بُعيد أوروبا مباشرة.. حيثُ يشهدُ التاريخُ لمملكة الدنمارك أنّها كانت أول من أصدر تشريعاً الغي تجارة الرق داخل اراضيها.. ثمّ تبعتها ولاية فيرمونت الأمريكية.. وانتشر الأمر من بعد ذلك في كل الولاياتالامريكية الخمسين.. وصارت امريكا تُعد السفن مع أوربا لمطاردة مهربي العبيد. وقد كان حرياً بالامريكيين أن يتداركوا ذلك الأمر المشين الذي يضعضع المجتمعات ويغرس الاحقاد في داخلها.. لانهم كما قال لهم الرئيس الاميركي السابق نيكسون «أمريكا هي دولة مهاجرين».. ويقصد انّ نهضة أمريكا تعتمد على هؤلاء المهاجرين، لذا كان لا بد من اعطائهم حقوقاً تشجعهم على بذل المزيد من الجهد من أجل خدمة أمريكا.. إن تحرير العبيد وإلغاء تجارة الرق يعتبر قراراً اقتصادياً قبل أن يكون قراراً إنسانياً.. والذي لولاه لما كانت امريكا اقوى دولة في المعمورة الآن نتيجة لما حدث من تمازج بين الاعراق المختلفة في هذا البلد.. وهكذا تحررت الولاياتالمتحدةالامريكية من الرق، وتساوى جميع المواطنين الأمريكيين بعد أن تساووا في الحقوق والواجبات.. ولكنّ مخلفات العبودية كانت ومازالت تلقي ببعض ظلالها على المجتمع الامريكي من وقتٍ لآخر.. رغم أنّ الدستور الامريكي نصّ على تحريمها صراحةً منذ عام 1865م.. بل ومشوا في إحقاق الحقوق للسود خطوات سريعة وواسعة كانت محط إعجاب العالم أجمع.. وقد أنتج ذلك رفاهاً اقتصادياً سريعاً على أمريكا.. للدرجة التي صار فيها الشباب يهاجرون من الدول الاخرى إليها بالطرق السليمة والقانونية، وإذا لم يجدوا بُداً ركبوا القوارب والمراكب الشراعية البدائية لكي يصلوا الى ارض الاحلام حيث الفرص والحرية.. معرضين انفسهم للاهوال والمخاطر.. والى الموت في كثيرٍ من الاحيان.. لكنهم كانوا يفضلون ان يكونوا ضحايا للحوت واسماك القرش في عرض البحر على ان يكونوا ضحايا لحكامهم وجلاديهم!! وحينما ترشح أوباما لمنصب الرئاسة الأمريكي.. قال المحللون إنّ أمريكا بذلك الترشيح سوف تصبح في مواجهة حاسمة مع مبادئها التي ينص عليها دستورها.. لأنّه قانونياً ليس هنالك ما يمنع أمريكياً أسود من الترشح للرئاسة.. ولكن عملياً فإنّ منصب الرئيس كان محجوزاً للأمريكيين المنتمين للطائفة البروتسانتية.. وعرقياً لمن ينتمون الى العرق الأنجلوساكسوني.. ولم يشذ عن شرط الديانة «الشرط الخفي» إلا الرئيس الأسبق جون كيندي، وقد اُغتيل قبل أن يكمل فترته الرئاسية.. وقد قيل وقتها إنّ ديانته كانت سبباً وراء اغتياله.. ولعل هذا هو السبب الذي منع وزير الخارجية الأسبق كولن باول من الترشح لمنصب الرئيس، وهو الخشية من الاغتيال، أما أوباما فهو بعيد كل البعد عن العرق الأنجلوساكسوني.. وهنالك أحاديث تتردد كثيراً عن انتمائه للإسلام.. ورغم ذلك انتخبه الأمريكيون رئيساً لهم.. وقد كانت العملية الانتخابية برمتها عملاً واعياً من شعبٍ واعٍ.. فلم يستعملوا فيها العصى والسيخ والهراوات والأسلحة النارية.. نقول ذلك ونحنُ نعلم أنّ الأمر لم يخل من مشكلات تظهر هُنا وهناك.. فمحاولة الاغتيال التي جرت لأوباما في عام 2008م كانت تعبيراً عن رفض بعض الأمريكان لتولي أسود سدة الرئاسة الامريكية.. وقد اعترف منفذو العملية بذلك.. وقالوا إنّهم يمثلون شريحة كبيرة رافضة لأوباما.. ولكنّ الواضح أنّ تلك المحاولة كانت عملاً معزولاً، لأنّ أغلبية الشعب الأمريكي أدلى وللمرة الثانية برأيه في أوباما في صناديق الاقتراع.. وهذا يعني ان المرة الاولى لم تكن صدفة بل يعني أن هنالك تغييرات حقيقية في رؤية الشعب الامريكي تجاه القضية العنصرية. إنّ وعي الشعوب الأوروبية في العمل السياسي يستحق كل التقدير والاحترام لما احدثه من تغييرات لمصلحة الانسانية قاطبة بل ويستوجب منّا أن نقتدي بكل حسناته، وأن نترك السيئ منها.. فالمرشح الجمهوري ميت رومني تقبل الخسارة بروح طيبة وهنأ أوباما بالفوز.. وقال: «فوز أوباما هو إرادة الشعب الأمريكي.. وأنا أحترم إرادة شعبي».. فلم يعقد الرجل مؤتمراً صحفياً يعلن فيه عن تزوير الانتخابات.. لم يدعُ دول العالم لعدم التعامل مع حكومة أوباما باعتبار أنّها غير شرعية.. ولا استدعى خلايا الجمهوريين النائمة منها والصاحية في الجيش الامريكي للانقلاب على أوباما وانتزاع السلطة منه غدرا وخيانة كما يحدث في دول العالم الثالث.. وفي هذا المجال يحلو لي أن أعيد سرد حوار طريف دار بيني وبين المغفور له السيد داؤود عبد اللطيف، وذلك في اول زيارة لي الى العاصمة البريطانية لندن.. حين سألني: «ما الذي لفت نظرك في هذه المدينة؟» فقلت له «لم ار عسكرياً واحداً طوال اقامتي وتجوالي في المدينة».. فقال «الجيش البريطاني به خمسة ملايين عسكري.. لم ولن يفكر واحدٌ منهم في احداث انقلاب على السلطة»، فالكل هناك يحترم الدستور ويحترم القانون والديمقراطية والتقاليد التى اعتادوا ان يتعاملوا بها على مر السنين.. وكذا الحال في باقي المجتمعات المتحضرة. ولم يقف المرشح الجمهوري رومني عند ذلك، بل هنأ أوباما بالفوز وتمنى له التوفيق في خدمة الشعب الامريكي.. وهذا أمر في غاية الأهمية.. فالرئيس هو خادم للشعب.. وليس ملكاً عليه ولا سيداً له.. وقد كفل الدستور الامريكي مراجعة الرئيس في أخطائه عبر المؤسسات التشريعية والرقابية مما يعني انّه ليس مطلق الصلاحية.. فهو دائماً في حاجة لإقناع الكونغرس لإجازة قرارته وزيادة المخصصات المالية لمشروعاته.. وهذا درس بليغ في العمل السياسي الديمقراطي يجب أن يجد منا التقدير والنظر اليه باعتبار أنّه قدوة واكثر تقدماً من الفوضى التى تعيش فيها مجتمعات العالم الثالث. إنّنا نسترجع مثل هذا التاريخ بمناسبة فوز باراك حسين أوباما بولاية ثانية ليصبح أول رئيس أسود يدخل الى البيت الأبيض بعد ان كان السود عامة غير مسموح لهم بدخول المحلات العامة.. وهذا الدخول لم يكن صدفة وإنما تكريس لقبول الشعب الامريكي للمساواة ودفن العنصرية في مقبرة التاريخ كإحدى المخلفات الضارة في تاريخ الإنسانية.. وهذا ما يستدعي منا ان نأخذ نحن دول العالم الثالث العبرة من هذه التجربة ودولتنا واحدة من دول هذا العالم ويجب ان نفكر في هذه التجربة ملياً.. وعلينا ان ننزع الثياب القديمة البالية.. ثياب العنصرية والقبلية والجهوية... ونرتدي الثياب الجديدة التي تتناسب مع روح العصر التي أصبحت من اهم متطلبات النهضة.. فالنهضة لا تحدث في بلاد تأكلها الاحقاد والضغائن.. فالعنصرية تكبلنا بسلاسل من حديد فلا نستطيع ان نتقدم مقدار شبر للأمام.. ونحن في السودان يمكننا أن نفعل مثل ما فعل الأمريكيون إذا نبذنا العنصرية بكافة اشكالها والوانها، وتوجهنا بقلوب صافية وافكار جديدة منفتحة ومتحضرة إلى بناء وحدتنا الوطنية وتنمية بلادنا.. وهذا امر ليس بالعسير اذا تسلحنا بالإرادة الوطنية الحقة لتحقيق ذلك، للخروج من الواقع الذي بسببه العنصرية تكاد تمزق بلادنا أرباً أرباً، وتجربة جنوب السودان ماثلة أمامنا.. ومن هذا المنطلق نأمل أن يشكل فوز الرئيس أوباما للمرة الثانية تأثيراً إيجابياً لتحقيق التغيير المطلوب. وإذا لم نفعل ذلك قطعا سنعيش خارج العصر الذي تجاوز التفرقة بين الناس بعد ان أيقنوا ان الانسانية لا تستطيع ان تتعايش إلا في ظل المساواة بين الناس أجمعين. الصحافة