للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    نائب البرهان يصدر توجيها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف نجونا مما يعرف ب"الشبيحة"...!،،،هناك (....) شممت رائحة الموت...!
نشر في الراكوبة يوم 29 - 11 - 2012


[email protected]
بدأت إحدى سيارات الجيش التركي تقترب ، بينما كنت عالقة في السلك الشائك للحدود، لا أنا في سوريا ولا أنا في تركيا ، ولا كنت أعلم آنذاك إلى أين سينتهي بي المطاف في هذه الرحلة ...!
توقف عقلي عن التفكير...ولم أكن قادرة إلا على الاستسلام
لما هو قادم بلا مقاومة ، فقد أرهقني حقاً ما لاقيته طوال اليوم ولم يعد بوسعي احتمال المزيد .
فوضت أمري إلى الله ،ولجأت للتراب الذي بقيت عليه بلا حراك وأنا عالقة ..لا أرى لا أسمع لا اتكلم للحظات حتى انتهت تلك الأوقات العصيبة، فالليل كان "ستّارا" ومرت العربة بسلام دون أن يلاحظني أحد ربما الأشجار المنتشرة في هذه المنطقة لعبت دوراً في تشتيت الأنظار.
انتظرت لدقائق حتى لملمت أعصابي المتناثرة في أرجاء
المكان، وتمالكت نفسي من جديد ، بعدها ظهر من اختفوا وتركوني وحدي ، وعاودوا مساعدتي على العبور مرة أخرى ..محاولاتهم هذه المرة باءت بالنجاح ..فقط خرجت منها بخرق ملابسي في أكثر من جهة.
نصر العودة..!
استقبلني زملائي على الحدود ، بعلامات النصر ..نعم النصر
فالنصر في مجالنا هو تغطية ما يجري في سوريا والوصول لقلب الأحداث ومن ثم العودة بأقل خسائر ممكنة .
كعادتنا تبادلنا التهنئة بالعودة سالمين ، دون الخوض في كثير
حديث ، فكلنا يعلم أن القادم من هناك ليس بحاجة لشيء سوى الارتياح من عناء التفاصيل ولو لبعض الوقت.
ربيع لم يستمر..!
بابتسامة تعيد للحياة رونقاً وإن كان لحظياً ..جاءتني
فطومة الطفلة السورية الجميلة ابنة الخمس سنوات ، التي اعتدت لقاءها قرب المخيم وعناقها كل يوم عند الحضور إلى الحدود ومغادرتها...بين يديها الصغيرتين عالم كبير من الأحضان الخضراء ، ومن عينيها الزرقاوين تطل براءة تذكرني بقول محمود درويش بأنه ما يزال على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
سألتني فطومة وكأن مظهري الذي عدت به يحكي ما لاقيته دون الكلام : "كنتي في سوريا ما هيك...؟..اجبتها نعم ،
فقالت : "من شان الله أوعديني المرة الجاية خديني معك اشتقت لضيعتنا كتير" ، لم اتمكن من وعدها بالطبع ،واكتفيت بإبلاغها أنه سياتي اليوم الذي تعود فيه لبلدتها.
فارقت فطومة بقبلة على جبينها ، وقد حوّلت هذه الصغيرة خريف يومي لربيع لم يدم طويلا ، ويبدو أنه ارتبط بحضرتها فقط.
أرق وبرد...!
قضيت ليلتي اُصارع الأرق في الأراضي التركية ببلدة غازي عنتاب حيث اُقيم ، فكان انهاكي النفسي يفوق الجسدي بمراحل..
حاولت استراق بعض الوقت للنوم بعيدا عن ذاكرتي التي تعج بأحداث يوم عنيف .
استيقظت في الصباح الباكر...كان الجو ماطرا ، لسعات شتاء برد تركي حاصرتني ،ولم تتمكن نار المأساة في دواخلي من التغلب عليها، ولا حتى دفء كوب الشاي الأخضر الذي اتناوله كل صباح ، ففضلت البقاء بالفندق لإنجاز ما قمت بتصويره من عمل في رحلتي إلى سوريا وقد كان ، لكن ما إن انتهيت وأخذت قسطاً من الراحة إلا وبدأت أفكر في التخطيط للذهاب إلى سوريا مرة أخرى والاستفادة من أخطاء رحلتي الأولى.
إلى سوريا مرة أخرى..!
وجهتي هذه المرة إلى سوريا كانت عبر مدينة أنطاكيا جنوبي
تركيا ، حيث الطبيعة الخضراء الساحرة ، على نهر العاصي والتي يتجلى كبرياؤها عند سفح جبل سيلبيوس وتبعد المدينة حوالي ثلاثة ساعات ونصف برا بسيارة "حمولة" عن مكان إقامتي في غازي عنتاب..سكان انطاكيا غالبيتهم مسلمين ويتحدثون اللغة العربية ما سهّل مهمتنا هذه المرة.
قررت أن تكون رحلتي من هناك لشمال سوريا بلا مهربين رغم هروبي مرة أخرى ، فاستعنت فقط بأبناء المنطقة من البلدين الذين يعرفون طبيعة هذه المنطقة الجبلية والتنسيق مع رجال الجيش الحر عند الوصول.
أدخنة تتصاعد..!
أخذني من أخترتهم رفقتي إلى قرية غواتشي التركية ، ظللنا
نمشي مسافة ما يزيد عن ساعتين سيراً على الأقدام في طرق وعرة عبر الجبال.. نرى من بعيد أدخنة سوداء تتصاعد في السماء جراء القصف العنيف لطائرات الأسد على بلدات سورية عدة،
لم يكن هناك انتشار كبير للأمن التركي في تلك المنطقة ،
وربما وجود أبناءها معي ذلَّل عقبات مرور الحدود عبر ممرات آمنة.
الطريق كان زاخرا باللقاءات ، فخلال مسيرنا بين الأحراش
لاقينا عشرات النازحين الفارين من هول الاشتباكات في
منطقة جسر الشغور في طريقهم إلى الداخل التركي بحثا عن فرصة للجوء يبقى بالنسبة للكثيرين منهم خيارا يقيهم أخطار الحرب وإن كرهوه .
جاءوا وهم يحملون همومهم وما تبقى لهم من أغراض.
كان الغالبية منهم أطفال ونساء وكهلة ساروا لمسافات
طويلة في طريق نحو المجهول ، فقد يمنعهم رجال الجيش التركي الدخول إن صادفوهم، وقد يصلوا ولا يجدوا مكاناً لهم في المخيمات ، فيبقوا أرقاما إضافية في العراء بين صفوف انتظار ليد عون من أي جهة لا يأبهون كالآلاف الذي يعيشون في المخيمات المؤقتة على الجانب السوري من الحدود بين البلدين وإن كانت الأولى بلادهم التي طردتهم خوفا من الحرب ، فالثانية هي الملجأ الذي لم يتمكنوا من الوصول إليه.
معاناة فرار الللاجئين..!
كان أبو عبد الله ذلك الكهل الذى تجاوز الثمانين خريفًا من
العمر، يتوكأ على عصاه علَّها تعينه على مصاعب ما قد يلاقيه خلال الطريق استهل حديثه إلى متسائلا : "عليش ها التعب كله واحنا ما بنعرف الطريق..طريقنا وعر كتير يا بنتي وما بنعرف ايش سوينا من شان يخلونا نترك ديارنا وبلادنا واحنا بها العمر، ما بحكي عحالي بس ، كيف ما تشوفي معنا نساء وصغار ما بيحملوا هالعناء ايش ذنبهم
هادول يا بنتي ايش ذنبهم ووين العالم من اللي بيديروه فينا..؟وين حقوق الانسان يابنتي...؟! ،
لم تكن لدي إجابة لأقولها إليه فما كان مني إلا أن ساعدته لكي يرتاح أرضاً من عناء الطريق ، واتجهت لسيدة ثلاثينية برفقتها ثمانية اطفال في أعمار مختلفة قالت لي :
"ما تسأليني الله يخليكي ويش فيني ، انا فيني اللي مكفيني وزايد ويمكن يكفي بلاد ومن كتره والله ما بينقال وما بدي شي غير بس اولادي ما يموتوا ، فوتي واتركينا لحالنا الله يخليكي " ،انهت كلامها وهي تشاور بيديها لأبتعد عنها ،عذرتها لطريقة حديثها فبكاء طفلها الرضيع الذي تحمله على كتفيها ، وصراخ أخته التي تكبره بما يقارب العامين إضافة لألف ألف كلمة شكوى وسؤال من بقية أطفالها. كان كفيل لشرح حالتها واستيائها من الكون بأسره.
حقائق مرة...!
حاولت مع غيرها ، فكان الكثيرون يخافون مما يمكن أن يحل بهم مما وصفوه من بطش الأسد ورجاله إن ظهروا في وسائل الإعلام.
قررت فراقهم لكن صوت إحدى السيدات دفعني للبقاء لسماعها وهي تقول : "بتريدي تعرفي ليش احنا جينا هون ..انتي بتعرفي " وواصلت :
"إيه بتعرفي..يعني ما بتعرفي إنه بيرموا علينا البراميل المتفجرة؟؟ وإنه بيقصفوا بيوتنا بالطائرات؟؟ ، معقول ما بتعرفي إنه بيقتلونا وبيقتلوا صغارنا بلا سبب، والله بتعرفي وحتى لو ما بتعرفي شو راح تسويلنا ؟؟؟ راح توقفي الحرب؟؟ راح تآويينا؟؟
كلكم بتاجروا بقضيتنا أنته الإعلام وما بتقدمولنا شي".
احترمت غضبتها ، ولم اعلق على ما قالته فبعض كلامها صحيح؟؟ بالفعل ليس بيدي وقف الحرب لكنها لم تكن قراري ولم أشارك فيها ، عذرتها لأنني أعلم كما قالت غالبية ما يجري لهم ، لكني جئت إلى هنا وحاولت معايشة ولوبعض تجاربها لأعرف أكثر ..ولكي تكون الصورة التي انقلها أصدق من تلك التي تردني من وكالات الانباء ويمكنني استخدامها وانا جالسة على مكتبي المكيف واكتب وانا ارتشف من فنجان قهوة ما يعينني على التعامل مع المآسي كمواقف عادية ، ومع القتلى كمجرد أرقام عابرة عن طريقي إلى إحدى النشرات...!
تركتها ومضيت حزينة لأن ما قالته عن متاجرة الكثيرين
بقضيتها صحيحا ، ولأنني أعلم من الحقائق ما لا يقال ، رغم كل محاولاتي البحث عنها ولو كلفني ذلك حياتي .
لكن تلك السيدة لا تعلم أن سرد كل الحقائق قد لا يسمح لها ولغيرها الوصول إلى بر آمن، وقد..وقد...وقد....!
خطوط إمداد خلفية...!
واصلنا سيرنا إلى الداخل السوري لنصف ساعة أخرى كنا
نستمع فيها لدوي انفجارات يهز الجبال التي كنا نسير خلالها ولا نعلم مصدره ، خلال الطريق رأينا آثاراً منتشرة لقواعد إمداد خلفية يبدو أنها للجيش السوري الحر من خلال البستهم الملقاة على الأرض.
بعض الخيام لا تزال منصوبة ، وبها بقايا طعام وجوالات للطحين ،وأحذية بما يشبه (البوط) وأسلحة بعضها بيضاء وبعضها خفيفة لكنها خَرِبة...!
تقدمنا قليلا بعد أن قمنا بالتصوير ، فالتقينا بأحد عناصر الجيش الحر قال لنا إن هذه المواقع بمثابة خطوط امداد خلفية بالفعل يلجؤون إليها بعد عناء معارك ضارية مع رجال الأسد قبل سيطرتهم على غالبية البلدات التي باتوا يسيطرون عليها كما يقولون.
حذرنا الرجل من الاستمرار في ذات الطريق لما وصلهم من
إشارات ومعلومات عن كمين مرتقب لما يعرفوا بالشبيحة يمكن أن تحدث خلاله اشتباكات عنيفة وتراق فيه الكثير من الدماء ،
فكرت لوهلة في طرح اقتراح على من كانوا معي بتغطية هذاى الحدث ،فقد كنت أتمنى رؤية الشبيحة على الطبيعة ،وربما الحظي بسبق تغطية تلك المعركة ، لكن لهجة الحسم التي سأل بها زميلي المصور عن الطريق الآخر لغت كل محاولاتي لإقناعهم ، فهو يعرف تماما ماذا أريد ..؟وكيف أفكر...؟
رائحة الموت....!
قرار الجماعة فرض علي الاتجاه إلى الطريق الآخر الذي أرشدنا إليه أحد عناصر الجيش الحر ، بالتنسيق مع أفراد كتيبته للقاءانا هناك.
بالفعل ذهبنا معهم إلى بلدات منطقة ريف جسر الشغور وهي بكساريا وبداما وعين البيضا وخربة الجوز وغيرها من البلدات التي يسيطر عليها الجيش الحر .
شوارع تلك البلدات تحكي قصص معارك لم يمر عليها وقت طويل، فلا تزال الدماء باقية على جنبات الطريق ، ورائحة الموت تزكم الأنوف في كل مكان ، ولا تزال الشعارات المؤيدة للأسد باقية على جدرانها رغم انتشار علم الثورة بين مبنىً وآخر من المباني القليلة التي صمدت وسط كل ما يحيط بها من ركام وأنقاض...!
قصص النسوة ...!
لا كهرباء في هذه البلدات ..ولا ماء إلا من القساطل الموجودة في أطراف كل بلدة ، أما الطعام فيقتصر على ما تخبزه النسوة من الطحين القليل الذي يحضره لهن الجيش الحر لإطعام أطفالهن ورجال الحي.
بين نارين تعيش هؤلاء النسوة نار الخوف ونار الحاجة،
كانت أحداهن تخبز على فرن صغير بجوار بيت مهدوم ، وهي لا تدري أي نار تُسوِّي عجينها ، اقتربت منها لأتحدث إليها فرفضت، كما رفضن غيرها لأن غالبية البلدات التي نزحن منها لم يُحسم فيها الموقف على الأرض لأي من أطراف النزاع بعد.
ابلغتها أنني جئت إلى هنا لمساعدتها وسجلت لها وعداً بعدم
القيام بما يمكن أن يؤذيها فاتفقنا أن أخفي وجهها قائلة والدموع ترغرغ في عينيها :
"والله لو شافوني بيقتلوا اولادي بيكفي مات زوجي ما باقيلي غير أولادي، وهما قوة واحنا ضعاف بس تكالنا على الله"
حاولت طمأنتها مرة أخرى بأنها مثل أمي ولن أخلف وعدي
معها أبدا ، اطمأنت إلي نسبيا فذكرت أنها نزحت من جبل الاكراد إلى هنا لأن الجيش الحر يسيطر على هذه المناطق التي يجدونها أكثر أمانا من غيرها وإن لم يكن ذلك كافيا للشعور بالأمان كما روت لي،
فطائرات النظام تقصف المباني بين وقت وآخر واحتمال الخطر يبقى موجودا لكنه أقل من ضيعتها على حد قولها ، سألتها عن الوضع في جبل الأكراد وأبلغتها أنني أفكر في الذهاب إلى هناك،
لكني تفاجأت بردة فعلها إذ احتضنتني وظلت تبكي بحرقة لا
أعرف سببها وما إن هدأت قليلا إلا وقالت : "انتي مش قلتيلي أني مثل أمك بالله عليكي لا تروحي هونيك أكيد أمك بتنطر رجعتك ارجعي لأمك يا ابنتي اسمعي كلامي لاتروحيلها خبر الله يرضى عليكي ارجعي" اختتمت حديثها ويد تمسح دموعها المتساقطة والأخرى تربت بها على كتفي ذهبت اتجول في المنطقة لرصد الاوضاع هناك ولقاء أناس
أخرين، فإذا بشابة عشرينية تقلب الملابس في مياه ساخنة حد
الغليان موضوعة في اناء فوق جمرات الفحم، بينما تحاول ابعاد صغيرها الذي لم يتخطى العامين عن نار الفحم المشتعلة كما دوخلها ،
سألتها عما تفعل قالت لي إن هذه وسيلتها الوحيدة لغسيل
الملابس ، اسمها أم أحمد زوجها انضم لصفوف الجيش الحر ، روت لي أنها جاءت من جبل التركمان بسبب الاشتباكات
العنيفة الدائرة هناك ، أما عن حالها هنا فقالت إنها تفترش الأرض لتنام وصغيرها كل ليلة وهي مسكونة بالخوف ،
وأنها لا تزال تحزم حقائبها استعدادا للرحيل في حال تجدد
أعمال العنف في هذه المنطقة ، فالجيش السوري عندما يحاول استعادة منطقة تمكن الجيش الحر من السيطرة عليها يكون أكثر شراسة من أي وقت مضى ..!
حصيلة اللقاءات..!
خرجت من لقاءاتي بالنازحين في الداخل السوري ببؤس
الحال، ونقص المعونات مع حلول فصل الشتاء ، ومن لقاءاتي بقيادات الجيش الحر في هذه الأماكن خرجت بشكاوى متكررة بنقص الذخيرة أو وصول أسلحة فاسدة عن طريق بعض محاولات الاختراق لصفوفهم من قبل من يصفونهم بالمُندسِّين ممن يدَّعون أنهم انشقوا من صفوف رجال الأسد لينضموا للجيش الحر ويكونوا بمثابة نواة لتسريب المعلومات ما يسهل عليهم مهمة ما يطلقون عليه القضاء على الإرهابيين.
أموات على قيد الحياة...!
غربت شمس هذا اليوم الحافل بأجواء الخذلان والانهزامات،
وحل الليل معتَّقاً بسديم عتمة واقع كان لابد من فراقه
فما أصعب شعور هؤلاء الناس بالمنفى في أرض الوطن ، ليعيشوا حياتهم بطعم الشتات وسط أكوام الخراب ، لا يتحدثون إلا إذا لزم الأمر لكنهم في ذات الوقت يتقاسمون همومهم كل ليلة كما يتقاسمون خبزهم ، ولو بمجرد نظرة مواساة ومؤازرة يتبادلونها مع بعضهم البعض..
هم يتشبثون بآخر خيوط الضوء وهي تصارع احتضار النهار ..وفي الليل ينتفضون كالريح خوفا من المجهول الذي قد يحمله لهم فجر يوم جديد.
هي قصص أموات على قيد الحياة ، واقعهم أكثر قساوة من
سرده، وقد تعجز حروف كل لغات العالم عن وصفه كما هو.
طريق العودة...!
عدنا في طريقنا كما أتينا ، ظللنا نسير ونسير ليلا في
ذات الطرق الجبلية الوعرة ولا نكلم بعضنا البعض ، لا صوت إلا لأقدامنا عندما ترتطم بحجر أو صخرة تكاد توقع أحدنا أرضا وسط الظلام الدامس ، فالضوء كان ضمن الممنوعات المُحرَّمة علينا في هذه الرحلة ، ولو كان نور جهاز "موبايل" لأنه سيجعل منا هدفاً لا محالة.
كلما تعبنا جلسنا لدقائق للارتياح قليلا، ومن ثم المواصلة
حتى عدنا بأمان وإلى هنا أكتفي بهذا القدر من نقل معاناة المدنيين السوريين العُزّل الذي هم ضحايا هذه الأزمة. وأخيرا أعتذر لما سببته لكم من ألم عن غير قصد ،رغم أن الواقع كان أكثر قساوة مما يمكن أن تتخيلون لكن هذا ما تفرضه علي واجبات مهنة البحث عن المتاعب...! ودمتم
السوداني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.