في كل عام ومع إيداع المراجع العام تقريره عن مستوى أداء الجهاز التنفيذي وما يصاحبه من إفرازات سالبة قوامها الفساد المالي القائم على الاختلاسات والتزوير وما إليها من موبقات مالية، تضج المجالس وتظل ألسنتها تلوك حجم الفساد الذي يمضي في تواتر متزايد عاماً بعد آخر غير آبه بما تتبناه وتتشدق به الأجهزة التشريعية والتنفيذية، وما تعلنه من حرب شعواء على مكامن الفساد وعزم أكيد على اجتثاثه واقتلاعه من جذوره، وخير دليل يمكن الاستناد إليه ما جاء في متن تقرير المراجع العام الأخير تحت قبة البرلمان، وما احتواه من أوجه الفساد المالي والإداري، حيث كشف تقرير المراجع العام أن جرائم المال العام والمخالفات المالية للفترة من سبتمبر 2011م وحتى أغسطس من العام الجاري بلغت اكثر من «175» مليون جنيه وسط زيادة للتجاوزات بالولايات وصلت 381% عما كانت عليه في العام الماضي، فيما قفزت تجاوزات المنح والقروض إلى «721» مليون جنيه. وأفاد بأن تكلفة التعاقد الخاص للقطاعات المختلفة بلغت مليار جنيه، من ضمنها فئات غير نادرة، بينما لم تقدم «25» وحدة حكومية حساباتها للمراجعة حتى تأريخ إعداد التقرير وتقديمه للهيئة البرلمانية. ولعل من أخطر أوجه الفساد والتفسخ الإداري، عدم الخضوع لآليات المراجع العام وممارسة النشوز عليها في عنجهية وخروج عن الشرعية الدستورية والقانونية على مرأى الكل، دون أدنى حياء، الأمر الذي اعتبره بعض المختصين وائداً لكل بذرة أمل مرتجى في تحسن الحال واجتثاث منابع الفساد بشتى ضروبه، وأبانوا أن فرص نجاح محاربة الفساد تكون دوماً ضئيلة في ظل هيمنة الحزب الحاكم على مفاصل السلطة والثروة في البلاد، لتعذر القدرة على انتقاد نفسه وسياساته وتجريم منسوبيه، وأضافوا أن هيمنة الحزب على سلة الثروة تعتبر المفسر الأول لعدم فاعيلة آلية مكافحة الفساد الذي ظل يراوح مكانه بل يتزايد يوماً إثر آخر بالرغم من مرور ما يناهز أو ينيف عن العام منذ تأسيس هذه الآلية. وأرجع المختصون عدم القدرة على حراسة المال العام وحمايته من التغولات وصد الأيدي الممتدة إليه، إلى غياب الرقيب عليه الذي يلتزم بتطبيق القانون وإنفاذ مواده ولوائحه على كل مخالف، ويرون أن المشكلة ليست في القوانين إنما تكمن علتها في من يطبقها. قلة حيلة محاربي الفساد: وما يجري على أرض الواقع وما تمور به تقارير المراجع يفضح قلة حيلة محاربي الفساد، لتطل إلى المخيلة ثمة تساؤلات حيرى تبحث عن إجابات شافية عن مغزى تكوين الآلية وجدوى تقارير المراجع العام كل عام، طالما أن الفساد في زيادة مطردة بالرغم من أن بعض المتابعين والمختصين يرون أن مجرد الإشارة إلى حجم الفساد يعد خطوة نحو محاربته. المشكلة ليست في القوانين: يقول البرفيسور عصام بوب إن القوانين التي تحرس المال العام موجودة، وتشتمل على مبدأ الحسابات الصحيحة ومراقبة الأداء العام لموظفي القطاع العام والتحصيل من النوافذ الرسمية عبر مستندات مالية معتمدة، ثم الصرف عن طريق الجهات المختصة وفق منشورات وتعليمات وزارة المالية التي توكل لها مهمة القوامة على المال العام بالبلاد التي تتطلب رقابة مركزية حقيقية لم تسلم من جيوش التفتت جراء فيدرالية الدولة التي لم يصادفها استعداد، مما أعطى الإحساس بوجود تسيب في تحصيل وصرف المال العام. وأضاف بوب أن محاولة تشديد الرقابة قد لا تجدي في ظل الفيدرالية الحالية، وإنه من الأفضل العودة إلى نظرية إعادة الهيكلة، وأن يبدأ ذلك بتطبيق المراجعة بصورة صحيحة لا سيما في ظل تبعيتها لرئاسة الجمهورية وامتلاكها من اللوائح ما يكفيها للمحاسبة بصورة صحيحة، لأن ما يقوله ويعلن عنه كبار المسؤولين لا يجد طريقه للتطبيق، والدليل على ذلك استمرار الفساد وزيادة نسبة الاعتداء على المال العام. تخوف من فقدان السيطرة: وزاد بوب بأن الأمر في طريقه إلى الخروج عن السيطرة والتحكم فيه، ولا يجدي معه ترياق سوى إعادة الهيكلة، فمازالت الحوافز تترى وضبط الإنفاق الحكومي في غياب تام، ويرجع بوب الخلل إلى سوء تنفيذ القوانين، وقال إن الحل يكمن في إعادة الهيكلة بالكامل لجهة عدم جدوى أية قوانين أو تعليمات في ظل تربع الفوضى على مرابع الولايات التي يسود فيها الصرف غير المقنن، ولفت إلى سيادة تحويل الصرف من بند على آخر التي يعاقب عليها القانون، غير أنه يحدث كل يوم بسبب نقصان البنود أو عدم كفاية الاعتمادات أو عدم احترام ما يخصص لأوجه صرف معينة، مما يدعو للاعتقاد بأن من يقوم على الأمر بالولايات لا يحترم قرارات المركز، ويواصل توجيه سهام نقده وملاحظاته وقراءاته للواقع الاقتصادي بالبلاد قائلاً لاسيما على مستوى استشراء الفساد وزيادة وتيرته وعدم تقديم «25» وحدة حكومية للمراجع العام إن مجرد تشكيل آلية حكومية لمكافحة الفساد في السنة الماضية يعد معلماً مهماً لظاهرة الفساد واعترافاً صريحاً بتفشيه واتساع رقعته، علاوة على ما حمله تكوين الآلية من إشارة خفية إلى ضعف الأجهزة الرقابية المنوط بها الوقوف على أوجه الفساد وكشف النقاب عنها، غير أن بوب يرى أن الآلية لم يؤت تكوينها الأكل المنشود. الآلية لم تقوَ على فعل شيء: ويقول بوب إن كل وقائع الحاضر تشير إلى أن الآلية لم تقوَ على فعل شيء في إيقاف مد الفساد، وإن خير شاهد على ذلك تقرير المراجع الأخير، وأرجع سبب فشلها إلى أن تشكليها جاء من الأجهزة التي تحوم حولها شبهات الفساد، وقال إنه يتوجب إعادة هيكلة الأجهزة الإدارية والتنفيذية للابتعاد عن شبهات الالتفاف حول الفساد. وعن الوحدات الحكومية التي لم تقدم حساباتها الختامية للمراجع العام وخرجت عن بيت طاعته يقول بوب إن من أخطر مظاهر الفساد المالي والإداري في أي نظام حكم انفصال مؤسسات بعينها عن القواعد الإدارية للدولة، وعدم توافر بيانات عن أدائها لا سيما في وضع اقتصادي متراجع. وزاد قائلاً: إن ما برز من تقرير المراجع العام لوسائل الإعلام لم يوضح أسباب عدم تقديم «25» وحدة حكومية حساباتها الختامية، الأمر الذي يشي إلى أن ثمة قوة خفية تقف وراء تلك الوحدات وتدعم موقفها من عدم تقديم حساباتها الختامية للمراجع العام. وختم بأنه لا مناص ولا مخرج من الأزمات والأدواء الاقتصادية التي تعاني منها البلاد سوى إعادة هيكلة المنظمة الإدارية والمالية حتى ينعم المواطن بحقوقه الكاملة وتعاد الهيبة للمؤسسات المالية التي تشير كل الدلائل إلى فقدانها بوصلة التحكم في الولاية على المال العام. المطلوب التعامل بحسم دون تراخٍ: ومن جانبه يقول الدكتور محمد الناير إن آلية مكافحة الفساد لم يظهر لها أثر على أرض الواقع تجري به وسائل الإعلام، وزاد قائلاً إنه كان يتوقع أن يظهر أثر نشاطها في تقرير المراجع العام، وأن عدم تقديم بعض الوحدات الحكومية حساباتها الختامية للمراجعة العام ربما يكون لأسباب فنية أو إجرائية، أما إن كانت ترفض المراجعة علناً وتتهرب منها فلا بد إرجاعها إلى حمى بيت الطاعة القانونية والتشريعية التي تنظم عملها، لجهة أن عدم خضوعها للمراجعة مخالفة صريحة للإجراءات والقوانين تتطلب التعامل بحسم مع كل وحدة ترفض أو تتمترس بحسابتها بعيداً عن عين المراجع العام. ويزيد الناير قائلاً إن المراجع له من السند القانوني ما يخول لأي فرد من منسوبيه الولوج في أية وحدة حكومية بغية الوقوف على المستندات الآلية والإدارية وسير العمل بها حتى دون سابق إخطار للقائمين عليها. ويزيد الناير قائلاً إن على المجلس الوطني النهوض للعب دوره المنوط به بالصورة المرجوة في متابعة أية وحدة حكومية لم تقدم حسابها الختامي، وذلك عبر الملاحقة للجهاز التنفيذي للدولة ومراقبة أدائه دون أدنى تراخٍ أو مجاملة، لجهة أن الناس والمؤسسات سواسية أمام القانون، وألا كبير عليه، وحتى تلك المؤسسات التي تتمتع بطبيعة خاصة لا بد أن تخضع للمراجعة العامة. الجمع بين السلطة والثروة مفسدة: وغير بعيد عن إفادات سابقيه يقول المراجع العام السابق لحكومة السودان محمد علي محسي، إنه لا توجد دولة على وجه البسيطة تجمع بين السلطة والثروة تنتقد نفسها وتقدم على تعرية منتسبيها، وفي ذلك يقول محسي إن الجمع بين السلطة والثروة سبب رئيس في الخلل الإداري والتنفيذي. واستبعد محسي أن تكون للآلية حديثة التكوين الفاعلية اللازمة لإنجاز مهمتها، لكونها لم تأتِ بعيداً عما يجري بالجهاز التنفيذي، فأعضاؤها من لحم وسداة الحزب الحاكم الذي يحكم السيطرة على مفاصل ومقاليد الأمور بالأجهزة التنفيذية بالبلاد، وأضاف قائلاً إن كان الحزب الحاكم جاداً في محاربة الفساد فعليه الإتيان والاستعانة بآلية من خارجه، وأضاف أن أعضاء الآلية سيكونون في وضع حرج أمام مرآة ذواتهم والمجتمع، فإن أفصحوا وفضحوا الفساد لم تسلم رؤوسهم من الإطاحة، وإن سكتوا ولزموا الصمت سارت الأمور على ما هي عليه من فساد. وأبان محسي أن أي غياب للرأي الآخر يعني بالضرورة غياب واختفاء معالم الإصلاح، ويزيد محسي قائلاً إن القوانين ليست بها ما يعتريها من شوائب تقعدها عن الوصول إلى غايات تشريعها، وأنها تمتلك القدرة على التعاطي مع كل المستجدات لامتلاكها القابلية على تطوير نفسها لمقابلة المتطلبات الآنية أولاً بأول. المشكلة في التطبيق: غير أن المشكلة تكمن بحسب رؤية محسي في من يطبقها ويقف على تنفيذها، فعندما يريد النظام تمرير بعض أشيائه يظهر إلى السطح عدم الالتزام بتطبيق القوانين، مما يقود لفتح كوة من الانفلات فيتمدد حجمها ويتسع قدها على الراتق، فيصعب عليه سد كوة الانفلات لتنتشر في سائر البقاع. وقال محسي إن العيب الأكبر يظهر إلى حيز الوجود عندما يكون الناس من منظومة أو جهة واحدة، مما يمكن للمجاملة الإطلالة برأسها، فيداس على القوانين وترمى باللوائح، وأضاف محمد: ما لم يتمكن من إنزال القوانين بدرجة 100% وتطبيقها على الكل دون تحيز أو أن تأخذ بمنفذيها رأفة في المال العام تحت ستار الرابط أو الوشيجة التي ربما تجمع بين المعتدي على المال العام ومن يناط به حراسته، لن يتم التخلص من موبقات الفساد المالي والإداري التي تعج بها تقارير المراجع العام، ولن يكون بالمقدور إعادة المؤسسات والهيئات الحكومية التي ترفع يد العصيان على تنفيذ توصيات المراجع العام ويتخندق تنفيذيوها خلف مواقعهم السيادية أو القيادية التي تشكل لها ساتراً واقياً من يد المراجع العام، فتغلها فلا تصل إليها، فتستمر في الإسبال في غيها لتتسع دائرة الفساد المحمي جراء غياب التطبيق الصارم للقوانين المانعة للفساد والمحصنة للمال العام. الحاجة إلى آلية من نوع آخر: وختم محسي بأن حماية المال العام تحتاج إلى آلية أو ضبط من نوع آخر قوامه تكوين هيئة رقابة عليا وتمليكها سلطات واسعة كاملة قاطعة لمحاربة الفساد، شريطة النأي بنفسها عن الوقوع في مزالق المجاملة، وأكد أنه ما لم يتم توفير الحماية للمال العام بصورة مشددة سيكون عرضة للنهب، وأشار إلى أن القوانين موجودة، وفقط تحتاج لمن يطبقها بشفافية دون تحيز. العلي «سويتو»: وعلى صعيد أهل الجلد والرأس في المراجعة العامة للدورة المالية والمستندية بالدولة، يقول أحد منسوبي ديوان المراجع العام، إن الديوان يقوم بدوره في مراجعة المستندات المالية بالوحدات الحكومية على الوجه الذي يرضى عنه، وإن منسوبيه يصلون إلى جميع الوحدات الحكومية ويطالبونها بمدهم بالمستندات المطلوبة المحددة في لائحة الإجراءات المالية في الوقت المعين، بيد أن ثمة منها يعمل على مماطلة منسوبي الديوان ولا يجدون منها تعاوناً، الأمر الذي يجعل الديوان يضع اسم الوحدة ضمن قائمة الوحدات المخالفة للائحة التي لم تقدم حساباتها للمراجعة، ومن ثم تقديمها للجهات المختصة «المجلس الوطني أو رئاسة الجمهورية» التي تقع على عاتقها مسؤولية مساءلة ومحاسبة تلكم الجهات المخالفة. الصحافة