إيمان عبدالهادي: لا أميل للتّصديق بأنَّ الإنترنت، هو كلّ ما يلزم لتغيير العالم، وأظنّ أنَّ مجملَ التّجربةِ تتشكّل من كلّ ما يُقرأ ويُشاهد ويُعاش. حوار: هشام عودة اللغة لا تقول ما تعنيه ترى الشاعرة إيمان عبدالهادي أن الشعر يمثل منطقة نفوذ ذكورية، وأن المرأة منذ شهرزاد هي حكاءة، ورغم أنها أكدت حضورها في المشهد الشعري في الأردن، إلا أنها تؤشر بأصابع الاتهام للنقاد والمؤسسة، مؤكدة أنها لجأت للكتابة الصوفية لاعتقادها أن اللغة لا تقول ما تعنيه. وقالت: حينَ أقرأ نصّاً لا أعرِفُ جنسَ مبدعهِ، أتفاجَأ دائماً أنّني لم أتفاجأ حينَ أعرِفُه، لن يكونَ سهلاً، لكنني سأحاول قول ذلك: الشّعرُ جنسٌ أدبيٌّ ذكوريّ، المرأةُ منذُ شهرزاد، كانت حكّاءةً بالفطرةِ، وكانَ هذا مجالها المتوثِّب وحكمتها القصوى، ثمّ جاءَ (الرجلُ الأبيض)، كما يسمّيه الغذّامي، لينافسها في الحكاية، أتذكّر مرّةً أنني كتبتُ قصيدةً، جاءَ فيها: (الشِّعرُ علَّمني الشُّكُوكَ/ فأيُّ نَثرٍ سَوفَ يأتي كي يُعالِجَني/ ويجعلني أطامِنُ مَذهباً في السَّردِ/ كالموتِ الرَّحيمْ / وبدأتُ أعرِفُ بالقَصيدةِ/ ما يكونُ مِنَ البَرازخِ/ أعرِفُ الأَعرَافَ واليَمبوسَ والمعنى الذي ما بينَ مَنزِلَتَينِ/ كنتُ كَتَبتُ شَيئاً واحِداً مُتَطرِّفاً/ لأفوزَ فِي جنَّاتِ قَلبي بالجَحيمْ/ رامبو هو المسؤولُ عن "فَصلي" الذي سَجَّلتُ فِيهِ مآثِرَ الوَطَرِ القَديمْ ؛ تأكلُ الرِّيحُ مِنسَأَتي/ وأظلُّ إذنْ واقِفَاً/ فأَنَا كلَّ عُمريَ/ عِشتُ مُتَّكِئاً على الوَزنِ الرَّخيمْ!). وهي تظنُّ أنّ الرّكائزَ التي اتّكأ عليها الأدبُ النّسويُّ مثلاً بمواصفاتِهِ الخاصّة لم تكن هبائيّة، كان فيها جزءٌ كبيرٌ من الحقيقة ومن الإحصاء، ولذلكَ فإنَّ خصائصَ الجنسِ الأدبيّ ارتبطت كذلكَ بخصائص الجنس البشريّ. وقالت: عندما كتبَ سارتر كتابَهُ (ما الأدب؟) ذكرَ أنَّ الناثِرَ إذا أفرطَ في تدليلِ الكلماتِ فإنَّ صورةَ النّثرِ تتحطّم وتقعُ في الفراغ، وإذا تصدّى الشّاعِرُ للحكايةِ أو الشّرحِ والتّعليم، صارَ الشّعرُ مدفوعاً بطابع النّثرِ وخسِرَ دورَه، الأدوارُ كذلكَ تتوزّعُ بينَ المرأةِ والرّجلِ في الكتابةِ التي تأتي أصلاً من منطقةٍ جوّانيّةٍ يدعمها اختلافُ كليهما، وحينَ يتفوّق الرّجلَ على المرأةِ في السّردِ، وبالعكس حينَ تتفوّقُ المرأةُ شعريّاً، فإنّ ذلكَ يبدو أكثرَ قلقاً وعبقريّةً، كما يحدثُ مثلاً باحتدامِ المشاهد الشّكسبيريّةِ المُضحكةِ داخلَ ( المأساة)، فإنّ ذلكَ لا يقلّلُ من تأثّرنا بها بل يزيدها عمقاً ودهاءً. وعن البعد الصوفي في قصائدها اوضحتْ أنه موجود إلى حدٍّ كبير، رغم أنّ النّقادَ أزاحوا كثيراً من الشّعر الذي نُسب إلى التّصوّفِ؛ أزاحوا بِهِ عن أن يكونَ منتمياً حقّاً إلى هذهِ التّجربة، ولذا فقد لا تكونُ نصوصي صوفيّةً كما أعتقدُها، والتّصوّفُ كذلكَ بمنأى عن واقع النّصّ تجربةٌ لم أخضها، يُزجُّ بنا لنصبح براجماتيين رغمَ أنفِ التّأمّلِ في زمنِ الوجباتِ السّريعة، ولذلكَ فإنّي - على الأقلّ كتابةً - أتحلّلُ من هذا الزّمن البلاستيكيّ، أرفضُهُ بالمجملِ، أهشّم أصنامَ الحداثةِ الإسمنتيّة، وأعودُ إلى عالمِ الأرواحِ الذي منهُ جئنا. وقالت: لم أتلفّع بالصّوف في الهواجر، ومنهُ الأصلُ اللغويّ لكلمة (التّصوّف)، لم أسر على الماءِ كذلك، وإن كانَ كولردج ضمنَ إحداثيّات الخيالِ الثّانويّ يسوِّغُ لي ذلك، كما أنّ تابوتي لم يطِر فوقَ رؤوسِ المُشيعينَ في الجنازةِ لأنّ الملائكةَ كانت تحمله دونَ (السِّوى)، فأنا - كما ترى - لم أمُت بعد. وذكرت أن تجربة التّصوّف تغدو من داخلِ النّصّ تجربة مُتوهمة، بقدرِ ما هيَ لذيذة، أؤمن بما قالَهُ درويش: على الرّوحِ أن تجدَ الرّوحَ في روحها أو تموت، وأظنُّ أنَّ هذا العالمَ جرّب منظوماتٍ مادّيةً متوحّشةً وفشِلَ لأنّهُ لم يجرّب (ضميرَهُ)، هذهِ الكلمة التي تثيرُ الشّفقة لديه. وإن كانَ أوغسطين – مثلاً - مُقنعاً في فلسفتِهِ بما يؤكّدُ الجدليّةَ الدّائمةَ بينَ العالم الخارجيّ والدّاخلي، بينَ المعقولات والمحسوسات، فإنّ المتصوّفة أزاحوا بالعالم ليغدو كلّهُ ضمن السّياق العرفانيّ، لجأتُ إلى الحالةِ الصّوفيّةِ في الكتابةِ لأمرين، الأولُ اعتقادي أنّ اللغةَ لا تقول ما تعنيه، فثمّةَ خذلانٌ واغترابٌ لم يكن بالإمكانِ اسثمارُهُ بإيجابيّةٍ إلا ضمن مقولةِ الصّوفيّة: (القرب حجابٌ وشدّةُ الظّهورِ خفاء). والثّاني أنَّ الصّوفيّ لا يكونُ صوفيّاً إذا راوحَ في المكان، لأنَّ المكابدةَ والمحنةَ ترقٍّ في المدارج، وذلكَ يُشبِهُ مدافعة الذّهن لإنجاز المرتبةِ النّصّيةِ اللائقة، في رواية باولو كويلّو الشّهيرة يسأل الخيميائيُّ الرّجلَ إن كانَ قد حوّل الرّصاصَ إلى الذّهب، فيُجيبُ الرّجل: إنَّ هذا ما أتمنّى أن أفعلَه، فيردّ الخيميائيّ إن عليكَ أن تُحاوِل. إنّني أتوسّل دائماً إلى اللّهِ تعالى في المناجاةِ بنصٍّ حفظتُهُ عن أنسي الحاج: (ساعدني/ ليكُن فيَّ جميعُ الشّعراءِ، لأنَّ الوديعةَ أكبرُ من يدي). وعن مرجعياتها الثقافية أوضحت أنه حينَ أطلقت الحداثةُ وما بعدها موضة (الميتا) أي الما وراء، شكّل ذلكَ بعداَ لا نهائيّاً للنّصوص، وأدخلنا في متاهةِ اللا معنى، وفقدانِ العلامة، عكسُ ذلكَ تماماً، عكس هذِهِ الفوضى، وإنّما مطلَقُ الانسجامُ والشّموليّة والمرونة والعبقريّة، هو ما وجدتهُ في النّصّ الذي اضطلعَ بمهمّةٍ ما ورائيّةٍ جليلة، وشكّلَ مرجعيتي الأساسيّة التي أنطلقُ منها لأتفهّمَ الوجود: العالم والنّص، فلم يكن مرجعيّةً ثقافيّةً حسب، بل فكريّةً وحضاريّةً ابتداءً، وأخلاقيّةً وأدبيّةً ثانياً، وأزليّةً وكونيّةً أوّلاً وثانياً وأخيراً، وهو كذلكَ النّصُّ الوحيد الذي شكّلَ الحضارةَ التي ننتمي إليها - حضارة النّصّ - ذلكَ الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، هو القرآنُ الكريم، وكنتُ قد حفظت ثلثيه في وقتٍ مبكّر، فانبثق شيءٌ من العدم داخلي. وقالت إيمان عبدالهادي: يوماً ما أيضاً، كنتُ قد عملتُ بنصيحةِ غوته، إذ "الذينَ لا يتعلّمونَ دروس الثلاثةِ آلاف سنةٍ الأخيرة، يَعيشونَ في العتمة"، لعلّي لم أفقهِ الدّروس، لكنني حاولتُ قراءتها على الأقل، ثمّ اكتشفتُ أنّ العتمةَ - وهي عتمةٌ غير التي قصدها غوتّه - أبهى من الضّوء، لأنّ كلّ "الذي أراهُ في العتمة ممّا لا يراهُ النّاس هو ملكي وحدي"، كما يقول ممدوح عدوان، امتلكت مصكوكاتٍ ثمينة -بالنّسبةِ لي على الأقلّ - كانت هِبةَ الخيال، تعلّمت أنّ التّفكّرَ في الملكوتِ أعلى مراتبِ الذّكر، وأنَّ الشّعرَ أعلى الخيالاتِ بحسبِ كانط، وأنَّ الخيالَ أعلى الذّكاءات بحسب النظريّةِ (نظريّة الذّكاءات المتعدّدة)، وأتذكّر دائماً في سياق المرجعيّةِ الثّقافيّة فكرةً جوهريّةً وجدتها لدى إدوارد سعيد في سيرتِهِ الذّاتيّة مؤدّاها أنّ الثّقافةَ هيَ أهمّ مكوّنات المجتمع البشريّ، وهيَ بذلكَ ليست هُويّة، بل أكثرُ من هُويّة. الثّقافاتُ المتباينةُ هي كذلكَ حدّيّةٌ بالمعنى العميق، والحوار المُدّعى بينها قشرةٌ سطحيّةٌ لا تُقنِعُ أحدا،؛ أظنُّ أنّ الموضوعيّة لا مكانَ لها في هذا العالمِ المتطرِّف، ولذا فأن تكونَ منحازاً لأفكاركَ يعني أن تؤمن بها إلى الحدِّ الأقصى كذلكَ، وأن تمتلكَ يقينَ تصييرها من عالم النّفسِ إلى واقعِ الحس. وعن نظرتها إلى الشبكة العنكبوتية قالت الشاعرة الأردنية: لا أميل للتّصديق الآن بأنَّ الإنترنت، هو كلّ ما يلزم لتغيير العالم، وأظنّ أنَّ مجملَ التّجربةِ تتشكّل من كلّ ما يُقرأ ويُشاهد ويُعاش، التّجربة كذلك قد تكونُ حلماً عنيفاً، يُطوى الزَّمن داخلَهُ تماماً، تستيقظ من كثيرٍ من التّجاربِ القصيرةِ وقد كُسيتَ أعماراً متراكبة، تعود إلى ظلماتِكَ الثّلاث: تنمو دون أن يراكَ أحدٌ، دونَ أن يكونَ ذلكَ داخلاً في حساب دائرةِ (النّفوس) لكنّكَ تكونُ أيضاً قد اكتسبت حياةً قصوى أعادت صياغتكَ بالكامل. وقالت: أحاول أن أعبّر في النّصّ عن فكرتي ومزاجي، أمّا ما قالهُ لارف إمرسون مرّةً: (أكرهُ الاقتباسات، قلْ لي ماذا تعرفُ أنت) فهو سياقٌ مستحيلٌ - بالنّسبةِ لي- لتطهير المرء من ارتهانِهِ لتناصّاتٍ ومواضعاتٍ عديدة ضمن حتميّةِ تراكميّةِ المعرفة. أخيرا،ً لربّما كانت القصيدةُ وهماً خلّبيّاً، فليكن، أنا سعيدةٌ بوهمي، لكنني أظنّ أنّها ليست كذلك. وعن إشكالية النقد قالت: إشكاليّة النّقد لدينا، هي ذاتُها إشكاليّةُ كلِّ شيء: إشكاليّةُ الماءِ النّظيفِ، والرأي الخاص، والفكرةِ والإعتقاد والهواء، نحنُ لسنا أحراراً بالكامل، ولم نفقه تماماً فلسفةَ الاختلاف، وعندما نكون مخيّرين فإن خياراتِنا في الحقيقةِ قد لا تتجاوزُ اثنينِ أو ثلاثة، وداخل شعورنا بأننا ننتقي، ثمّةَ إذعانٌ واستخذاءٌ قبيحان، وثمّة تطامنٌ متّفقٌ عليهِ في الوعي الجمعيّ، أظنّ أنني من أجل ذلكَ قضيتُ أكثرَ من عقدٍ من عمري وأنا أدرسُ الأدب والنّقد، وأتخصّصُ أخيراً في النّظريّةِ النّقدية (التّلقّي والتّأويل)، كأنّما لأكتب وأمارس بعدَ ذلكَ على نفسي سلطةَ المحكِّم التي لن تكونَ كافيةً لأفهمَ أينَ أنا بالضّبطِ من سلّمِ الكتابة، لكنَّ من الجيّدِ أيضاً أن تعدّد وأن يتكاثرَ فيكَ شركاءُ متشاكسون، لستُ مكارثيّة بمفهومِ الرّهابِ الثّقافيّ، لكنني أدركُ وأنا في عتمتي، الثمن الباهِظ لأن يلقي أحدٌ الضّوءَ عليّ. وبعيداً عن شخصنةِ أيّةِ مشكلة، استطعتُ استقراءَ أنّ الكُتّاب دون 30 أو 35 سنةً يعانونَ من عقدةِ (الكاتب الشاب)، رغم أنّهم قد يكتبونَ شيئاً هَرِماً بامتياز، ومن أنَّ الكاتِبةَ الأنثى قد تبدو أقلَّ شأناً في زمنٍ كلُّ ما لا (يُذَكَّرُ) فيهِ لا يُعَوّلُ عليه، وكذلكَ فإنَّ مفارقةَ الأيدولوجياتِ قد لا تجعلُ (الآخَرَ) مُتقَبَّلاً منَ (الآخَر)، الاختلافُ يُزعجُ الكثيرين من الذين لم يتعلّموا دمج الماضي المتعدّدِ في الحاضرِ الدّائم.