طغى على نعي ملس زناوي، رئيس وزراء إثيوبيا الذي توفي في 21 أغسطس/آب الماضي، الإشادة بحسن تصريفه اقتصاد بلده. وقد أحسن ذلك بلا غلاط. فقال بيل غيتس عنه "إنه رؤوي جاء إلى فقراء إثيوبيا بنفع جم". ولكن منظمات حقوق الإنسان كانت حذرت ألا يكون حسن صنيعه في إدارة الاقتصاد سبباً لحجب إساءته لتلك الحقوق. وزكت طقوس الموت بالطبع الإطناب في سيرته الاقتصادية والتغاضي عن سوأته السياسية. من هذه السوآت ما وقع على مسلمي إثيوبيا (ثلث سكان البلد البالغ 90 مليوناً بتقدير مُختَلف عليه). فهم منذ نهاية 2011 في احتجاج متصل لتطفل الدولة على عقائدهم. ففي طلاق بائن مع دستور إثيوبيا العلماني (البند 11) بدأت الدولة في تشجيع مذهب الأحباش ليكون عقيدة المسلمين فيها بدلاً عن إرثهم في التصوف والشافعية وأهل السنة. والأحباش، كما سنرى، عقيدة إسلامية تدعو للاعتدال وتكفر الوهابية والسلفية بصريح نصوصها. وهو ما ناسب دولة إثيوبيا التي تخشى من فشو الوهابية وأنصار القاعدة بين مسلميها مما أملى عليها القيام بدور نشط في الصومال لحرب حركة الشباب، المتهمة بتبعية القاعدة، في إطار خطط الاتحاد الأفريقي لتثبيت الحكومة الصومالية المحاصرة بحركتي المحاكم الإسلامية والشباب. ونفى زناوي أن تكون حكومته تدخلت في شأن المسلمين. وتذرع بأن ما عده المسلمون تغييراً في دينهم هو ما اتفق لمجلس الشؤون الإسلامية للإثيوبيين المستقل عن الحكومة. وما هو كذلك بالطبع. وقال إن كل ما حدث هو أن الدولة نظمت تدريباً للشعب تربيه في روح التسامح الديني. ولام السلفيين من المسلمين على الاضطرابات والتأويلات الضارة بذلك المشروع واتهمهم بالإعداد لقيام دولة دينية. كما كشف عن خلايا للقاعدة في منطقة الأرومو. وخلافاً لزناوي فالخارجية الأميركية في تقريرها عن حالة الإرهاب لهذا العام أوضحت أن تدخل زناوي غير اللائق في شأن المسلمين حق. فقد بادرت الدولة الإثيوبية في يوليو/تموز 2011 بمشروع تربوي شمل تدريب 600 من الأئمة على التسامح الديني وتشجيع عقيدة الأحباش. وانعقد التدريب في جامعة الرحمية بشرق منطقة الأرومو. وتلقى الأئمة ذلك التدريب على يد مشائخ من مذهب الأحباش جاؤوا من مركز دعوتهم ببيروت كما سنرى. وجرى أيضاً تدريب غير معلن لإعادة تأهيل أئمة المساجد وغيرهم على نطاق القطر على سنة الأحباش في كل من أديس أبابا وهرر وبهردار في أواخر 2011. ثارت ثائرة المسلمين على هذا التمذهب بالغصب ثورة كسرت حاجز الخوف الذي قام في إثيوبيا منذ قتلت الحكومة 200 متظاهر في 2005 احتجوا على انتخابات مزورة. فبدأت الاحتجاجات بتظاهرة طلاب معهد أولياء على المجلس الإسلامي لتغييرات أحدثها في منهجهم تحيز فيها لعقيدة الأحباش. ثم استردوا مسجداً ومدرسة أراد المجلس الإسلامي وضع يده عليها. وشمل الاحتجاج مسلمين بلغوا مئات الألوف. واستنوا جمعة التظاهرة على نهج الربيع العربي. فاقتحمت الشرطة جامع معهد أولياء في يوليو/تموز 2012 واعتقلت لجنة المقاومة بتهمة التطرف. فصار إطلاق سراحهم مادة أخرى للاحتجاج. فخرج مسلمو أديس أبابا بالآلاف يطالبون بإطلاق سراحهم. وصار الاحتجاج يتناسل عن احتجاج. فعم الاحتجاج على تعدي الشرطة على مصلين الجمعة خارج مسجد مدينة ديسي وحرك قطاعات أخرى من المسلمين في شمال البلاد وجنوبها. وأُغلقت ثلاث صحف إسلامية لجراءتها في التضامن مع المقاومة. ونضجت المقاومة ليصبح شاغلها هو الوضع الدستوري للمسلمين في بلاد غلبت عليها المسيحية في الحكم والاقتصاد لقرون طويلة: هم هم إثيوبيون فيبقون في إثيوبيا أم أنهم مسلمون وطنهم غيرها؟ لن نحسن فهم هذا الخرق لحق المسلمين الإثيوبيين في التعبد بحرية بغير العودة إلى الأربعينيات التي اختلف فيها هؤلاء المسلمون حول طبيعة ومستقبل علاقتهم بالمسيحيين في دولتهم الثيوقراطية المسيحية بما في ذلك هالة القداسة التي كانت للإمبراطور كالكاهن الأعظم للكنيسة. وتجسد هذا الخلاف بين شيخين من مدينة هرر قبلة المسلمين في إثيوبيا شرحه في مقالة ضافية مصطفى كبحا وحاجي إيرليتش في المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط (2005). فكان من رأي الشيخ يوسف عبد الرحمن الهرري، الذي درس بمكة وتحول إلى الوهابية،أن يستقل المسلمون عن إثيوبيا المسيحية. ومن ضمن ما حاوله للغاية فتح مدرسة في 1941 بتعاليم وهابية. كما حاول الاستقلال بأمارة هرر في 1946-1948 التي ضمتها الإمبراطورية إلى ملكها في القرن التاسع عشر بعد استقلال دام تسعة قرون. وكان خصمه الشيخ عبد الله محمد بن يوسف الهرري (من هرر) شبيل العبداري المعروف ب"الحبشي" (مولده: 1910). وعُرِف مشروعه الإصلاحي، المشروع الخيري الإسلامي، لاحقاً ب"الأحباش". ودعا إلى تعايش المسلمين مع المسيحيين في إثيوبيا بوصفهم إثيوبيين أولاً مثل سائر السكان. وساء ما بين الشيخين. فاتهم عبد الله محمد خصمه بالتعاون مع الإثيوبيين (بما في ذلك تكليفه ترجمة القرآن إلى اللغة الأمهرية) مع ما لقيه من نكد الإمبراطور هيلاسيلاسي مما اضطره للهجرة إلى بيروت. وانتصرت له جماعات سنية لبنانية مثل الرابطة الخيرية الإسلامية بزعامة محي الدين العجوز. وصار للحبشي زمام الجماعة بعد وفاة العجوز في 1983 وصار اسم الحركة الرسمي "الأحباش". ولها إذاعة "نداء المعرفة" (1998) ومجلة هي "منار الهدى". كما أقامت رياض أطفالها ومدارسها لكل المراحل بما في ذلك كلية جامعية ذات صلة بالأزهر. ومكنت خلطة المسلمين والمسيحيين في لبنان لعقيدة الشيخ في التعايش الديني التي جاء بها من إثيوبيا. وشجعه التفات المسيحيين في لبنان لمغزى دعوته. كما لقي تعضيد البعث السوري حين غلب على لبنان. ولذا يتهمه خصومه بالتعاون مع "محتل" بل طالبوا بمحاكمته للسبب عند رحيل سوريا عن لبنان في 2005. وصارت الأحباش إلى البرلمان لفوز عدنان الطرابلسي، عضوها، بمقعد في البرلمان اللبناني. وأثارت نجاحاتهم الدوائر السلفية والوهابية وضايقوها حتى قتلوا مسؤولها في بيروت نزار الحلبي. تصادمت الأحباش والوهابية في مسألتي الإسلام والحكم والتصوف. ولنبدأ بالأخيرة. فهم يعدون التصوف بدعة حسنة ولا يستنكفون زيارة أضرحة الأولياء طلباً للتواصل إلى الذات العليا. ومن جهة الحكم يرى الأحباش أن طلب الحكم الإسلامي بواسطة الإخوان المسلمين والوهابية غلو وتطرف. فهم متأثرون بالأشعرية المتأخرة التي لطفت الاعتزال شديد العقلانية ومالوا إلى الاعتدال والمساومة وصاروا حرباً على التطرف الديني المتمثل في "تسيس" الإسلام. وذهبوا في ذلك حد قبول حتى اليسار الاشتراكي كمثل البعث المزعوم حاكماً متى لم يحل دونهم والدعوة. وكانت "النجاشية" (لياذ المسلمين من أصحاب رسول الله بنجاشي الحبشة) عنواناً مهماً في جدل الشيخين. فيسميها الحبشي ب"رحلة الخلاص" من عسف الملأ القرشي حتى سمى بها موقعه على الإنترنت. فالنجاشية هي حجر الزاوية في دعوة الأحباش للاعتدال. فاستتبع لياذ المسلمين بحاكم غير مسلم أن يلتزموا بقواعد حكمه والقبول بسياسته متأسين بقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة إن النجاشي رجل صالح حتى ينشرحوا لوجودهم في كنفه وأن يوفوا عهده. فالنجاشي عندهم مسيحي مسلم. ويتذرع خصوم الحبشي ب"نجاشية مضادة" في ما اتصل بإسلام الحبشة المضطهد. فيرجعون إلى حديث أم حبيبة وأم سلمة إلى الرسول عن كنيسة في الحبشة عليها صور. وقوله صلى الله عليه وسلم إنهم قوم إذا مات صالح فيهم بنوا على قبره بيتاً للصلاة وزينوه بالصور. فهم أضل خلق الله يوم القيامة. فموالاتهم كفر. وحق المسلمين مما يطلب عنوة من النجاشي لا كما تتلطف فيه الأحباش. لا لوم بالطبع على الزاهدين في عقيدة الأحباش في النجاشية. فتاريخ المسلمين في ظل الإمبراطورية الإثيوبية خلا من سماحة النجاشية التاريخية. فقد قامت تلك الإمبراطورية على أن دينها المسيحية الأرثوذكسية. فصدر بذلك فرمان 1878 من المجلس الكنسي الذي دعا له الإمبراطور يوحنا قضى فيه على المسلم بدولته إما أن يرتد عن دينه ويتنصر وإما أن يهرب بدينه إلى بلد يأويه. وصدر هذا الفرمان في سياق مشروع الصفوة الإقطاعية المسيحية لتوحيد الحبشة في كيان إمبراطوري معلوم ورثنا عنه إثيوبيا الحديثة كدولة. وكان الفرمان هو الذروة المأساوية لإجراءات إمبراطورية توحيدية قسرية صممت على توحيد إثيوبيا كبلد مسيحي صرف لا موقع فيه حتى ل"المهرطقين" من نحل المسيحية. ولم تألُ الإمبراطورية جهداً في تنصير مسلميها. ووعد المرسوم الملكي بتأمين المرتدين عن الإسلام في مالهم وأنفسهم. وطلب من العصاة أن يتركوا الحبشة لأنها ليست من أوطان المسلمين كما تقدم. ومن أغرب ما جاء في المرسوم إلزام المسلمين ببناء الكنائس ودفع الأتاوة للقسس. ومُنع أن يُرفَع الأذان أو تتحجب نساء المسلمين. وقد صب يوحنا جام غضبه على مدينة قالو التي كانت مركزاً ثقافياً حياً. وأنشأ كنائس جديدة في 1880 وأمر مسلمي مقاطعة ولو وغيرهم بتعميد جماعي في المسيحية. وأحرق نواب يوحنا الكتب الإسلامية في إقليم شوا كما ذبحوا 20 ألف مسلم تعالوا بإسلامهم وما بدلوا تبديلا. ثم جاء الإمبراطور منليك في 1889 وألغى المرسوم. ومن رأي المؤرخ الإثيوبي المحسن حسين أحمد أن منليك لم يلغ فرمان يوحنا سماحة منه أو تقدمية. فقد رأى بأم عينه مقاومة المسلمين للمرسوم التي لو استمرت لأفسدت عليه مشروعه المركزي لتوحيد الحبشة. وكان سبق وطوى تحت جناح دولته في آخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر أقاليم إسلامية في الجنوب والجنوب الشرقي مثل هرر. وهو يخشى أن يتسع خرق هذه المقاومة على الرتق. ومع أن منليك قد رفع عن المسلمين الفظاظة الرعناء التي جاء بها فرمان يوحنا إلا أن المسلمين ظلوا مواطنين من درجة ثانية حتى تفتحت لهم بعض الفرص بعد سقوط هيلاسلاسي في 1974 واعتماد الفدرالية مع بداية عهد ملس زناوي في 1991. لا شك أن تطفل زناوي على عقائد المسلمين وتحيزه للأحباش ردة عن مبدئه الفدرالي في فصل الدين عن الدولة. ومن رأي كاتب إسلامي أن جنوح الدولة للأحباش دون غيرهم من مذاهب الإسلام نصر للكنيسة، التي يسيطر طاقم منها على مفاصل الاقتصاد، وذوي الود القديم مع الملكية الأمهرية. وهذا حلف جمع بينه كراهية الفدرالية التي جاء بها زناوي فاعترفت بالكيان الإسلامي وردت الاعتبار لشعوب إثيوبية هي الصوماليون والأرومو والعفر. بل أذنت للأرومو أن يتحدثوا لسانهم ويأمنوا إليه. وظهر هذا الحلف الكنسي للعيان في 2005 باسم التحالف للوحدة والديمقراطية ولوحوا بأسد يهوذا، الرمز الإمبراطوري، في أعلام تظاهراتهم، وهتفوا بوجوب أن تكون الأمة واحدة علمها واحد ولغتها واحدة ودينها واحد. وهذه ردة إلى نحو أربعين عاما حيث كانت المسيحية دين الدولة وإمبراطورها مقدس فيه وحامي حمى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وكل غير مسيحي غريب في غير بلده. وأحرج الموكب ورموزه التاريخية زناوي وسماهم مرة غلاة المسيحيين الذين خطرهم كخطر غلاة المسلمين. ولكن متى بدأت الدولة تفتيش الضمائر صارت مرتعاً للغلاة من كل فج وصوب. المصدر:الجزيرة