ربما فرض علىَّ الذوق أن أنتظر الدكتور النور حمد ليفرغ من مقالاته الموسومة " لماذا يصحو مارد الجبل ويغفو مارد السهل " بهذه الصحيفة قبل أن أعلق عليها. ولكني رأيت أن أستبقه بمداخلة لا تقطع حبل تفكيره بل تنفره لضبط أحكامه.. أقام النور بصورة عامة مقارنة بين السودانيين، مارد السهل الغافي، و الأثيوبيين، مارد الهضبة الصاحي. ورأيت في بعض ما ذهب إليه في معرض المقارنة تحاملاً علينا لا سند له من التاريخ. فمن رأيه مثلاً أن أثيوبيا هي ثمرة تعايش سلمي "إلى حد كبير" بين المسيحيين والمسلمين. وأن المهدية حملت عليها إصراً وعادتها بغير حاجة ملجئة. وأسرف النور هنا. فلا أعرف دولة، سوى أسبانيا بعد إزالة دولة الإسلام منها، قامت لا على هيمنة عقيدة على غيرها فحسب بل سعت لإستئصال شأفة العقائد الأخرى بما فيها التقوى المسيحية غير الأرثوذكسية. وقد أجملت في كتاباتي بعد زيارة لأثيويبا في 2007 النعرة المسيحية المغالية التي تربصت بالمسلمين مستفيداً من كتاب للدكتور حسين أحمد عن محنة الإسلام في الحبشة. فيوحنا، ملك الحبوش في لغة المهدية، الذي أثنى النور على سعة دينه، هو الذي رتب لمحو الإسلام من الحبشة بفرمان 1876 الصادر عن المجلس الكنسي. وهو فرمان قضى بأن الحبشة دار المسيحية الأرثوذكسية وعلى المسلمين (وهم ثلث السكان بتقدير متواضع) ان يرتدوا عن دينهم إذا رغبوا ان يقيموا بها أو يشوفوا ليهم بلد. وقد اضطرت صفوة الحبشة إلى هذا الغلو لأنها أرادت توحيد الحبشة على دينها الحق. وكان مرسوم يوحنا هو الذروة المأساوية لإجراءات إمبراطورية منذ عهد الإمبراطور تيودرس (1855- 1868) صممت على توحيد أثيوبيا كبلد مسيحي. فلم يرث يوحنا عن تيودرس طموحه في توحيد الحبشة وتحديثها فحسب بل الإزراء بالإسلام ايضاً. فدعا المسلمين إلى إعتناق المسيحية وسيؤمنهم على مالهم وأنفسهم. وألزمهم ببناء الكنائس ودفع الأتاوة للقسس. ومنع أن يٌرفع الآذان أو تتحجب نساء المسلمين. وقد صب يوحنا جام غضبه على مدينة قالو التي كانت مركزاً ثقافياً حياً للإسلام. وأنشأ بها كنائس جديدة في 1880 وأمر مسلمي مقاطعة ولوو وغيرهم بتعميد جماعي في المسيحية. وأحرق نوابه الكتب الإسلامية في إقليم شوا كما ذبحوا 20 ألف مسلم تعالوا بإسلامهم وما بدلوا تبديلا. وقتلت المهدية يوحنا كما هو معروف وخَلَفه الإمبراطور منليك. ولم تمنع سماحة منليك الدينية (الذي ألغى فرمان يوحنا لعام 1878) من أن يقول لزعماء مقاطعة ولوو المسلمة، ولم يصبح إمبراطوراً بعد، إنه إنما جاء إليهم رسول رحمة يدعوهم إلى تعميد انفسهم مسيحيين لينعموا ببركة السيد المسيح. وفي رأي حسين أحمد المؤرخ أن منليك لم يلغ فرمان يوحنا سماحة منه أو تقدمية. فقد رأى بأم عينه مقاومة المسلمين للمرسوم التي لو استمرت لأفسدت عليه حتى مشروعه لتوحيد الحبشة. وكان منليك قد ضم بالسيف في آخر الثمانينات من القرن التاسع عشر أقاليم إسلامية في الجنوب والجنوب الشرقي مثل هرر إلى إمبراطوريته. وهو يخشى أن يتسع خرق هذه المقاومة على الرتق. وقد زرت في إجازتي القصيرة لإثيوبيا إقليم هرر. فأخذت طريقي لمسجد المدينة القديم. وكان للمدينة مسجداً أقدم جعله الراس ماكونين، والد الإمبراطور هيلاسلاسي وابن عم الإمبراطور منليك وحاكم هرر بعد فتحها،كنيسة وما يزال. والبغضاء التي انطوى عليها هذا الاستضعاف للمسلمين ، والإساءة لدينهم، ضغينة لم تنفتح صفحاتها كلها في أثيوبيا بعد.ولي كلمة أخيرة عن وصف النور للخليفة عبد الله ب"المتعصب" بإزاء سماحة يوحنا والحبوش.