تبادل رئيسا دولتي السودان وجنوب السودان مع مطلع العام الجديد الإعراب عن رغبة أكيدة في تحقيق السلام بين البلدين، وهي مشاعر طالما عبر عنها الرئيسان لكنها لم تجد طريقها إلى أرض الواقع، فمنذ انفصال الجنوب والرئيسان يلتقيان ويتناقشان ويصدران من البيانات المطمئنة والمتفائلة التي تعِد بعلاقات حسن جوار تستند إلى تبادل المنافع والاعتماد المتبادل، وتظل تلك المقولات مجرد شعارات تطلق في الهواء بينما العلاقات بين البلدين تظل متوترة والتهديدات متبادلة، لدرجة أنها انزلقت في مرحلة ما إلى مستوى الحرب الساخنة متجاوزة سيناريو الحرب الباردة. بالأمس في خطاب الاستقلال جدد رئيس جمهورية السودان الحرص على الاحتفاظ بعلاقات جوار حسنة مع دولة الجنوب، وإنفاذ اتفاقات أديس أبابا الأخيرة وكافة الاتفاقات السابقة حتى تصبح الحدود بين البلدين معابر للاتصال والتواصل وتبادل المنافع والعلاقات الاجتماعية، تحقيقاً للعيش في سلام وجوار آمن، مؤكداً أن السودان قبِل مبدأ الانفصال إيماناً منه بضرورة تحقيق السلام، ولذلك فإن السلام بالنسبة له مطلب رئيسي. وبالمقابل انتهز رئيس جنوب السودان الفريق سلفاكير فرصة أعياد الميلاد والعام الميلادي الجديد؛ ليؤكد أن بلاده عازمة على العمل فوراً على سحب قواتها من المنطقة منزوعة السلاح التي نصت عليها اتفاقية أديس أبابا والتي تمتد بعرض عشرة كيلومترات على طول الحدود بين البلدين، وأن الانسحاب المتبادل من المنطقة منزوعة السلاح سيمكن الطرفين من تشكيل اللجنة الأمنية السياسية المشتركة المنوط بها مراقبة الحدود وحفظ السلام، وأن السلام وحسن الجوار هو هدفهم الثابت. وفي هذا الإطار أعلن الطرفان قبولهما اقتراحاً إثيوبيا بعقد قمة ثنائية مشتركة بين الرئيسين لإجراء حوار بينهما لإزالة العقبات التي تعترض طريق تنفيذ الاتفاقات الأخيرة، ومن المقرر أن يعقد هذا الاجتماع اليوم (الجمعة) في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وليس هذا هو الاجتماع الأول بينهما ولن يكون الأخير، وكل الاجتماعات السابقة انتهت ببيانات عن اتفاق تم بينهما لا يعدو أن يكون مجرد (إعلان نوايا) والأعمال في السياسة تتم بالأفعال لا بالأقوال، وطوال هذه الفترة فإن كافة إعلانات النوايا التي عبرت عنها اجتماعات القمة السابقة لم تجد طريقها للتنفيذ، ولذلك فإن الناس يتابعون مجريات القمة التي ستنطلق اليوم بكثير من الحذر والشك حسب تلك التجارب الماضية. والاتفاقات المتعسرة التنفيذ تم التوقيع عليها في شهر سبتمبر الماضي أي قبل ثلاثة أشهر، واستعجل برلمانا البلدين إجازتهما ليبدآ التنفيذ فوراً، ولكن قطار التنفيذ وقف عند عقبة (التفاصيل) وما زالت تلك الاتفاقات حبراً على ورق، وما زال الطرفان يتبادلان الاتهامات وما زال بترول الجنوب في باطن الأرض رغم أن كافة الاستعدادات الفنية لضخه اكتملت منذ شهر نوفمبر الماضي، لكن الخرطوم لم تسمح بدخوله خط الأنابيب قبل أن تحسم المشاكل الأمنية، رغم أن هذا التأخير يلحق ضرراً كبيراً باقتصاد البلدين، لكن ذلك لا يشغلهما لأنهما أدمنا سياسة (الانتحار المتبادل). كلا البلدين الآن يعاني من أزمة مالية خانقة يتحمل تبعاتها مواطنو البلدين، وضخ البترول ما زال مرهونا بقضايا أمنية بالغة التعقيد فهي تطال مناطق حدودية عديدة، وهناك خلافات حادة حولها وتأتي على رأسها قضية أبيي المستعصية على الحل منذ اتفاقية أديس أبابا عام 1972، وإذا قرر الطرفان رهن تدفق النفط بحل كافة الخلافات الحدودية فإن ذلك يعني أن مصير ذلك النفط سيكون محكوماً بقاعدة أن (باطن الأرض أفضل من ظاهرها) وستتفاقم أزمة مواطني البلدين الاقتصادية. ترى هل نضجت الظروف بالنسبة للحكومتين الآن لكي تغادران هذا المربع الخلافي؟ أم أن إحساسهما بخطورة الأزمة الاقتصادية ما زال متدنيا؟ ذلك أن الخلافات الحدودية بطبيعتها خلافات طويلة المدى لا تحسم في يوم أو يومين، وإذا أراد الطرفان أن يرهنا حراكهما في كافة الميادين بحسم الخلافات الحدودية فإن العلاقات لن تتحسن في وقت قريب، والسودان الذي نال استقلاله قبل قرابة الستين عاماً ما زال لديه قضايا حدودية عالقة مع دول الجوار أبرزها الخلاف مع مصر حول مستقبل منطقة حلايب، ولكن ذلك الخلاف لم يؤثر على بقية العلاقات بين مصر والسودان أو يجهضها؛ لأنه خلاف معقد سيحتاج علاجه لكثير من الصبر والحوار قبل أن يصل مرحلة الانفجار. مهما يكن من أمر فإن اجتماع اليوم المرتقب في أديس أبابا لا ينبغي له أن يكون تكراراً لتجارب سابقة؛ يبدأ بتبادل الكلمات الطيبات وينتهي بإعلان نوايا لا تجد طريقها للتنفيذ. الاختراق الحقيقي المطلوب من اجتماع اليوم هو أن يطلق صافرة البداية لتنفيذ كل ما تم الاتفاق عليه مثل فتح الحدود للتجارة وحركة الناس والسلع والحيوان، ووقف التصعيد العسكري، والالتزام القاطع بعدم تدخل أي طرف في شؤون الطرف الآخر، وحصر القضايا الخلافية وإنشاء آلية لاستعجال البت فيها خلال اجتماعات متواصلة، وبداية ضخ النفط الجنوبي الذي تأخر ضخه كثيراً بلا مبرر وحتى لو بدأ الضخ اليوم فإن عائداته لن تنساب للبلدين إلا في بداية الربع الثاني من هذا العام؛ مما يعني أننا أهدرنا زمناً كثيراً. هذه هو ما يقوله صوت العقل، ولكن متى كان صوت العقل يحكم السياسة في السودان؟! [email protected] العرب