إن من السيئ بمكان أن يتخلي الإنسان نتيجة لظروفه الحياتية عن قسمه وأخلاقه ومثله وقيمه التي تربي عليها لمجرد الحصول علي بعض لقيمات ... كما نعلم أن هذه الحياة الدنيا التي نعيشها ماهي إلا إمتحان للبشر سوف نحاسب في نهاية المطاف علي ما كسبت أيدينا ولن تكون المبررات التي نخلقها اليوم في الدنيا ... ذات فائدة في يوم الحساب العظيم .. وكل الكتب السماوية إتفقت في هذا المنحي ... وحتي من يدبنون بديانات أخرى إتفقوا أن هذا البلاء هو لكي نميز من الصابر علي دينه وقيمه من الأخلاق ومن ينحنرف عنها ... إن ماوصل إليه حال الطب والعلاج في السودان من إنهيار ... يجعلنا بحق نستغني عن ممارسة هذه المهنة في بلادنا .. خصوصا لوعلمنا مايحدث خلف الأبواب المغلقة ... ولنعطي أمثلة لتكون الصورة أوضح للعيان ومن ثم نحكم ... بالنسبة للعيادات والمستشفيات والمراكز الصحية الخاصة ... فهي وسيلة من وسائل الإستثمار وأسواء ما في الأمر أن حلقة الوصل فيها بين المرضي والإختصاصين هم الأطباء العمومين ونواب الإختصاصين الذين يعملون نهارا بالمستشفيات الحكومية وليلا ونهاراً بالمستشفيات الخاصة ( فيفقدهم الكثير من طاقتهم علي التركيز والتفكير لعلاج مرضاهم) ... عندما يعمل الطبيب في أحد المراكز الصحية .. يقول صاحب المركز : أن أي مريض عندما يأتي إليك يجب أن تكتب له عددا من الفحوصات وعددا من الأدوية (( عشان المعمل والصيدلية يمشوا وشغلنا يمشي ودخلك يزيد )) ....... وفي مستشفي خاص أخر ....... يقول صاحبه للطبيب : ( الناس هنا ماتعتبرك دكتور شاطر إلا لو ركبت للزول درب وأديتوا حقنة مسكنة في العضل ومليتوا فحوصات وأدوية ومضدات حيوية من النوع الغالي ) ..... ولانقف درجة الإستغلال للمرضي عند هذا الحد بل تصل الي حد الذهول عندما تكتشف أن مريضك يشتكي من علة بسيطة أتت به إليك لكن عند الكشف السريري العام تجد أن هناك علة أخري لايلقي لها المريض بالاً وإنما تحتاج التحويل الي أختصاصي وهذا بكل بساطة يحرم المركز الخاص المتعاقد مع الجهة التئمينية من بعض الأموال المتفق عليها بينهم ... ولايكون صاحب المركز قد إستفاد شئ ... لذالك أهم قاعدة لاتحول مريضا من المركز بسهولة مهما كانت الظروف (علما أن هذه المراكز هي المنوط بها تحويل الحالات وهي تسمي مراكز الرعاية الصحية الأولية والعلاج غالبا مايكون محدودا وتتم فيه متابعة الحالات المزمنة الخفيفة ومتابعة الحمل والتحصين وتثقيف المجتمع صحيا )... وحتي في قسم الحوادث في المستشفيات الخاصة ... يتم الدعاء بين الأطباء لكل زميل بأن (يارب تكدس!!) وهنا القصد أن يأتيك مصابين كثر لأن خياطة الغرزة بمبلغ معين وفتح خراج بمبلغ أخر وهكذا .... حتي لايخرج صديقنا الطبيب بمبلغ 25 جنيها فقط لقاء وجوده في الحوادث ويكون يوما فاشلا وغير مربح للطبيب والمستشفي ... وتستمر المعانة حتي علي مستوي العيادات الخاصة فعندما نتطرق للأطباء العمومين أصحاب العيادات نجدهم ( يكنكشون في المريض) ويتمسكون به حتي وإن كان خارج إختصاصهم فهو يمثل لهم بقرة حلوب فتجدهم يعالجون أمراض الباطنية والأطفال والنساء والتوليد والجراحة وكل شيء ... وعندما ننظر الي عيادة الإختصاصين نجد ماهو أدهي وأمر فهناك إتفاق بين عيادة الإختصاصي المشهور وبعض المستشفيات والمستوصفات وهذا عندما تكون الحالة محتاجة الي أن يتم تنويمها بالمستشفي حيث يكون هناك علي الدوام طبيب عام بذالك المستشفي أوالمستوصف وعندما يفحص الطبيب الإختصاصي المريض ... وتكون حالته لاتحتاج لتنويم بالمستشفي ... لكن لثقت الناس بهم وكون حالتهم المادية ميسرة يتم تنويمه ليلة أو ليلتين أو ثلاثة خلال هذه الفترة تكون الليلة في المستشفي الخاص ب 350 جنيها أو أكثر وكل زيارة يقوم بها الأخصائي ليمر علي مريضه يدفع الأهل 100 أو 150 جنيها ولاتنسي المقابلة الأولي في العيادة كانت أيضا ب 150 أو 200 جنيها ... وبذالك يكون هذا المريض غنيمة رغم أنه لم يقوم بفحوصات بعد ولم يعلم ماهو مرضه (بالمناسبة الطبيب العمومي أونائب الأختصاصي يحصل علي 25 جنيها فقط نظير تواجده في المستشفي لمدة 8 ساعات ومروره علي المريض لتجديد التعليمات) ... و كذالك عندما يمثل عليك أحد الشباب في شارع الحوادث دور الشهامة بأن يرشدك الي طبيب معين أو معمل معين عندما تكون خارج من إحدي المستشفيات الحكومية وقد لمست تردي الخدمة الطبية فيها .... ويذهب معك الي الطبيب أو المعمل وينتهي دوره بمشاهدة موظف الإستقبال له معك لكي يأخذ حصته فيما بعد بحجة السمسرة في أوجاع الناس.... وكل ذالك وأكثر تحت غطاء مايسمي الإستثمار الطبي (وتأكد أنك إن لم تنصاع إلي قوانين الإستثمار هذه فسوف يتم طردك يا أيها الطبيب العمومي ويا نائب الأختصاصي)... وكذلك فكرة أن يكون المجلس الطبي هو الجهة الوحيدة التي تبت في حالة الأخطأ الطبية والإستغلال للمرضي حتي وإن كشف الأطباء هذه الأمور فهذا أسلوب عقيم ... الأولي أن تكون جهة مستقلة مكونة من أطباء ومستشارين وقضاة قانونين سابقين ذو خبرة للبت في هذه الأمور فغياب المحاسبة زاد الطين بلة ... المشكلة أن يقبل الأطباء ( نواب الإختصاصين والعمومين) بذالك الوضع المهين وهم بين المطرقة والسندان ... فلا وزارة الصحة تقبل بتوظيفهم برواتب مناسبة لتلبي إحتياجاتهم وتعالج الخلل الصحي المنتشر في بقاع السودان ولا المجلس القومي السوداني للتخصصات يفتح لهم مجالا للتدريب فيمتحن كل مرة المئات وينجح فقط العشرات (وحتي هذه الإمتحانات يجب أن تقوم بها أحد الشركات العالمية المشهود لها بوضع الإمتحانات منعا للقيل والقال فلايعقل أن تتغير نسبة النجاح كل سنة حسب حاجة المجلس القومي للتخصصات ورغبته فيقبل مرة 35 طبيبا من أصل 45 ممتحن في تخصص وفي سنة أخري 15 طبيبا من أصل 95 طبيبا في تخصص أخر أو في نفس التخصص أهكذا هي الجودة !! ) رغم حاجة البلاد الماسة للتخصصات وضعف وسائل التدريب للنواب وقلة المدربين من الإختصاصين وتوقف المنح الخارجية من أجل تدريب الكفاءات الطبية والأدهي والأمر أن نائب الإختصاصي يجب عليه دفع تكلفة تدريبه من جيبه الخاص (مايقارب 3000 جنيه في العام عن كل سنة تدريبية) وأثناء فترة تدريبه التي قد تتجاوز الأربع سنوات في بعض التخصصات (وهو يقدم الخدمة الطبية والعلاجية للمرضي في المستشفيات الحكومية دون أي عائد مادي ) لأن الدولة رفعت يدها ومعها وزاة الصحة من الصرف علي تأهيل الأطباء فمن أين لهم هذه المبالغ إن لم يعملوا بالمستشفيات والمراكز الخاصة ليسدوا هذه الفجوة؟؟ ... وهم الذين أفنوا سنوات من التعليم والخبرة تقارب الثماني سنوات دون أن يحصدوا شيء وحتي أن هؤلاء الأطباء يعملون في هذه المراكز والمستشفيات لأجل الحصول علي هذه الخبرة لكي يخرج من كل هذه القذارة الطبية ..... وحتي دور الطبيب العمومي بداء يتلاشي تدريجيا مع ظهور تخصص طب الأسرة ... وبذالك للأسف تكون الهجرة هي الحل الأمثل للهروب من هذا الظلم .... أسوة بهجرة رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم عندما وجد الظلم من أهله بمكة وبوطنه ... فهاجر وعاد إليها فاتحا بقوة السيف ... وقد عاد الكثير من الإختصاصين المهرة الذين يشار لهم بالبنان في دول المهجروبخبراتهم وهم لايرجون مالا ولكن خدمة لوطنهم الحبيب وشوقا له لكن تجد المجلس الطبي والمجلس القومي للتخصصات يلقي بشهاداتهم وخبراتهم ويضعهم في أنظمة غريبة لمعادلة شهادتهم ( بإشتراطه عدد من الأعوام تحت الملاحظة للحصول علي شهادة الإختصاصي رغم أن تخصصه حصل عليه من دولة متقدمة جدا وخبرته تضاهي المجودون في السودان) وأخرون يعتذر المجلس عن تقيم شهاداتهم لأن هذه التخصصات غير موجودة ببلادنا وبالتالي لايوجد من يقيمكم ويعرف مستوياتكم ... هذا لكي يقبض علي أمر هذه الصحة مجموعة من الإختصاصين لافكاك منهم ..... ويسافر الكثيرون من المرضي السودانيون (بكل مستوياتهم) خارج البلاد طلبا للعلاج وهم يودعون أهلهم بإبتساماتهم الممزوجة بأنين أوجاعهم علي أمل الشفاء ... وعندما يشتد عليهم المرض لايجدون أهلهم وأحبابهم بجانبهم لكي يمنحوهم الأمل ... ( ونحن نعلم كأطباء أن وجود الأهل والأحباب حول مرضاهم هام وهم يمدون المريض بأمل الشفاء الذي شفي كثير من المرضي بقدرة الخالق عندما إستجاب الله إلي دعوات أهليهم وجعلنا نحن الأطباء حائرون ... لكي نزيد إيمانا بعد إيمان ونعلم أن كل شئ هو بيد الله سبحانه وتعالي لذلك أوصي رسولنا الكريم بزيارة المريض) .... لكن للأسف يستقبلهم أهلهم وهم محمولون علي الأكفان وهم يبكون في مطار الخرطوم ..... ولاننسي أن هناك بعض الأطباء الأوفياء للمهنة مازالوا قابضين علي الجمر لكن للأسف كل يوم نفقد منهم واحدا أو إثنين ... لأن لاأحد يقدر مايفعلون .... فماذا أنت فاعل يا محمد أحمد ؟؟؟ د/ الفضل فضل الله. [email protected]