الفنان الراحل الأستاذ سيد خليفة ..طيّب الله ثراه، سئل مرة عن أثر العلم على الفنون الموسيقية و الغنائية باعتباره دراسا ومحترفاً! فقال بكل ثقة وصراحة ، الموهبة ثم الموهبة ثم الموهبة فالدراسة ، واضاف ربما يأتي موهوب مثل الراحل العظيم الكاشف بما لم يأتي به كل الدارسين ، وقد لا يستطيع من يحمل الدكتوراة في العلوم الموسيقية من الناحية النظرية ، أن يصل الى طبلة أذن المستمع بنغمة واحدة تحركها! والكتابة الصحفية هي الأخرى كرافد من بحر الكلمة الواسع والمتفرع ، فهي تماما مثل الموسيقى والغناء من حيث اختلاف ملكة مرتاديها في تقريب القاريء الى الفكرة التي تحتويها سطورهم أو تنفيره عنها! والكتّاب هنا بدورهم يمكن تصنيفهم الى درجات ومستويات ومشارب عدة على تنوع انماطهم الدارسة أو الموهوبة ! فتجد منهم ذلك التقليدى الذي حفر صورته التي تجلل ما يكتب في عيون الناس لسنوات طويلة ، بيد أن حرفا واحدا من كتاباته الروتينية لم ينفذ الى ذاكرة القاريء لأن قلمه يفتقر الى الجاذبية وأسلوبه يقبع في زاوية التقليدية وان كان مضمون كلامه يلامس الحقيقة ويمسح على كثير من الجروح! وهنالك من الكتّاب من يملك خاصية الجذب المتكامل من حيث الأسلوب والمحتوى ، فيجعل القاريء يذهب مباشرة عند تقليب الصحيفة للبحث عنه! لم أحترف الصحافة أو الكتابة بصورة عامة على الرغم من أنني اتعاطاها هاويا منذ مايقارب الأربعين سنة ، وحينما اعتقلت الوظيفة العمومية الأنامل واليراع في محبس بيروقراطيتها القسري ، كانت علاقتي بالصحف متقطعة الأنفاس ، الا عندما يستفز الخاطر ما يستوجب النبش من أعماق القريحة بمباضع التعبير بما أراه واجبا وطنيا أو قناعة اخلاقية أو حتى من قبيل المس التنويري ايقاظا لما ينام في الوجدان الذاتي أو تمريرا لفكرة ما الى الآخرين في استحياء وخجل ،لا تسلطا بفرض مفهوم ما أو اعتدادا بسداد الرأى و لا تعاليا بفرادة أسلوب! وبعد ان طالتني دورة الاقصاء عن الوظيفة بحكم سياسة التوطين في بلاد الغربة وهو حق مشروع لأهل بلاد أكرمتنا ، حينما أذلتنا الظروف والتغول داخل بلادنا فآثرنا الفرار بما تبقى من جلد الوجه الذي حملنا في أسماله ماءه ولذنا برمضاء الشتات عن نار اهانة أهل القربى و ليقتات أبناؤنا ولو كفافا كريما ونجنبهم تجرع حليب بات حكرا في أثدء أنظمة القهر التي عاثت في كل نبع صافي تعكيرا! وقتها عدت لأقتفي أثر الحروف بعصا الرؤى القديمة و يراع المثالية التي كانت قبل الرحيل ، فلم أجد لها أثرا ولا موطيء قدم شاغر على أرض الواقع الذي تركته خلفي ردحا من الزمان في بلادي فعدت أدراجي باجنحة الخيبة أهيم وحيدا داخل غربة النفس من جديد! فكانت أيامها .. (الراكوبة) قد نصبت أعوادها راسخة عند أعلى قبة فضاءات الأسفير المفتوح على كل اتجاهات الحرية التعبيرية ليتنسم من خلال جلساتها القراء الهواء النقي ، وكانت تنادي بأعلى صوت الحق كل الأقلام التي تريد أن تسامر عيون الناس بصدق وطني لا يعرف التردد عند منطقة رمادية المواقف ! فعرفت من بين سطورها كل ألوان المبدعين من خيرة الكتّاب ..والقراء الذين يسندونهم بزند المشاركة تعليقا وتعقيبا ، تارة بالأشادة والملاطفة وأخري بالسخرية والمناكفة وثالثة بالمخاشنة والمعانفعة ، ولكنها مجتمعة تقوي من عضد القلم ، تحفيزا نحو التجويد والفطنة و البحث عما هو يفيد . وهذا هو.. (العام الثالث) يدخل ..وأنا أجر النم معهم في تلك الجلسات التي تمتص عن الأعماق احساس الوحشة التي تلف من هو في سني وقد انفض من حوله سامر المنتفعين بقلم الوظيفة ، فوجدت في قراءة الناس لما أكتبه على تواضعه ملاذا أبعد عنى جبال الصبابة التي سكنت العقل وضاق بها الصدر على رحابته حيال كل أوجاع وكآبة الحياة ، وأفرغ شلالات الحزن عن مسارب الدواخل ، بل وقربني الى ذاتي وانا أعود اليها من جديد ! لا أستطيع الادعاء بانني أجلس في صف الراكوبة الأول خلال هذه الخطوات القصيرة في مشواري معها .. وهي التي تنقل من الصحف الورقية مقالات لكتاب محترفين ، يتنقل وراءهم القراء حيثما ذهبوا ، فتجد حصيلة من يتصفحوا مقالاتهم اليومية يزيدون عن الخمسة الالاف كالأساتذة الفاتح جبرا وصلاح عووضة و الطاهر ساتي ككتاب راتبين وحتى الذين غادروا ظل الراكوبة أو تراجع ألقهم فهم يظلون مقدرين فوق هامات ماضيهم التليد ، هذا فضلا عن الذين يكتبون بصورة متباعدة مثل مولانا سيف الدولة عبد القادر و المفكر الرزين فتحي الضو و الفتى الجريء عثمان شبونة والكاتبة القارئة بنهم منى أبوزيد والدكتور البوني الذي كثيرا ما حفزني للعودة من أية بوابة كانت، أو حتى السينارست السياسي ثروت قاسم.. والعتبى لمن لم يسع المجال لذكركم! ولكنني أكون سعيدا لو سمح لي الجالسون عنده لأقبع في الصف الثاني من كتاب السليقة المجيدين كالأساتذة بكري الصائغ وشريفة شرف الدين .وحسن أولئك رفيقا . ولعل انجاب الراكوبة لأقلام نيرة من رحم تجربتها الثرة ، مثل الأبناء سيف الحق حسن وفتح الرحمن عبد الباقي ومهدي اسماعيل واجتذابها للحرف الأنثوي المعطر .. كحليمة عبد الرحمن ولنا مهدي و أسماء الجنيد ولمياء شمت و سمية هندوسة الرمز الذي أحنى الزبانية رؤوسهم خجلا لفراستها المهيرية، وغيرهن فكل ذلك لعمري انما هو ترياق استمرارية هذا الصرح ، وقد فاق في شموخ بنيانه المتماسك ، أقوى الحصون ولو كان راكوبة ليست الا ..ولكنها شيدت من قصب السبق ودعامات الحقيقة الشجاعة ! أوليس فخرا لي ومن ذلك الموقع ان يطالع مقالاتي يوميا كمتوسط في حدود الألف قاريء ، أى ألفين من العيون الجميلة ! هذا ودامت المودة النقية والعشرة النبيلة بيننا يا أحبتي في كل مكان بغض النظر عن التصنيفات والاحصاءات ، لاسيما وقد بدأ الصوت ينطلق من الراكوبة معانقا صداه العديد من المواقع الأخرى التي تشرفنا بملامسة حوائطها وهي تحتفي بنا مشكورة ، على قلة جهد المقل من قطرات الذي نسكبه في جوف الظمأ للكلمة في زمان عزت فيه حلاوتها ! وسامحونا . [email protected]