يبدو أن الحكومة السودانية لها ثقة عظيمة في قدرتها على تحقيق معجزة الحفاظ على علاقات استراتيجية مع كل من إيران ودول الخليج في الوقت نفسه رغم الصراع المحتدم بينهما سراً وعلانية؛ ولذلك ما فتئت الحكومة السودانية تمشي على حبل مشدود تحاول أن تخلق حالة توازن (أكروباتية) بين القطبين رغم أن الواقع يشير إلى أن أي تقارب استراتيجي بين أي من الطرفين يتجاوز حدود العلاقات العادية سيكون على حساب العلاقات مع الطرف الآخر، وهذه الثقة المفرطة لدى الحكومة في قدرتها على تحقيق ذلك التوازن كانت هي السبب وراء الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها مسؤولون سودانيون إلى كل من طهرانوالرياض والتصريحات المتفائلة التي أعقبت تلك الزيارات. وخلال الأسبوع تحرك السودان عبر وزارتين هامتين لإجراء اتصالات مع المملكة العربية السعودية وإيران، ففي الوقت الذي هبط فيه وزير النفط السوداني العاصمة الإيرانية لإجراء محادثات اقتصادية هامة يشاركه فيها وفد سوداني اقتصادي رفيع المستوى كان وزير الدفاع السوداني في العاصمة السعودية الرياض يبحث ضمن قضايا أخرى آفاق التعاون السوداني السعودي في المجال العسكري. كلا الزيارتين تأتيان في أعقاب إجراءات واتصالات سابقة، فزيارة إيران تأتي لمتابعة اتفاقات ومحادثات سابقة على مستوى القمة جرت في القاهرة مؤخراً بين الرئيس الإيراني والرئيس السوداني على هامش قمة إسلامية، وبحثت احتمالات التعاون الاقتصادي بين البلدين بما يساهم في تجاوز السودان لأزمته الاقتصادية الحالية وعلى خلفية أن البلدين يعانيان من حصار اقتصادي ومقاطعة تفرضها دولة (الاستكبار الأعظم) الولاياتالمتحدة على قاعدة أن المصائب يجمعن المصابين، أما زيارة السعودية فتأتي في أعقاب مناورة عسكرية بحرية مشتركة بين السودان والسعودية اختتمت الأسبوع الماضي بنجاح حسب التقارير الرسمية ولا يخفى على المراقبين أن هذه المناورات قد صممت لتجاوز الأثر السابق الذي أحدثته زيارات قطع من الأسطول الإيراني مرتين لميناء بورسودان وما أثارته الزيارتان من مخاوف خليجية مفهومة في ظل توتر العلاقات الخليجية الإيرانية الحالية فجاءت المناورات لكي تخلق قدراً من (التوازن) في محاولة لإزالة الآثار السالبة لزيارة الأسطول الإيراني، وكان واضحاً أن زيارة الأسطول الإيراني لم تكن مرتبة بشكل مؤسسي؛ لأن وزارة الخارجية فوجئت بها؛ إذ إنها تمت دون تنسيق معها حسبما أعلن وزير الخارجية السوداني في تصريحات علنية صحبها برأيه عن ضرورة الحفاظ على العلاقات مع إيران في مستوى لا يؤثر على علاقة السودان مع دول الخليج. هذا هو ما جعل السياسة الخارجية تسير على حبل مشدود في محاولة لخلق توازن بين الانفتاح على إيران والحفاظ على العلاقة المحورية مع دول الخليج التي ظلت هي الداعم الأكبر للسودان في مجالات شتى، وليست هذه المعادلة بالأمر السهل في ظل التوتر المستمر الذي تشهده العلاقة بين إيران والخليج على الصعيد السياسي وزادت تعقيداً بعد اشتداد الصراع السني-الشيعي على مختلف المستويات، وسيجد السودان نفسه مواجهاً بموقف صعب بالنسبة لخلق هذا التوازن (الأكروباتي) الذي ينشده وستضطرب خطواته على هذا الحبل المشدود وليس له أي ميزة نسبية ترشحه لأن يلعب دوراً (وفاقياً) بين الطرفين. المناورات السياسية قصيرة المدى والضغوط الاقتصادية التي يواجهها السودان هي التي تدفع بعض صناع السياسة في السودان للسير على هذا الطريق المليء بالألغام، ولكن هذه سياسة عمرها قصير لأنها ستواجه بتعقيدات الواقع على الأرض الذي لا يسمح باستمرار هذا الدور. غاية ما يستطيع السودان تحقيقه في نهاية المطاف سيكون الاحتفاظ بعلاقة عادية مع إيران فلا أحد يطالبه بإلغاء هذه العلاقة العادية ولكنه لن يستطيع تطويرها لعلاقة استراتيجية مع الاحتفاظ بعلاقته المتميزة مع دول الخليج وسيكون مطالباً قريباً جداً بتحديد خياراته على ضوء مصالحه الحقيقية وإذا قدر لوزارة الخارجية السودانية أن تلعب دورها كاملاً فتتوقع أن تجنح إلى تحجيم العلاقة مع إيران لصالح سياسة أكثر انفتاحاً نحو الخليج العربي ولكن وزارة الخارجية السودانية ما زالت حتى الآن بعيدة عن ممارسة هذا الدور لتعدد مراكز صناعة القرار في نظام الإنقاذ وتوالي الضغوظ التي تجعل سياسات المناورة هي سيدة الموقف!! [email protected] العرب