يرويها: الزين عثمان: كنا قد توقفنا في المرة السابقة عند محطة البحث عن المتعة وايجادها هناك في المساحة الفاصلة ما بين «القانون» و«الآداب» مرورا بالتجارة وساحات النشاط الطلابي التي تعج بكل شيء ما عدا اسمها الذي اطلقت من اجله.. هناك كل شيء يختلط باي شيء الطيب والخبيث الجميل والدميم الذل والهوان، وسيطرة النفوس الضعيفة.. فالمساحة ليست للطلاب وحدهم بل تتداخل معها اشياء اخرى، وفي ظل هذا الاختلاط تتقابل عيون الشباب والشابات معا في جلسة كثيرا ما تكن لها اغراضها التي لم توقفها الهتافية اليومية لذاك المقيم بصفة دائمة في باحة النشاط وهو يهتف «وين الحياء الخجل مات» عباراته تتجاوز مسامع الكل، ولكنها كالصراخ في اودية الصمت تعود الكثيرون عليها، وتعود هو على تكرارها بلا كلل ولا ملل.. البعض يفسرها بانها مجرد محاولة منه لتصفية حسابات سابقة وتمضية الوقت.. في حين يرى كثيرون انها تتواكب وكثير من السلوكيات في الجامعة، والبعض يسميها انحرافات عن الطريق القويم المتمسكات به كثيرات، وكذلك العابرات في سبل غيره. وما تزودت به وهي في رحلة الولوج لعوالم المستقبل، أنها جلست على اطراف العنقريب ولاول مرة في حياتها يجمعها مع والدها سرير واحد.. لم تكن تفعل ذلك بفضل الحياء والالتزام بالتقاليد في تلك القرية الحالمة، لكنها فعلت ذلك بطلب منه وهو يناديها ويناجيها يمنحها آخر الوصايا.. خلي بالك من نفسك وابقي عشرة علي الوصية.. لم تفعل اكثر من ايماءتها برأسها بعد ان ولج الكلام الي اعماق قلبها واستوطن روحها.. وفي البال نضال والدها العنيف من اجل اكمال تعليمها، بالرغم من اعتراض الكثيرين من ناس الحلة على تعليم البنات، ناهيك عن مغادرتهن الى الخرطوم التي تلتهم كل شيء.. قبلة والدها علي رأسها لم تكن آخر الوصايا وانما تبعتها وصايا اخرى مصدرها هذه المرة والدتها وهي تودعها الى المحطة التي غادرتها الى عوالم الخرطوم التي اختلفت تماما عن ما تركته هناك.. في ايامها الاولى كانت متحفظة تجاه كل شيء.. كانت علي سجيتها من الجامعة والي الداخلية.. هذا هو برنامجها اليومي الذي لم يتغير طوال العام الاول الذي ختمته وهي على رأس الدفعة عائدة الى البلد، وهي تحمل البشريات لوالدها واسرتها.. الا أن رحلة العودة مرة اخرى حملت الكثير.. صديقتها التي تعرفت عليها وحالة الضغط المتواصلة ابتدأت بخلع عباءة الريف وابدلتها بعباءة اخرى.. وزادت مساحة البقاء في الجامعة.. وكثيرا ما وجدت صعوبة في الالتحاق بزمن «الليت» في الداخلية.. تكرر الأمر اكثر من مرة لتجد نفسها مجبرة ولاول مرة على المبيت خارج اسوار الداخلية.. استضافتها صديقتها في المرة الاولى.. وتكررت المسألة لتخلع العباءة الاخرى وما اغلاها من عباءة.. ليستمر الامر دون توقف الا للتميز الاكاديمي التي نسيته ونسيت معه تلك الوصية، وهي الآن تجلس كل مرة في محطة في رحلة البحث عن طريق العودة للمحطة الاولى ولكن كيف؟ اميرة القلوب اسم آخر يتردد صداه في كل المساحات.. جمالها الاخاذ يسلب الالباب والقلوب من النظرة الاولى.. الكل كان يبحث عن موطئ قدم في قلبها.. الفشل لازم الكل ولكنه في الطرف الآخر اصر على ان ينجح ليس على الفوز بقلبها وانما من اجل كسب الرهان مع شلته.. حاول عدة مرات صدته عيون الشرف التي تحرسها.. ولكنهم يقولون ان الماء يفتت الصخر ليس بقوته وانما بتواصله.. مواصلته الطرق على ابواب قلبها ووسامته التي تدعمه كانت عملة النجاح.. اخيرا نجح في المرحلة الاولى وصدقت هي معسول الكلام الذي تبثه شفتاه.. التقت الشفتان تحت ستار الحب ليتأصل الامر دون كوابح.. فاز هو بالرهان امام اصدقائه الذين جاءوا لاعادة المحاولة.. لم تستطع صدهم خوفا من انتشار الامر في اوساطهم، ولكنه انتشر سريعا بعد ان اشتهرت هي وفي كل الاوساط. «ستهم» في بداية العشرينيات.. من حدثني عنها قال لي انها تأتي الى النشاط في زمان معين.. دخولها الى الكلية محسوب، واشار الي منطقة قال انها المكان المفضل لديها.. تجلس لتتناول كوبا من القهوة دون ان تتوقف ضحكاتها ولا حتى رنين تلفونها.. ذهبت الى هناك للبقاء ومعرفة بعض التفاصيل.. وجدتها كما حكي لي تماما.. كوب القهوة لم ينتهِ بعد وهي تناغم المتحدث على الطرف الآخر بصوت يسمعه كل من يمر من هناك، وسط ضحكات الغنج التي تطلقها في كل الاوقات.. انتظرت حتى تنتهي المكالمة وكلي أمل في بعض الكلمات.. الا ان رنين الهاتف سرعان ما عاد الكرة وصوت الفنانة الهابطة يخرج كطلقات المدفع «الجبنة حلوة حبشية».. لم يكتمل المقطع لأنها قامت بالغاء المكالمة، وحملت حقيبتها ذات الحجم العائلي قبل ان تختفي خلف زجاج العربة المظلل واطاراتها التي تنهش الزلط وقيمنا معا. نواصل