(أبناء المغتربين).. يظن كثيرون أنّ رغد العيش الذي يعيشون فيه، أبعدهم عن دائرة المشكلات، بينما يتّهمهم البعض الآخر بضعف ولائهم للوطن عندما يعودون إليه، فيصبحون غرباء فيه.. يصطدمون بواقع لم يصوره خيالهم الغض، حين يعودون من أجل الدراسة أو الاستقرار في وطنهم مرة أخرى.. فمن تلك الخيوط تنسج مشكلات لعدد كبير من أبناء المغتربين الذين يبدأون في دفع ضريبة الاغتراب، بغربة جديدة داخل الوطن.. فحصار المشكلات جعلهم يهربون إلى وسائل الاتصالات الحديثة كملاذ لهم من جحيم الغربة داخل وخارج الوطن، فهم شباب أكمل بعضهم دراسته الجامعية، فيما علق البعض الآخر بسبب الإقامة في دولة الاغتراب، خاصة من يعيشون في المملكة العربية السعودية حيث وجدوا أنفسهم محاصرين بالمشكلات. (إيهاب الفاضل) أحد ابناء المغتربين المقيمين هناك، يواصل سرد قصته التي حدثنا عنها في الحلقة الماضية بعد تحوله من دراسة طب الأسنان إلى تخصص (علوم الحاسوب)، ولكن نسبة لمشكلات تتعلق بالإقامة أصبح (ايهاب) عالقاً في المملكة العربية السعودية، فقد اصبح عمره الآن (30) عاماً ولم يكمل دراسته، وأن دفعته في طب الاسنان تخرجوا وكذلك دفعته في علوم الحاسوب.. (ايهاب) يشعر أن مستقبله مجهول فهو لا يستطع العودة للسودان بسبب الإقامة المنتهية ولا يستطع ايضاً إيجاد عمل لنفس السبب، ومن تلك التراكمات وجد ايهاب نفسه أسيراً لوسائل الاتصالات، وعبّر عن ذلك بقوله: عن طريق (التشات) نخلق صداقات جديدة نتشارك معها الهموم، بدون خجل أو حواجز، فهو نوع من الهروب من الوحدة التي نعيشها كأبناء مغتربين.. أصدقاء الإسفير هم متنفس لتخفيف الغربة ووحشتها، وإذا تخلى عنك الأصدقاء الحقيقيون فإنك تجد الافتراضيين وتستطع من خلال تلك الغرف (التشات) إشباع غريزتك ب (الونسة)، ومعظم أبناء المغتربين يعيشون حالة فراغ عاطفي وحرمان وكبت، لذا تجدهم يبحثون في الإنترنت لإشباعها.. وفي نهاية حديثه عبّر ايهاب بقوله: إن ابناء المغتربين يدفعون ضريبة الاغتراب التي تبدأ من العزلة النفسية وتنتهي إلى الهروب لغرف (التشات). وانطلاقاً من تلك الحيثيات وضعنا القضية على طاولة د. نصر الدين أحمد ادريس رئيس قسم علم النفس التربوي بجامعة أفريقيا العالمية الذي ابتدر حديثه قائلاً: إنّ تناول قضية ابناء المغتربين لابد أن يتم من خلال مفهوم الاغتراب والهجرة والذي تزايد في الآونة الأخيرة، وصار بحجم أكبر وبالتالي هناك آثار نفسية واجتماعية تقع على الأُسر بسبب هذا الاغتراب، وهي تتفاوت حسب الفرد في الأسرة، فهناك آثار نفسية واجتماعية تتعلق برب الاسرة والزوجة والابناء، وذلك نتيجة اختلاف العادات والتقاليد والثقافة وكذلك البيئة، على الرغم من أن غالبية الهجرة للسودانيين تتركز في المنطقة العربية، الا أن اختلاف البيئة قد زاد من الآثار النفسية، ثم عرج نصر الدين للحديث عن أبناء المغتربين وقال: بسبب الاغتراب والهجرة نستطع القول ان ما يتعرض له الابناء من ضغوط نفسية واجتماعية اثرت تماماً في شخصيتهم، ويلاحظ ذلك واضحاً في المرحلة الجامعية عندما يعود هؤلاء الشباب إلى وطنهم للالتحاق بالجامعات حيث يلاحظ أن هناك عدة شواهد، والشاهد الاول نجد أن علاقتهم الاجتماعية ضيقة للغاية وتنحصر فقط بين ابناء المغتربين، حيث يقل التفاعل الاجتماعي الا مع امثالهم لأن الرابط الثقافي مرتبط لحد كبير بالثقافة الخليجية، ويضيف بأنهم في حالة (غربة نفسية) عن المكونات الثقافية للوطن والقليل منهم يكون ملماً بثقافة بلده، وهذه تعتبر كارثة. ويذهب د. نصر الدين في حديثه إلى أن ضعف العلاقات الاجتماعية لأبناء المغتربين مع بقية الطلاب (طلاب الداخل) يعتبر مؤشرا سالبا ينبئ بمشكلة كبيرة لقضية (الشعور بالانتماء)، وهذه المشكلات أضحت مثيرة للقلق بعد التطورات التي حدثت في مجال الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي عبر الوافد الجديد موقع (فيسبوك) الذي أصبح يسهم بالقدر الاكبر في مسألة التنشئة الاجتماعية والتربية واكتساب القيم، ويشكل أكثر فاعلية من بقية الوسائط الإعلامية، وبالتالي يجب أن نعيد قراءة وكالات (التنشئة) الاجتماعية بهذا المفهوم الجديد ففي الوضع الطبيعي - واقصد به أن تكون الاسرة السودانية بكاملها مستقرة داخل الوطن بوجود الاب والام والابناء - بهذا الوضع فإن الاسرة تكون الحلقة الأولى والمؤثر الاول من وكالات التنشئة الاجتماعية، ويأتي من بعدها دور المؤسسات التعليمية بدايةً بالروضة وكذلك الرفاق واللعب ودُور العبادة، ولكن في الوضع غير الطبيعي - واقصد الاسرة المغتربة - فإنّ مكانة الأسرة ودورها في التنشئة الاجتماعية يصاب بخلل كبير وتصبح عاجزة عن القيام بالدور المتوقع، اللهم إلاّ توفير الاكل والشرب فقط وهذا دور ثانوي، ولذلك تفشل مثل تلك الاسر في توفير الاحتياجات النفسية اللازمة، وبالتالي فإن هذا الفراغ الذي يحدث قد قام بملئه تماماً (فيسبوك) ومواقع التواصل الاجتماعي الاخرى، حيث لجأ هؤلاء الشباب إلى الموقع المذكور كوسيلة للاشباع النفسي، وهنا يجب قول حقيقة أن اللجوء إلى موقع (فيسبوك) لم يقتصر على الشباب من ابناء المغتربين، وان التعامل مع وسائل الاتصالات الحديثة لها ايجابياتها وسلبياتها، ف (فيسبوك) يوفر الحرية الكاملة عن مفهوم الصداقة الالكترونية دونما رقابة، وهذه العلاقات يمكن أن تستغل فى الجانب الإيجابي، ولكنها تؤسس لعلاقات غير ناضجة وغير سوية ولا سيما بين الجنسين، كما يتيح الموقع المذكور قدرا كبيراً من امكانية الاشباع النفسي والعاطفي في ظل الفراغ الاسري الذي يحدثه الاغتراب والهجرة. * لماذا يحس أبناء المغتربين بالغربة وهم داخل وطنهم؟ سؤال طرحناه على د. أشرف أدهم استاذ علم الاجتماع بجامعة النيلين، فقال: المغترب السوداني يختلف إلى حد كبير عن بقية المغتربين في مجتمعات أخرى عربية أو افريقية، ومكمن الاختلاف هذا يسير في الاتجاه السالب وذلك لان المغترب السوداني عندما يستقر في دولة الاغتراب يكون في نيته إنشاء حياة جديدة بعكس نظرائهم في المجتمعات الاخرى الذين يفضلون العودة إلى اوطانهم بعد جمع قدر من المال، ويرى أن المغترب السوداني يعاني من ضعف الارتباط بالوطن مما يجعله يشعر بالاستياء من وجوده في وطنه، وبناءً على ذلك يبتدع كل الاحاسيس التي تعمق الشعور سواء بالاوضاع الاقتصادية او السياسية، ويذهب د. أدهم في حديثه إلى ان تلك الاسباب هي التي ساقت المغترب السوداني لتكوين اسرة جديدة خارج نطاق العادات والتقاليد السودانية، كما انه يزعم بصورة وهمية انه يحافظ على ثقافته المحلية بتناول (الكسرة والملاح) يوم الجمعة، ويزعم ايضاً الآباء المغتربون أنه واجب عليهم أن يخلقوا لابنائهم حياة رغدة من عيش لا حرمان فيه، لذلك عندما يصطدمون بواقع تلك المجتمعات وبعد وصول الأبناء إلى المرحلة الجامعية يضطرهم ذلك للعودة إلى الوطن بعد انقطاع، وهنا يحدث نوعٌ من الانفصام الاجتماعي الذي يؤثر على نفسية وشخصية هؤلاء الأبناء الذين تتنازعهم المشاعر المتناقضة، فهم داخل وطنهم ووسط الأهل ولكنهم معزولون، كما ان المجتمع المحلي يلعب دوراً في تعميق هذا الشعور حيث يقوم الأقارب والأقران بمعاملة هؤلاء معاملة مختلفة، لذلك نلحظ في بعض الجامعات ان الطلاب الذين يُعرفون ب (طلاب الشهادة العربية) يكونون تجمعات صغيرة يتنفسون من خلالها اجتماعياً!. الراي العام