عندما كانت الشمس تميل الي الغروب، كان تشرق في دواخلنا حزناً، معلنة تمردها وسطوتها برغم الاحساس الغريب الذي كان يعترينا، فهو احساس مختلط بالحزن والفرح معاً، وعقارب الساعة تشير الي السادسة مساء كنا علي متن عربة (ركشة) نتجول في شوارع نوري قاصدين منزل (شاعر الغلابة) الراحل محمد سالم حميد ، ورغم ان نوري (كبيرة) في مساحتها، ولكن عندما تسأل عن منزل حميد (تضيق) ،والكل يأتي متلهفاً ليفوز بوصف منزل حميد فهو من المعالم التي يعرفها كل صغير وكبير في المنطقة ، فحميد في نوري امبراطور متوج بتاج الحب الذي يكنه له اهل نوري ، وسيرته علي كل لسان في شوارعها، حتي انه قد ينتابك احساس ان حميد لم يزل يتجول في ازقة نوري فبرغم (رحيله) ليزال متواجداً في كل (ونسات) اهل نوري ونصيبه نصيب الاسد عند كل تجمع سواء كان في (الافراح او الاتراح )، او كما قال: (ايه الدنيا غير لمت ناس بخير او في ساعة حزن) ،(فلاشات) ذهبت الي نوري لزيارة منزل الراحل محمد سالم حميد وخرجت بهذه المشاهدات المتوزعة مابين إحساس الفقد، وروعة السيرة. اركب (ياأخينا) (ماشي بيت حميد.. ومزرعتو.. وشارع الشهيد حميد بتوديني بي كم...؟)... ويرد السائق بسرعة: (طبعا الاماكن البتقولا دي بعيدة من بعض)...فأكرر السؤال للمرة الثانية: (خلاص بتوديني بكم...؟)، ليبتسم السائق ثم يقول بلهجة حزينة: (اركب ياأخينا... مش انت ماشي عشان حميد خلاص لو عندك او ما عندك بتصل.. وحافزي في المشوار دا حيكون إني وصلتك)...صعدت للركشة، وانا اتيقن تماماً أن للراحل بالفعل سحراً ربما يهزم حتى (الماديات).! شارع حزين: قبل ان ندلف الي الشارع المودي الي منزله توقفنا لفترة من الزمن عند لافتة يحيط بها (السواد) مكتوب عليها باللون (الابيض) شارع (الشهيد محمد سالم حميد) ، توقفنا في هذه اللافتة بضع من الدقائق ننظر اليها بعيون حزينة وهذا ما جعلنا نلاحظ ان كل شخص ياتي بهذا الطريق ينظر الي اللافتة ويدعو للراحل بالرحمة والمغفرة وهذا يجعلك ان تظن ان حميد رحل للتو. النخلة وحميد: في الشارع الذى يؤدي الي منزل الفقيد حميد (شارع الشهيد حميد) كان النخيل يحيط بنا من كل جانب وصوت الطيور يدغدغ مسامعنا لنتذكر في تلك اللحظات قصيدة حميد (النخلة) والتي تجعلك تحلق مع كلماتها كطيور سابحة في الفضاء وتأخذك في تحليق صاعد إلى الكمال فوق النرجسية والتي تقول إحدي مقاطعها: (النخلة تتجاسر تصون عش الطيور...البينا تفرد للجناح...ما ليها غير تطرح تمور...تملأ الشواويل القفاف...ينتم زين ... ينحل دين...يطلق ضهر زولا بسيط...واقف على حد الكفاف...ومن ركة الرزق المتاح...رزقو المعلق في السبيط)، والراحل كان من الذين معلق رزقهم فوق (السبيط) فهو كان من المزارعين المهرة فكان دائما مايقضي كثير من وقته في حواشته مراقباً للزراعة بعيون مزارع ثاقبة لم تلوثها اتربت المدن ولا (العمارات السوامق والاسامي الاجنبية) فحميد دائما ما كان يتحدث عن زراعته، وفي كثير من اشعاره تجده يذكر الارض لا انه يؤمن بها ويعشقها حتي جعلته يقول في احدي قصائده: (تأكل من الشدرالحلال يغشاك نعاس في ضل رمي). مسفلت بالقصائد: برغم ان منزل الراحل لم يكن بعيدا من اللافتة التي وضع فيها اسم شارعه، لكن لعدم سفلتتة الطريق استغرق الوصل الي منزله فترة من الزمن وهنا قال لنا سائق الركشة الذي يدعي سليمان سيد احمد من ابناء نوري ان الطريق برغم انه غير مسفلت ولكنهم لا (يكلون ولايملون) في المشي به لأن الطريق -وعلى حسب تعبيره-(مسفلت) بقصائد الشاعر حميد وفي حسرة اضاف : (السفلتة الكتلت حميد بندور بيها شنو...؟)... وأضاف: (لكن نسبة لان هذا الشارع يحمل اسم رمز من رموز الوطن ونوري علي وجه الخصوص من المفترض ان تهتم المحلية بهذا الشارع لأن حميد شاعر تعدى حدود الوجدان والاهتمام بشارع حميد فيه تقدير لكل الشعب السوداني وجميع الوان الطيف السياسي). سبيل وروضة: قبل منزل الراحل يقبع (سبيل) في ناصية الشارع شيده الراحل بنفسه كما قال لنا محدثنا سليمان والذى اضاف : (الراحل كان انموذج جيد لرجل الخير فهو رغم بساطته كانت (ايدو ممدودة لقدام) وزي ما بقول: (إيد اخوي علي ايد...وايد تجدع بعيد)، لذلك كانت قصائده صادقة وكانت تدخل من القلب الي القلب وحميد في نوري محبوب ليس لأنه شاعر ولكنه محبوب لأنه إنسان بكل ماتحمله الكلمة من معني ودلالات، وحميد رغم انه مزارع بسيط كان يعول كثير من الاسر سواء في نوري او غيرها، وقبل ان يكمل حديثه عن صفات الراحل حميد اشار بيده الي الروضة التي تبعد من السبيل خطوات وقال لنا بسرعة : (هذه الروضة ايضا شيدها الراحل حميد والهدف منها أن يتعلم (الشفع) في نوري. البيت القديم: بعد خطوات من هذه الروضة وصلنا للمنزل الذي تربي فيه حميد وتجولنا بساقين من الحزن في ذلك (الزقاق) الذي ينتهي في منزلهم ، حيث كانت روح الراحل ترفرف في كل مكان ، وعندما اقتربنا من المنزل قال لنا احد الشباب (ناس البيت ديل مافي) ، ومايدهش في هذا المنزل بخلاف بساطته هو (ترباس) الباب، فهو موضوع بالخارج بعكس (ترباس) المنازل الاخري التي يكون من الداخل ، وهنا تذكرنا رائعته (الرجعة للبيت القديم) التي يقول فيها الراحل في احدي مقاطعها:(لي بيوت بجيهن في أي يوم... إن جيتا ليل إن جيت دغش طوالي ..أدفر الباب وأخش) وهذا بالطبع ينطبق علي ذلك المنزل. منزل الراحل: بعدها ذهبنا الي منزل الراحل الذي بداء تشيده قبل وفاته من اجل ان يُزف إليه عريساً ولكن القدر كان اسرع، وداخل منزله تقف الحوائط مشدوهة والابواب علي الارض فكان الحزن يخيم عليها من كل جانب وهي واقفة منذ رحيله، بعدها توقفنا لفترة من الزمن قبل ان نخرج من المنزل الي الشارع وبعد خطوات التقينا بطفلة لايتجاوز عمرها الثامنة تدعي اسراء سألناها عن الراحل وهل تعرفه، فما كان منها الي ان دعت له بالرحمة اولاً، قبل ان ينفرط عقد الدموع من عينها لنغادر دون ان نعلق على ماشاهدنا، ونعود ادراجنا بعد ان كتبنا بدموع الحزن على بوابة المنزل: (عزيزي حميد...حضرنا ولم نجدك...لكننا وجدنا سيرتك العطرة). اقول شنو: كانت في حواشتها تتجول بين مربعات البرسيم بأريحية تامة وبدت وكأنها تجسد قصيدة الراحل الشهيرة (ست الدار) ولاسيما المقطع الذي يقول:(البرسيم طهرنا البراح ونعج راشد صبحت والدة)، التقت بها (فلاشات) في عجالة، هي زوجة ابراهيم سالم حميد شقيق الراحل، والتى عندما سألنها عن حميد قالت بصوت متحشرج: (هي ياولدي حميد اقول فيه شنو...؟)... وبعد هذا التساؤل لم تستطع ان تنظر لنا وحاولت اخفاء وجهها بثوبها الذي لملمت اطرافه ووضعته في اعينها. الكلام صعب: عدد من ابناء نوري قالوا ل(فلاشات) انهم لايستطيعون الحديث عن حميد، ليس مقاطعة للصحافة ولكن لأن الحديث عن الراحل يمثل امراً في غاية الصعوبة، أحدهم قال لنا ونحن نهم بالمغادرة: (يااخوانا...مااظن في زول مابعرف حميد...بس الداير يعرفوا اكتر يقرأ قصايدو)...ومعه حق فمعظم قصائد الراحل كانت سلسلة من حياته التى رواها ابداعاً وسحراً وعطراً شعرياً افتضحت رائحته وعمت كل القرى والحضر. السوداني