(تباً لأنانية الاحزان..حتى الفرح تصر على اقتسامه معنا). في اللحظات التى كنا نستعد فيها امس لإطلاق اضخم ملف عن عيد الام، والفرحة التى تتراقص في دواخل الناس، حمل الينا الناعي خبر رحيل شاعر الفقراء والغلابة (محمد الحسن سالم حميد)، والذى وافاه الاجل المحتوم بعد حادث حركة أليم، وهو في طريقه للخرطوم، لنتسمر في ذهول ودهشة، وتتملكنا احاسيس متنازعة مابين اللوعة والفجعة والهول، دقائق حتى استوعبنا الموقف، أو فلنقل اننا ادركنا مايدور حولنا، ومعنا حق في بطء الاستيعاب، فقبيل اسابيع غادرنا هرم غنائي كبير هو محمد وردي.. وامس الاول يغادرنا طائر الشمال المخضب بالوطنية وحب هذا التراب الغالي... غادرنا صاحب (الحريق) الذى اشعله حزناً في دواخلنا واوقد جمره ناراً تستعصى ان تخبو قريباً. وتاني واحد جميل في بلدنا مات وحميد ليس بشاعر عادي، يكتب القصائد، ويصوغ الكلمات ويرتب القوافي، حميد للأمانة وللحقيقة هو تاريخ عريض، ومدرسة شعرية باذخة المفردات ومرتبة النصوص ودسمة المضامين وصريحة لحد اخجال الصراحة نفسها، لذلك كان طبيعياً ان تسيل الدموع بغزارة يوم رحيله، وان يبكيه الكل بلا استثناء. وتاني واحد جميل في بلدنا مات حياة حميد لم تكن صاخبة على الاطلاق، فالرجل برغم شهرته وذيوع صيته في مجال الشعر اختار البقاء هناك بالشمالية في داره الصغيرة، رافضاً كل مغريات الهجرة للخرطوم، وكأنه كان يقول: (يااخوانا انا زي السمكة كان مرقت من الارض دي..بموت)، لذلك كان ارتباطه بالشمالية واهله في نوري وماجاورها كبيراً وخاصاً جداً، تتلمسه في قصائده التى تسرى هناك بين الناس كما الاطفال، وتحسه في حفيف اشجار النخيل، وقوقاي القمري، وتراه مضيئاً كنوار البرسيم واشعاع النيل عند الاصيل. وتاني واحد جميل في بلدنا مات حميد ليس غالياً على ربه، فقد مات بعد ان رسخ في عصب الشعر السوداني انفاسه واسلوبه واسس فعلياً اتجاهات متعددة للشعر، وترك لنا ارثاً ادبياً ينبغى المحافظة عليه بشدة وعدم التفريط فيه، لأن ذلك الراحل قضى عمره كله وهو يكتب الشعر ويقرضه ويوثق له، لذا فالمحافظة عليه واجب على كل اهل الثقافة. دمعة أخيرة: (غريبة الدنيا ياحميد)...انا لله وانا اليه راجعون.