غيب الموت في الآونة الأخيرة عدداً مقدراً من الفنانين، وكلما مات أحد من هؤلاء الفنانين يتسابق الإعلام في إبراز دوره ومساهماته صبيحة يوم وفاته، باعتبار أن هذا باب من أبواب التقدير والوفاء للميت، والترحم عليه وهم جميعاً تحت هول الصدمة ومرارة الرحيل. لكنني كل ما مات شخص كانت له صولات وجولات في الإعلام أتذكر رجلين أولهما الشيخ الجليل رجل الحكمة والعلم الشيخ (محمد سيد حاج) والذي كلما سمعت صوته عبر المذياع أو التلفاز أجاهد نفسي للاستماع إلى حديثه الذي يكون دوماً حسن ذكرى تشيّع الرجل هو غائب عن دنيانا، وأقل القليل أنه سيجد بعض الأكف والقلوب تدعو له بالرحمة والمغفرة، والغريب أن كل كلمة يقولها تحوي إدراكاً متيقناً بالرحيل وفيها موعظة لنفسه للناس بالإعداد لساعة الفراق، والذي يدرك الناس جميعاً أنها كانت سعياً وجهداً في الدعوة والخير. أما الرجل الثاني والذي كما أعادت لنا أجهزة الإعلام صوته وحديثة فإنني أجد بين كلماته كثير عذوبة وصدقٍ وحكمة، وهي تنساب من بين حديثه وتلقائيته وسرده الطيب، إنه صديقي الغائب الحاضر عزالدين محمد خير أبو الريش (الصبابي) لهما الرحمة والمغفرة. لكن حينما يموت فنان فإن أجهزة الإعلام لا تجد إلا أن تخصص اليوم الأول لتلقي التعازي عبر مهاتفات الجمهور، وسرعان ما تتجه في اليوم التالي وربما لشهر بعد ذلك لترديد أغنياته، وبصورة ممجوجة وربما مملة، ليتحول الأسى والحزن إلى طرب صريح والرجل لم تتحلل جثته في ظلمة القبر، بل وربما ما يزال يُسأل، ويحتاج أكثر ما يحتاج إلى دعاء طيب يرطب عليه الحال. وفي مثل هذا الموضع يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (اسألوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل) صحيح أن الحديث ربما جاء على محمل الحال من الدفن، لكن إلى متى يستمر السؤال أمر غير مستدرك.. ونحن بدلاً من تثبيته فإننا ندخله في طائلة (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). ورغم أن ثقافتنا في الموت وسرادق العزاء لا مجال فيها لقراءة القرآن والترحم على الميت، حيث تتحول أيام وليالي العزاء إلى حديث منصرف عن الموت إلى حديث وضحكات ونقاشات رياضية حادة تتخللها قفشات وذكريات، وربما صفقات و(سادومبا)، والضحكات دون حرج تتعالى هنا وهناك بينما أهل الميت وخاصته يموتون كل لحظة ألف مرة، ذلك أنهم مدركون أن هذه الضحكات جزء من ثقافة أهلهم، بل أنهم يفعلون ذات الشيء حينما يزورن غيرهم للعزاء، فتصبح أيام العزاء موسماً للأكل والاشتهاء والالتقاء وعقد الصفقات والميت يتقلب في قبره في انتظار حسنة واحدة يمكن أن تخفف عنه ويلات القبر وحلكة حاله. أما الفنانون فإن حالهم غريب، فهم الذين ظلوا (يهججون ويهيّجون) الناس الغارقين في اللهو والمجون، وهنا ربما لن نتخيل أحداً يترحم على فنانه في حال حياته، لأن الموضع والكينونة لا تنصرف لمثل ذلك أبداً، وكذلك أن هناك تضاد وانعكاس في الشعور في هذه البواطن، لذا فإن الخيرية الوحيدة التي يمكن أن تلحق بهذا الفنان تكون لحظه الصدمة الأولى في تلقي النبأ، وهنا يمكن للصدمة أن تنسي الجميع حالة (الهجيج) المرتبطة مع الفن ليتحول المرء مع المغني الميت إلى لحظة أسى وحزن تستلزم حالة من الدعاء له بالرحمة والمغفرة. لكن وللأسف الشديد تفسد هذه اللحظة أجهزة الإعلام بإعادة إنتاج حالة (الهجيج والهياج)، فتبعد الناس بعدا من الترحم والدعاء، إلى نوع من الذكريات المغادرة في مدارج الغناء ومعازف الشيطان، وهنا تكون هذه الأجهزة قد حرمت الفنان المتوفي من باب الخيرية الذي كان يمكن أن يكون، وصرفته عنوة إلى آفاق بعيدة، تنتهى إلى أن تشكل حاجزاً بين الفنان والرحمة. أما فيما يتعلق بالموروث من الأعمال التي يتركها الفنان خلفه، لن تكون صدقة جارية بأي حال من الأحوال، ولن تكون مادة تحتوي على عظة، لتظل تلك التركة حياة الناس من بعده، إذ أن الخيرية في أن يترك المرء خلفه ما يحمده عليه الناس وما يستحق الثناء والدعاء، ليكون خيراً يمشي بين الناس، كصدقة جارية مستمرة حتى يجد صاحبها ثوابها يتقطر عليه رحمة ومغفرة. ففي مثل هذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ففي أي إناء يمكن أن نضع غناء الفنان وميراثه في الحياة ؟؟ وأي معين من البر يمكن أن يحتوي هذا ؟؟. أما في البر فيقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، والإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ، ثَلاثًا). لكن دعوني أسأل عن شعور أهل الفنان الميت، وأقارن ذلك بشعور أهل الداعية الميت، ومن من هؤلاء يمكن أن يأنس بما يسمع ؟؟ قد يسمع أهل الفنان صوته ويشاهدون صورته باسترجاع صورته المتحركة، لكنه يخلف حزناً في أهله فقط، أما بقية القوم فلربما لا يتحسرون بسبب الاعتياد الفني والتكرار الممجوج. أما أهل الداعية فإنهم يحسون بالأمان والاطمئنان لحاله، وربما الزهو بعلمه وانتهاجه وحسن إعداده للحيل، ولربما يكون سبب الموت واحداً، هناك حادث أليم وهنا ربما ذات الحادث، لكن المشكلة تكمن في الاجترار والتكرار والحوار وما تبقى من المشوار. نسأل الله الستر لكل المسلمين ونسأله تعالى أن يغفر لكل الميتين، وأن يجعل مستقرهم في رضوانه، ونترحم على فقيدنا عزالدين الصبابي الذي تمر ذكراه هذه الأيام ونحن نتعهده بحسن الدعاء. ------------------- ملأى السنابل تنحني بتواضع.. والفارغات رؤوسهن شوامخ ------------------- صلاح محمد عبد الدائم (شكوكو) hotmail.com@shococo