انتهت أيامنا في الروضة اذاً.. انتهت سنتي الدراسة بالروضة.. وها نحن نستقبل عامنا الدراسي الجديد في المدرسة.. يا إلهي ... انه عالم مختلف.. دنيا جديدة .. غير تلك التي عرفناها... الفناها... وأحبباناها...!! اين ماما إقبال؟ واين ماما عفاف؟ اين تلك الاناشيد البسيطة التي كنا نتلوها ونحن نتمايل، ونغالب بعض من سوائل الانوف، تتحرك اجسادنا في براءة، ونحن نتلو تلك الأناشيد نسترسل فيها أصواتنا ندية، طروبة، نترنم بها داعين فيها للآباء والأمهات بطول العمر ودوام الصحة. أين تلك المراجيح المتناثرة في ذلك الفناء الواسع الذي كنا نسميه (حوش الروضة) أين الحوض الواسع المملوء طينا والذي كنا منه نصنع تلك الدمى والتماثيل، أين أصدقاء الطفولة والروضة هيثم ونصر الدين؟ فارقناها إذن.... استقبلنا يومنا الأول من الصف الاول بالمدرسة.. اذا نحن في مرحلة عمرية ودراسية جديدة، هذا ما توحي به هذه الوجوه الجديدة ، وجوه الطالبات والمعلمات. الطالبات الانيقات الاكبر منا سنا، واللائي توحي حركاتهن ونظراتهن وإيماءاتهن بأنهن قد الفن هذا العالم، اجدن التعامل معه.. اقمن معه علاقات متسامحة ومتألقة تعودن على طقوسه ومراسمه.. إحدى المعلمات حملت بين يديها آلة كبيرة انه (الجرس) رن عاليا.. تجمعت الطالبات المنتشرات في فناء المدرسة، تجمعن سريعا، تركن اللعب والجري والقفز، استجبن لنداء الجرس الأثير، ثم اذا بنا أمام حشد عظيم، انهن الآن كالبنيان المرصوص، يا للعجب والدهشة ..!! يقفن صفوفا حسب الطول، من علمهن يا ترى أن تمتد صفوفهن هكذا، وتناسب منتظمة في ترتيب يصعب على عقلي الصغير استيعابه؟ نحن الطالبات الجدد، طالبات الصف الأول، وقفنا متبعثرات كنا مشدوهات، منبهرت، بهذا الألق... بهذا الجمال. اقتربت منا فتاة طويلة ونحيفة تضع على رأسها شالا خفيفا، وشعرتين مجدولتين في عناية انسابتا اسفل الشمال وتمددتا الى صدرها.. قال بصوت عالٍ: يلا يا بنات سنة أولى اقيفوا صف طويل، ما تخربوا النظام، شوفوا سنة تانية واقفين كيف واقيفوا زيهم، الطابور الليلة على أستاذة زمزم. بعض الطالبات فهمن ما تعني بسهولة، البعض الآخر اضطرت إلى تنظيمه بنفسها، انتظم صفنا إذن... اصبحنا مثلهن... ها نحن الآن نكمل انتظام هذه الكوكبة الفريدة بوقوفنا في صمت.. مقابلين لطالبات الصف الثامن، مجاورات لطالبات الصف الثاني، ناظرات باعزاز الى طالبات الصف الرابع، قالت ازدهار صديقة طفولتي الاثيرة التي ما افترقنا انا وهي طوال تلك السنوات الثلاث السابقة، قالت وفي لهجتها شيء من الثقة، ثقة من لديه معرفة وخبرة ودراية سابقة بأمر هذا الجمع الغفير: بنات سنة اولى بوقفوهم قصاد بنات سنة ثامنة، بعدها خرجت الأستاذة ، مهابة في خطوات ثابتة وواثقة كانت تدنو منا، وفي منتصف المربع الذي تكوّن من تجمعنا نحن الطالبات وقفت، استاذة زمزم وبصوت عالٍ وواضح النبرات ألقت التحية. الطالبات الاكبر منا عمرا، الاكثر منا دراية وخبرة بهذا الطابور الصباحي، الاكثر منا طولا، ردن التحية في احترام.. بدأ صوت المعلمة واضحاً تحدثت قالت كلاما كثيراً.. أدركت من صديقتي ازدهار، أنها تهنئ جميع الطالبات بالعام الدراسي الجديد، ثم أمرت الطالبات بالالتزام واحترام المواعيد، مواعيد الحضور والانصراف، التزام الهدوء ما بين الفسح، الاهتمام بنظافة المدرسة وغيرها من التعليمات.. ذهلت من مقدرة ازدهار الفائقة على معرفة كل هذه التفاصيل، فأنا بالرغم من أن مخارج الحروف كانت واضحة، والصوت عاليا والاستاذة تتحدث، إلا انني لم افهم تماما ما تعنيه...!! قالت ازدهار متباهية، بمعرفتها الثرة انا مرات بجي مع لبنى اختي الى المدرسة.. كنت بقيف بعيد، احضر الطابور وأرجع عشان بيتنا قريب، ما في زول بيسألني والمعلمات ما قاعدات يطردني، أه الملعونة..!! لقد كانت تفعلها إذن تأتي بمفردها الى المدرسة، تقتنص بعض من لحظات، تتعرف الى دنيا جديدة، توسع مداركها بهذه المعلومات المهمة عن هذه اللحظات المتفجرة بالصمت المهاب، قلت في أسى، كمن فاته اللحاق بشيء مهم: وليه ما كنتي بتسوقيني معاك؟ قالت ازدهار: ما كنتي بتكوني نايمة، أنا بصحى بدري، بجي مع لبنى وارجع تاني بعداك اجيك في بيتكم.. اه لقد حرمتني من بعض لحظات فريدة. يتواصل العرض المهاب، تردد الطالبات الاكبر عمراً النشيد الوطني، الأصوات متناغمة ترتل في حب: نحن جند الله، جند الوطن إن دعا داعي الفداء لم نخن نتحدى الموت عند المحن يا بني السودان هذا رمزكم ابدو كالمصقوعة وازدهار تتلو النشيد الوطني، تبجل الوطن، تبدو في وقار تام، تخرج كلمات النشيد من فمها متتالية، وواضحة، يداها موضوعتان على صدرها في حب، وقفتها ثابتة وواثقة، عيناها مصوبتان نحو العلم المنصوب في عزة والمرفرف عاليا، المتمايل شموخا وكبرياء، ينتهي النشيد، نشد الوطن، همهمات من معلمات آخر حديث أفهم بعضه ولا استطيع استيعاب جزء آخر منه. تقول الأستاذة زمزم بعدها في صوت واضح النبرات (فصول) فينطلق بعدها الركب، ركبنا، ركب الطالبات الى الفصول، في الفصل نجلس بعد أن تقوم الاستاذة بتوزيعنا على المقاعد حسب الطول والحجم ومبررات اخرى، ربما أنا وازدهار في الصف الامامي إذن، تتعالى أصوات الطالبات وتتداخل.. بعدها أسمع الاستاذة تتحدث بصوت مخيف: هُس ما عايزة اسمع ولا كلمة. نصمت.. توزع علينا الكتب، اشتروا الكراسات، بكرة كل واحدة تجي شايلا كراساتا.. نصمت.. تأتي معلمة أخرى، اصغر عمرا اكثر اناقة.. واكثر قبولا.. تبتسم وهي تنقل بصرها بيننا تبدأ في كتابة اسمائنا اسما تلو الآخر.. تخرج.. انتهى اليوم بسلام.. في اليوم الثاني عدد من الإجراءات.. عدد من زيارات المعلمات، جاءتنا معلمة وقورة، ذات صحة وجسم ممتلئ.. كانت تلبس نظارة ضخمة ومن عينيها كانت تنطلق نظرات ثاقبة، متفحصة.. وقفت لبرهة تتأمل في وجوهنا نحن طالبات الصف الاول، بعدها قالت بصوت يتنافى مع ذلك الوقار المرسوم على وجهها: أزيكم يا حلوين، المدرسة كيف معاكم؟.. لم تتفوه احدانا بكلمة، الصمت كان يكسو المكان، قلت وانا الكز ازدهار: ودي كمان منو ام عيون كبار دي؟ قالت ازدهار في دراية وخبرة: دي أستاذة عواطف، كمان في زول ما بعرف ست عواطف؟ ست عواطف؟ سألتها وانا اتفحص الوجه الكبير... قالت في صوت خفيض ايوه ست عواطف، ثم اضافت ست عواطف دي صعبة خلاصة بتطرد البنات طوالي، ما بتحب الفوضى، بتحب النظام، بتدق دق شديد، اسكتي يا سلمى، تصمت ازدهار مرات فأثير رغبتها في الكلام بأسئلتي الملحاحة التي لا تنتهي.. في غمرة البحث عن إجابات لأسئلة لا تنتهي أنسى تحذيرات ازدهار وتنسي ازدهار صرامة أستاذة عواطف.. ننسى أنفسنا ويتحول الهمس إلى أصوات مسموعة، تدير أستاذة عواطف رأسها وبعين لا تخطئ فريستها أبداً، تسلط عيناها علينا ازدهار وأنا، تقول في غيظ: انتن الاثنين الصغار القاعدات جنب الشباك، ديل أمرقن ليّ هنا.. أمرقن سريع...!! اخفض بصري واتشاغل عنها كأن الحديث لا يعنيني، ازدهار تشيح ببصرها عنها... تتجاهلها في مكر طفولي، لكنها تقبل نحونا في ثقة ثم على كتفي تضع يدها الغليظة.. وباليد الأخرى تمسك بيد ازدهار (اطلعن لي! بره، اقيفن جنب السبورة)... نقف صامتين.. نظرات الصغيرات تلاحقنا كلعنة لا نمتلك حيالها خلاصا.. لا نملك منها الفرار. كم وقفنا يا ترى على حالنا ذلك؟ ساعة، ساعتين لا أدري... في آخر اليوم الدراسي كانت وفود طالبات فصلنا تشيعنا.. وقع أقدامهن يكاد يشق سكون الشارع، غبار خطواتهن يتصاعد مقللاً من أثر الرؤية، صراخهن يعم أرجاء الحي: وي... وي... وي ست عواطف عاقبتم.. ويستمر صراخهن.. تمسك ازدهار بيدي في قوة وتنطلق باتجاه منازلنا في صمت لا حديث بعد...!!