«مهداة لمبارك الصادق» وخرج من هناك وعبر «الحي الشمالي» ورأى المنزلين الموصدين المزروعين المغايرين.. وكان ضوء النهار قاسيا حارا وهادئا على الطرقات الفارغة. وبعد حادثة الامس جرع بالماء كمية من حبوب «الحلبة» على جوفه الملتهب فنام واستراح قليلا.. وعند الصباح اعادت له الذاكرة شريط الامس وحتى دخوله ذلك المنزل وما زالت الذكرى عالقة بها فكيف يسقطها او يتناسى مشاهدها؟ ونظر من جديد لحياته في هذه المدينة وتقريرتها المتكررة المعتادة وزاره طيفها مرارا (تلك المرأة بسمتها الرزين «ستنا بنت الطاهر» كما ذكرت لي بكل وضوح.. اعيد شريط الحدث واوقف عندها.. وأتأمل ملامحها الاليفة وكأني رأيتها من قبل.. جسدها المتين المربوع ولون بشرتها الاسمر الضارب للصفار الذهبي.. مشيتها الهميمة وحركتها الدائبة وتناغمها الداخلي فكأنها بالمثل قد رأتني من قبل.. وسرح خيالي معها بعيدا ولمعرفتي الدقيقة بالاثنيات والاصول المتفرقة بين الانحاء والمناخات المتباينة فقد وصلت بالفعل لمنابعها البعيدة في تلك التخوم وبان لي ذلك في سحنتها ولسانها الذي حكت به.. واهتديت للجهة التي خرجت منها.. لقد جاءت من عمق تلك الديار منفردة بظروفها الخاصة والتي لا بد ان تتمثل على التوالي كما حدث لغيرها وعلى نفس السيناريو كفتاة وحيدة فقيرة ومقطوعة لا حيلة لها.. جاءت من خلف تلك السهول المنبسطة وكثبان الرمال والتلال الجيرية الصغيرة هربا ولجوءا لمناخ اكثر طمأنينة فيما حسبت وراهنت. وكان لا بد من جريان الحدث على النحو التالي: وحملت صرتها المتواضعة.. وخرجت من مساحة ا الاخضرار الموسمي للمدينة المصنوعة.. وحين خرجت من البلدة المنسية في جنح الظلام قبل انبلاج الفجر وكانت بصحبتها صديقتها الاثيرة.. وتقدمت معها الى المقهى الواقع على ملتقى الطرق البرية.. حيث تمر الشاحنات الكبيرة والصغيرة واللواري التي تحمل في جوفها الركاب على الطريق المتجهين شرقا وكانت هيئتها المتميزة بالجاذبية والرزانة البادية مصدر تطلع واهتمام وتلصص من هنا وهناك وكان صمتها الجاد والحزين وقارا صد عنها التحرش والعبث ولم يدخل عليها احد.. ودعتها صديقتها شاهقة وباكية من بين دموعها! ومع شروق الشمس نزلت من ظهر تلك الشاحنة الصغيرة وقصدت باحة محطة القطار الذي تصادف انه كان متجها شرقا واصبحت رقما بين تلك الجموع المتدافعة حيث لم تجد عينا تلتقطها ودخلت في قمرة من قمرات القطار عند الدرجة الثالثة وكان البشر يكتظون مع امتعتهم ويهرجون هرجا مشاكسا ويحاول كل واحد ان يجد له مكانا ومساحة لمتاعه.. ومع ذلك اندست بينهم في الممرات الضيقة.. ويرشحون بالعرق والغبار والقطاع يقطع المسافات تتوارى خلفه المعالم والبلدات المتناثرة.. فمن يقف على رجليه ومن يتقرفص ومن يفترش المساحة الضيقة ومن يقف على الابواب يستقبلون رماد الرمال والحصى ولم يدخل جوفها طعام او شراب.. وقام احدهم من مكانه وجلست على طرف المقعد حزينة ويائسة مقطبة الجبين حتى انقضت تلك الليلة.. ودخل القطار المدينة عند منتصف النهار.. حملت صرتها ونزلت واختلطت مع الجموع النازلة والطالعة. فالى اين تذهب؟ وكان دليلها قدرها الذي ساقها لذلك المكان.. واضطربت قليلا في ان يراها احدهم يعرفها من تلك الديار والمسافات البعيدة من الذين اتت بهم المعايش الذين كانت تسمع عن رحيلهم شباب وكهول يتفرقون في المدائن.. وكثيرون لم يرجعوا وبعضهم كان يرجع في المواسم.. والبعض كانوا يصحبون زوجات استقر بهم هناك حتى انقطعوا وصعب عليهم الاياب.. وتذكر اندادها اللائي رحلن.. وكانت تحلم ان تصحب احدهم حتى داهمها القدر بذلك الشيخ الغليظ الجافي ذي الاموال المتجمدة وبعد فقد زوجاته واشتراها وكانت وحيدة وعديمة الحيلة ولم يجديها شيئا عزوفها وامتناعها فلحقتها الاهانات والسخرة.. ودخل عليها حتى حبسها حبسا كظا وفظا وطيلة شهور متوالية كانت تفكر في طريقة للخلاص تنجيها دون سلوك طريق العنف المضاد! وكانت خزينة اسرارها صديقتها الاثيرة الوحيدة.. التي خرجت معها في جنح الظلام والتي فقدتها ربما للابد.. وعند المقهى على الطريق كان الوداع الاخير.. وبرغم رزانتها وسمتها الوديع فان بعض العيون تحاصرها بالسؤالات الغامضة التي لا تنطق! وكان يغشاها الاضطراب والخوف من الايام الآتية وساقتها قدماها هنا لاحد اسواق المدينة الصغيرة ووقفت مترددة ومحتارة.. وبلا توقع وفي سرعة خاطفة اصطادتها العينان النافذتان، الجريئتان الخبيرتان.. ودعاها الرجل للجلوس داخل محلته وقدم لها طعاما ومشروبا ونفذت عيناها لداخل متجر الاواني من المونيوم ونحاس وصيني وبلاستيك.. ثم صحبها الرجل الاخضر المهيب المتين البنيان مع زوال الشمس لذلك المنزل المعلوم الذي اقتحمته يوم ذاك! وكان يبدو على الرجل وسامة ووقار مصنوع ومهارة فائقة لبلوغ مقاصده ولم يبذل معها جهدا كبيرا حين ساقها ودعاها للضيافة.. ودخلت للدار التي وجدت بها اخريات ومن شتى الجهات والالوان يحتشدن في الحجرات العديدة الصغيرة.. وكان استقبالها ذلك اليوم متحفظا وباردا وفيه عداء مستبطن.. تراخت شدته على مر الايام حتى اجتمعن في المصير العام خارج نطاق النظام المعلوم والسائد.. وفي ذلك الجو المخيم رأت كثيرا من حالات الانكسار والعويل والمشاكسات والعدائيات والمنافسات والتضحيات المبذولة! وكانت تجنح في ايام كثيرة للصمت والكمون والانعزال وتجد في نفسها ميلا للهروب والخروج عن هذا النمط الغريب والذي لم تألفه وتتطبع عليه.. فالى اين وكيف تجد لها مخلصا..؟ وارتال من الناس يدخلون ويخرجون.. ملثمون ومتلفهون وسافرون ومترنحون ومتباهون وخائفون ومتلبدون. يظهر لهن الرجل الاخضر المهيب من حين لآخر يتأبط واحدة جديدة تكون محظيته في اسبوعها الاول قبل ان تنضم للقطيع.. وطيلة النهار يكون في متجره يترقب! ومازال الحنين يمضها ويحرقها لمكان آخر به اطمئنان وهدوء واستقرار لتجد لها ملاذا وقلبا اخضر يحنو لها في محيط الاكاذيب والتلفيق والاعوجاج. وانا رايح جاي قلت اذهب لها.. في ذلك اليوم نهارا وسأستحضر مدخلي لها قبل ان القاها.. وعند الاستقبال ماذا اقول لها؟ تلك التي وجدت لديها اشياء ابحث عنها تفجرت عند لقياها بعد ذلك الحدث الكثيف. ومن توي قصدت ذلك «الحي» والشمس سافرة.. لا احد على الطريق الا بعض الاغنام السارحة.. الباب موصد.. وقطعت ذلك الزقاق جيئة وذهابا.. وكنت في غاية الحرج وتلفت ذات اليمين وذات اليسار فهل اطرق الباب؟ ثم وقفت بعيدا ارقب انفتاح البال لاي طارئ ثم يئست ورجعت خائبا. وفي يوم آخر ذهبت لها مساء وكان الزقاق ممتلئا باناس من الملثمين والسافرين والمتطوعين وكان رذاذ البذاءات يتطاير من هنا وهناك! البعض كان «يتلبد» في الزوايا المظلمة وتحت النوافذ ولفت نظري احدهم فكان يسرع ويخبط على الابواب وينكص متراجعا ليرقب من بعيد الوجوه المطلة المستجيبة لوقع الطرقات! فهل اطرق الباب وانادي باسمها؟ وكنت ألهث متضايقا وانا اشم تلك الروائح المعطونة وقد ضلت طريقها تلك الوديعة الطيبة والرحيمة وامتنعت ان تأخذ نقودا وكان رفضها صادقا وباترا حاسما فكأنها اهينت!! وستكون «امرأة» اخرى اريحية ومعطاءة وحنونة على طريقتها الصادقة العفوية البريئة السخية! وقد ضلت طريقها مغضوبة ومنتهكة!! وكيف التقيها الباسمة الرزينة.. وحتما ستخرج في يوم ما من هذا الزقاق. وكيف الخلاص من «عقدها» ذاك المنسوخ من جانبها من ذلك «الشيخ» الجافي الجلف سيئ الطبع الغليظ المتهالك الذي اذاقها الهوان وهي الصغيرة التي يماثل عمرها عمر واحدة من حفيداته الكثيرات ذلك الهراج المزواج الجبار على ماله الكثير الثابت والمنقول! وهنا وفي هذه «البقعة» المشتعلة بالظلام والرغبات فالكل «رايح.. جاي» وكنت الوحيد بين الكتل وتلك الجموع زائغ البصر خوافا رعديدا ومحتارا حذارا يعوزني حسن التصرف وحسن الختام وقلت في نفسي مالي ومال هذا الصراع الذي لن ينتهي.. وهل اسمع لها صوتا وهي تنادي او ينادي عليها.. ام انها ذهبت وهربت من هذا المناخ الوخيم؟ ومثلها لن يلبث هنا طويلا.. وهذا من طبعها الخجول وبراءتها وسماحتها وبشاشتها! وقلت حاسما امري سأعاود غدا نهارا وعلى المكشوف اقول لها واسمع عنها. وكان ذلك صباح يوم آخر والتقيت بأحدهم الذي تفرسني جيدا ونظر طويلا نحوي وانا «رايح جاي» واصابني خجل كتمته.. ثم وقفت قبالة الباب المنفرج قليلا وكدت ان اصيح «يا ستنا بنت الطاهر» ولكني احجمت.. فهل تكون نائمة ام مشغولة؟ وهذا الصباح فهل دخل احدهم ولم يخرج؟ ولو خرجت مصادفة وابصرتني فهل تناديني ام اذهب لها؟ وماذا اقول.. وهل اشكرها مرة ثانية؟ ولكنها لم تظهر ولم يظهر احد من فرجة الباب وعندما التقيها سأسرد لها كل ما خطر ببالي من توقعات لا بد ان تكون كما «هي» بحذافيرها وستأمن على كل ما قلت في شأنها وكل تخميناتي... ثم ماذا بعد؟ وفي موقفي هذا احتاج لمزيد من الجرأة والطلاقة والشفافية في ان تخرج من هنا وبأسرع وسيلة.. فهل تتبعني وتخرج معي قانعة زاهدة ومتقشفة ونختار مكانا آخر بعيدا لا يعرفني فيه احد من الناس! تكون لنا فيه حياة جديدة ومغايرة اقطع بها عنها ايامها تلك البالية.. وهل تقتنع بما اعرض عليها من قول وتصدقني؟ وماذا يقول الآخرون عني!! فما كنت ابحث عنه وجدته لديها ظاهرا ومخبوءا ستكشفه الايام بكل ما فيه من براءة ومقاصد نبيلة واصيلة ولن ارميها بحجر واتوب واعفو علها تتوب وتعفو عني واثناء ما كنت اوسوس لنفسي اطل بغتة وجه صبوح مكث قليلا ثم اختفى.. فهل احست بوجودي.. فهل تكون «هي» وانا حاضر لديها تعرفني من اول وهلة! بعدت قليلا ثم جئت مداوما في اول المساء قبل ان يكتظ الزقاق.. وكنت ضعيفا متهالكا ومتنازعا ومتوهما تصحبني كثير من الاسئلة اخفيها في قلبي وانا «رايح جاي» واتوارى محجوبا وملثما «اتلبد» في الظلام الشامل.. اتقدم قليلا لاطرق الباب متلاحق الأنفاس أحمل جرحي وجرحها الغائر!