عندما بدأ الصحفيون يترقبون أحاديث السياسة ويتلهفون إلى أية عبارة تفهم في سياقها السياسي كان مولانا ينبههم إلى ما هو أدعى للتأمل في حضرة الشريفة مريم الميرغنية ووالدها السيد هاشم بن الإمام الختم ،فالزيارة للتصوير لاللتصريح، وقوفاً على التاريخ التليد للمنطقة التي أرسى قواعدها الإمام الختم على جذرٍ صوفي راسخ تأسس على المنهج القويم لصاحب الرسالة الخاتمة عليه أفضل الصلوات وأتمِّ التسليم والتأسي بالأثر النبوي المبارك لأحفاده من آل بيته الذين طهرهم الله سبحانه وتعالى أزلاً في محكم تنزيله، فهم كهوف الالتجاء وسفن النجاة عندما تدلهم بالأمة الخطب، ورحم الله الشيخ علي زين العابدين في قوله نظماً: عليك بحزب الأكرمين وهديهم وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسلِ ولاتبتغي في غيرهم عوضاً كمن رام رياً من سرابٍ على سهلِ والمثير للدهشة في الاحتفالية السنوية أن الجماهير التي ابتلعتها فيضانات القاش في غير موسمه عقب «زلزال كسلا» قد خرجت من المالح لم يمسسهم سوء، فالمباديء مازالت قائمة والمحبة الصادقة للسادة المراغنة ظلت ديدنهم برغم توالي المحن والإحن، جاءوا من كل حدب وصوب زرافاتٍ ووحدانا يحدوهم الأمل في رؤية صاحب السيادة والتبرك بآثار السادة المراغنة في حضرة أم المراغنة الشريفة مريم المرغنية ووالدها السيد محمد هاشم الميرغني الذي خلفه والده الإمام الختم على مصوع والبحر الأحمر وسنكات فقامت على عاتقه أعباء الدعوة إلى الله في تلك المناطق وكان مرشداً بلسان الحال فضلاً عن لسان المقال، فأسلمت على يديه أمم كثيرة من النصارى في أرض الحبشة وغيرها من بينهم رهبان وقساوسة في تلك المناطق. وتتحدث المرويات التي نقلت عن شهود عيان أثناء حرب الطليان على الأحباش أن عساكر المسلمين كانوا يشاهدون السيد هاشم معهم في معمعة القتال،واقفاً أمامهم وقد حفهم الله بعنايته، حدث الأمر نفسه مع السيد محمد عثمان الميرغني إبان الديمقراطية الثالثة عند تحرير الكرمك والقيسان في العام 1987م، من أقوال بعض الثقات الذين خاضوا معركة التحرير، وهذا الأمر ليس بمستغرب من السيدين اللذين مرَّ ذكرهما آنفاً، فقصة سارية بن زنيم في بلاد الروم وهو يستمع إلى توجيهات أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب من منبره في المدينةالمنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام تقف شاهدة على ذلك، وذكر الزمخشري في الكشاف في تفسيره للآية»ألا أنَّ أولياء الله»، هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. واللافت للنظر أن الطريقة الختمية تميزت بسماتٍ عجيبة ومن ذلك أن يتولى الإرشاد في مصوع الشريفة علوية الحربية بينما تولت الشريفة مريم الميرغنية الارشاد في منطقة البحر الأحمر في ذاك الوقت خلفاً لوالدهم السيد هاشم بن الإمام الختم وهو حدث شديد التفرد حتى بين الصالحات اللاتي ذكرن في التاريخ مثل السيدة رابعة العدوية، ومن باب الذكر والتوثيق نجد أن الزعيم الأكبر السيد علي الميرغني أول من ساند المرأة السودانية لنيل حقوقها الدستورية وذلك حينما دار لغط بين العلماء حول أحقية المرأة في الإدلاء بصوتها في الانتخابات التي كونت أول برلمان ديموقراطي، ولم يُحسم هذا الجدل إلا بالقول الفصل من سيادته لصالح المرأة في ممارسة حقها في التصويت، ليس هذا فحسب بل ذكر السيد علي-قدس الله سره- أنَّه سيأتي وقت قريب تترشح المرأة فيها للبرلمان وهو ماحدث بالفعل في الديمقراطية الثانية، ولهذا عندما تحدث مسؤول رفيع المستوى في دولة عربية زارها السيد محمد عثمان الميرغني في بداية هذه الألفية عن الحقوق التي نالتها المرأة في ظل القيادة الرشيدة لدولتهم، ردَّ عليه مولانا أن هذا الأمر قد فرغنا منه في بداية خمسينيات القرن الماضي في إشارة لدور الزعيم الأكبر السيد علي الميرغني في ذلك. وكما هو معلوم أن للمرأة في الإسلام دوراً لاتخطئه العين، فالسيدة خديجة أم المؤمنين وجدة الأشراف-رضي الله عنها- كانت تحمل أعباء الدعوة مناصرة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا الصديقة بنت الصديق-رضي الله عنهما- التي قال عنها نبينا الكريم عليه أفضل الصلوات وأتمّ التسليم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»، وعلى هذا النهج سارت الشريفة مريم الميرغنية التي حفظت القرآن الكريم وتلقت العلوم الدينية في الزاوية التي أنشأها جدها الإمام السيد محمد عثمان الختم -رضوان الله عليه- خصيصاً لتعليم النساء أمور دينهن بسواكن،وتعتبر هذه الزاوية من المؤسسات الرائدة في مجالها في عموم السودان وقد نوه بذلك الشيخ بابكر بدري في الجزء الثاني من مذكراته. كما أسست مساجد وأنشأت زوايا للنساء على نفقتها الخاصة ومما لا يعرفه إلا القليل من الناس عن الشريفة مريم الميرغنية عمل مصلى ونُزل للزوار والمجاورين وطلبة العلم بالمدينةالمنورة- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- كما كانت تساهم في كثير من أعمال البر كإنشاء المساجد والمدارس وبالأخص مسجد بورتسودان العتيق والمدرسة الأهلية بها، وكأنَّما عناها المتنبي في قوله: ولو كل النِّساءِ كَمَنْ ذكرنَا لفضلت النساء على الرجالِ وما التأنيث لاسم الشمسِ عيبٌ ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ ليس هذا بمستغرب فقد تولت الشريفة مريم الميرغنية مهمة الإرشاد والدعوة إلى الله- في ذاك الزمان- يُعينها على ذلك نسبٌ يزدان بالانتماء إلى أشرف خلق الله وخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وثقافة دينية واسعة مع إجادتها اللسان البجاوي فضلاً عن ما حباها به الله من سجايا عالية ومكارم الأخلاق، مما جذب نحوها قلوب الناس فتعلقوا بمحبتها تعلُّقاً قلَّ أن نجد مثيلاً له ليس في مناطق البحر الأحمر فحسب، بل في عموم السودان وخارجه من جهة الشمال والشرق، فكانت ساحتها قبلةٌ يقصدها النَّاس بالشوق والمحبة، ولم يكن ذلك ديدن العامة فحسب، بل كان الخاصة يحرصون للقدوم إلى رحابها والتمتع ببركاتها، فجميع أفراد الأسرة الميرغنية المعاصرين لها حرصوا على زيارتها من مختلف الأقطار، من السودان ومصر وأريتريا والحجاز، بل كانوا يتيمنون بعقد زيجاتهم عندها وبين يديها، منهم مولانا السيد علي الميرغني وابنه مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، والسيد الحسن الميرغني من كسلا والسيد محمد أبوبكر الميرغني من مصر، وكان يقصدها بالزيارة السادة الأدارسة والشريف يوسف الهندي والسيد عبدالرحمن المهدي، فكانت تحوطهم بالترحيب والتكريم اللائقين بمكانتهم من وراء حجاب، ولهذه المكانة حرص مولانا السيد محمد عثمان الميرغني أن تتم مراسم واحتفالات العقيقة لجميع أنجاله في دائرتها بسنكات. إنتقلت الشريفة مريم الميرغنية إلى رحاب الله وصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها في رجب 1372ه الموافق 1952م بعد عمر مديد قضته في طاعة الله وصالح الأعمال. ومما لاشك فيه أنَّ لتلك المناسبات الدينية التي تقام بصفة دائمة في البيئات الصوفية من عظيم الأثر ما يجلُّ عن الوصف باعتبارها ملتقيات دورية يجتمع فيها ابناء الطريقة من أقاليم البلاد المختلفة، إضافة إلى التواصل الحميم بين شيوخ وخلفاء الطريقة مع مريديهم وقواعدهم وبخاصة في الطريقة الختمية التي تشكل الرافد الأكبر لقيادات حزب الحركة الوطنية وتقوم على عاتقهم الدفاع عن مبادئ الحزب والتبصير برؤيته في القضايا الوطنية المختلفة، كما أن مرشد الطريقة هو الرمز الذي يجتمع حوله قيادات الوسط بما يشكله من «كاريزما» وتفرد في قيادة الحزب ويتسع الأمر للشأن الوطني الذي يوليه السيد محمد عثمان الميرغني اهتمامه للخروج من النفق المظلم وتجنيب البلاد التدخلات الخارجية نتيجة لانعكاساتها السلبية على مجمل الأوضاع السياسية بتلك «الميكاڤلية» التي نظرت بها الإدارة الأمريكية للانتخابات السابقة على لسان مبعوثها غرايشن في لقائه بابناء الجنوب. ومما يجدر ذكره أن الرؤية الثاقبة لصاحب السيادة السيد محمد عثمان الميرغني لم تقف عند محطة التجاوزات التي حدثت في العملية الانتخابية، بل حاول أن يحقق إجماعاً وطنياً تتطلبها المرحلة الحالية من خلال سودنة الحلول وتوطين العدالة في الداخل، وألمح مولانا في الاحتفالية السنوية بسنكات على أن هناك جهات أجنبية تعمل على استغلال قضية المحكمة الجنائية لتسهيل فصل الجنوب وتفكيك السودان لعدة دول فيما بعد. وفي ظل هذا التجاذب الحاد بين الفرقاء السياسيين وماتخطط له القوى الدولية فإنَّ المشهد السياسي مفتوح لكل الاحتمالات ما لم يتم تدراك الأوضاع من خلال اجماع أهل السودان والقوى السياسية حول وفاق وطني شامل وهو المخرج الحقيقي الذي يدعو إليه السيد محمد عثمان الميرغني من أجل الاستقرار وتعزيز السلام والوحدة والديموقراطية. حاشية: نأسف للتصريحات غير المسؤولة من الأستاذ علي السيد عبر الوسائط الإعلامية، فالأمور تعالج بالحكمة وليس بالانفعال والخلافات الشخصية، والغريب أن القيادي المعني كان يلاحق الأستاذ محمود حسنين في فترات سابقة خضوعاً للمحاسبة عبر مؤسسسات الحزب التي يرى استحالتها الآن، ماوراؤك يا عصام؟!