تشير كل التوقعات ومعطيات الواقع السياسي الراهن بأن انفصال جنوب السودان يكاد ان يكون امراً راجحاً ، فقادة الحركة الشعبية الشريك الفعلي في انجاز اتفاق السلام وادارة شئون البلاد في الفترة الانتقالية التي انقضى جزء منها بانقضاء امد حكومة الوحدة الوطنية، ولا زلنا نعيش بقايا هذه الفترة ونحن نمضي صوب الاستفتاء الخاص بتقرير المصير بالنسبة لجنوب السودان ... قادة الحركة هؤلاء ما تركوا للمتفائلين والمؤمنين بخيار الوحدة أي خيط من امل يجعل درب الوحدة سالكاً ويقوى من فرص جذبها،فالتصريحات التي تعضد خيار الانفصال اصبحت تطلق في تحدٍ سافر،ودون ستر او مواربة من قادة الحركة سواء على هرم السلطة التنفيذية لحكومة الجنوب او على المستوى الحزبي لتنظيمها السياسي . تناسوا كل ما تمليه عليهم اتفاقية السلام ومواد الدستور الانتقالي التي توجب العمل للوحدة حتى آخر ساعة من عمر الفترة الانتقالية وراحوا دون خشية او تبصر ينفخون في جمر الانفصال ويستنهضون عواطف ومشاعر البسطاء من اهلنا في الجنوب ليضعوها في رصيد الانفصال ، سعياً وراء سلطة لا يدركون الى اي مصير تقودهم في ظل القبلية التي يشهدها الجنوب الآن والتي تشير قرائن الاحوال انها ستزداد ضراوةً اذا ما تم الانفصال. ومن جانب آخر فإن الاستراتيجيات الغربية للولايات المتحدة ودول غرب اوروبا باتت هي الاخرى تنفخ في جمر الانفصال وتزينه وفقاً لمصالحها وأطماعها وتهيئ العالم كله الى قبوله، وباسلوب خبيث وتصريحات من قمة هرم الادارات الامريكية والبريطانية وغيرها وهى تستحسن خيار الانفصال وتروج له،غير عابئة هى الاخرى بأن هذا الاستحسان وذاك الترويج يتعارض مع نصوص الاتفاق والذي كانت هذه الدول من ابرز رعاته . ومما لا شك فيه ان هذه الاستراتيجيات تحركها اطماع ومكاسب ومزايا تجد فى دولة الجنوب المستقلة موطئاً لتحقيقها،فثمة حديث يدور في اوساط خبراء الاستراتيجية ومعاهدها المنتشرة في الغرب مفاده ان دولة الانفصال الوليدة في جنوب السودان ستكون مقراً لقوات التدخل السريع الامريكية في القارة الافريقية والتي اطلق عليها (آفريكوم) ..هذه القوات أُريد لها ان تكون ذراعاً طويلاً للاجهزة الاستخبارية والعسكرية الامريكية في القارة السوداء،وتأتي اهمية جنوب السودان في هذا الشأن لكونه يحتل رقعة استراتيجية تشرف على منطقة البحيرات بكل ما فيها من أزمات إثنية وعرقية،وايضا لقربه من شواطئ القرن الافريقي بما يمثله من بعد استراتيجي عالمي،ولذلك فهي تخشى بأن يكون مكاناً يتهدد فيه امنها. هكذا اذاً تطابقت وانسجمت رؤية الحركة الشعبية في الرهان على الانفصال مع اطماع الاستراتيجية الدولية،ومع اغفال تام(على الاقل من جانب قيادات الحركة) لجدوى المشروع الوحدوي والمخاطر التي تحيق بالجنوب وشعبه جراء الانفصال. ما بقى في الساحة السياسية الداخلية من امل نتمسك به ونعض عليه بالنواجز الا تلك التصريحات المتزنة والمتفائلة التي ترمي بها قيادتنا السياسية في رصيد الوحدة،وهي كما نعلم ليست تصريحات تطلق في الهواء ولكنها قول يتبعه فعل سياسي يعزز من آمالنا وتطلعاتنا نحو الوحدة.لقد درج الرئيس البشير منذ انتخابه على جعل خيار الوحدة اول مرتكزات خطابه السياسي وراح يستنهض الهمم المحبطة والآمال المنزوية للدفع معه باتجاه الوحدة،ومضى يردد القول الأثير(بأن السودان الذي تسلمناه موحداً من جيل الآباء سنسلمه موحداً لجيل الأبناء) كذلك قوله (لا استطيع ان اتحدث عن الوطن وجوبا خارجه) . وفي ذات السياق تجئ اقوال نائب الرئيس الاستاذ علي عثمان الذي راح يبشر بالوحدة في كل زياراته الداخلية في اقاليم وولايات السودان المختلفة،ولعل الحرص الذي ابداه في متابعة مشروعات التنمية بالجنوب والتدقيق في انجازاتها قبل الاستفتاء خلال زيارته الاخيرة لجوبا هي ابرز دليل على صدق التوجه في العمل الجاد للوحدة.أهمية هذا القول انه كما قلنا يجئ من قمة هرم السلطة التنفيذية (الرئيس ونائبه) ...قول نأمل ولا نشك أنه سيثمر توجهاً صادقاً وفعلاً راشداً . هذا الصدق في الوعد والفعل في القول خبرناه وجربناه في كثير من المنعطفات الحافلة الحادة من قبل رئيس الجمهورية ونائبه،فالسيد النائب هو الذي اضطلع بالجهد الوافر والصبر الدؤوب في انجاز اتفاق السلام في ضاحية نيفاشا بكينيا،اذ ظل منقطعاً في ذلك المنتجع لتسعة اشهر متواصلة وهو يواصل الليل بالنهار في جهد شاق ومضني.نهاره في اجتماعات متصلة وليله حتى الصباح في مشاورات مع الرئيس في الخرطوم. هجر الاهل والزوجة والابناء ودفء الحياة الاسرية و ظل كالراهب في صومعته في ذلك المنتجع يواصل العمل آناء الليل واطراف النهار ولم يترك شريحة من مكونات المجتمع السوداني الا وبعث يدعوها الى ذلك المنتجع ويشاورها،يستوي في ذلك خبراء القوانين الدولية ورجال الاعمال والاقتصاديون وحتى رجال الدين وقيادات الطرق الصوفية.كان نائب الرئيس في تلك الايام مثل الناسك فى محرابه فقد انقطع تماما للمهمة الشاقة وشبه المستحيلة التي اوكلت له،هذا الكلام لا اقوله من الخيال اذ امضيت شهراً هناك ولاحظت بعيني ان منتجع نيفاشا به الكثير من الغرف الا ان الغرفة الوحيدة التي تظل مضاءة حتى الصباح هي غرفة ذلك الرجل ، وفي كثير من المرات كان اليأس والاحباط يسود اجواء المفاوضين من الجانبين ويدور الحديث حول بيان مرتقب بتعليق المفاوضات وفضها وطلب منى البعض التلميح له بهذا الشعور اليائس ولكن عندما فعلت أجابنى ساخراً وضاحكاً وقال (ان كان هذا شعوركم فلماذا لا تكتب البيان)!! كان الرجل يملك ذخيرة وافرة من التفاؤل ، وهو تفاؤل لم تمله العاطفة بل يأتى من حسابات دقيقة وقراءة ناضجة للمستقبل السياسى . وفي ذات الاتجاه ونحن نتحدث عن علو الهمة والروح المقاتلة المصممة لدى الرجل الصبور الذي يكاد الصبر يشكو من صبره اذكر ايضا في مفاوضات ابوجا عندما كنا في معيته وكانت المفاوضات تشوبها اجواء من التعثر والتشاؤم،ولكن مقدمه للعاصمة النيجيرية اعطى شحنة من التفاؤل خصوصاً بعد الخبرة التراكمية الوافرة التي اكتسبها في مشوار نيفاشا المضني والشاق.هذا التفاؤل لم ينحصر في اوساط الوفد الحكومي السوداني بل تعداه الى قادة الفصائل الدارفورية المتعددة ولعلهم ادركوا ان اقوال الرجل هي حتماً ستصبح افعالاً. في ذاك الوقت كان المرجح ان يوقع عبد الواحد محمد نور(قائد أحد الفصائل) إلا ان المباحثات اسفرت عن توقيع فصيل السيد مني اركو مناوي وكان وقتها اقوى الفصائل على صعيد الميدان.خلاصة الامر ان السيد علي عثمان ما اوكلت له مهمة عسيرة إلا (تشمر) وتجرد لها بكل عزم ومضاء حتى انجزها. إن هذه المرحلة الدقيقة التي تجتازها بلادنا،وهذه الاجواء المقلقة التي يسودها التشاؤم السياسي تحتاج الى مثل هذه الاقوال والافعال الايجابية التي يطلع بها رئيس الجمهورية ونائبه،وذلك في مواجهة الترويج للانفصال والذي تمضي فيه بكل اسف الحركة الشعبية وتساندها فيه بعض دول المجتمع الغربي.ومما يبعث على التفاؤل وسط هذه الاجواء بروز رأي شعبي جنوبي لا ينساق وينجرف الى خيار الانفصال،فقطاعات واسعة من ابناء الجنوب باتت اليوم تدرك حجم الجحيم الذي يمكن ان يجرهم اليه الانفصال،وفوق هذا باتوا يتفهمون ويدركون ان توجه الحكومة الصادق نحو الوفاء بفواتير التنمية في الجنوب انما يجئ وفاءً لدعم خيار الوحدة وبالتالي اصبح صوت الوحدة يعلو شيئا فشيئا بعد ان كان صوت الانفصال هو الصوت الأوحد. إننا نأمل ان تدرك دول الجوار ان جرثومة الانفصال هذه ان اصابت جنوب الوطن فلن تقف في وجهها الحدود السياسية بين بلدان الاقليم ولكنها ستتسورها لتضرب كل دول الجوار تلك خصوصاً وان هذه الدول تموج احشاؤها السياسية بكثير من الصراعات العرقية والقبلية والمذهبية،لذلك نأمل ان تقلع بعض هذه الدول عن ممارسة دور المتفرج او المشجع ، وعليها ان تعيد قراءة الاوضاع السياسية حتى تدرك ان انظمتها السياسية ووحدتها الوطنية ليست بمأمن من هذا التوجه الانفصالي. اننا نضع كل آمالنا في هذا التوجه الايجابي المسئول الذي يطلع به الرئيس ونائبه في هذه الايام العصيبة..لكننا نأمل ان يقترن الصدق في القول والفعل بالاهتمام بتوحيد جبهة الوطن الداخلية ودعوة كل القوى السياسية للإصطفاف حول موقف وطنى واحد ، موقف يترفع عن إجترار المرارات ويكف عن المزايدات والمهاترات السياسية ويجاهد من اجل الوحدة ، وهو أمر ينسجم مع روح الاتفاقية ونصوصها على عكس دعاوى الانفصال . إن الوطن الذي نخشى عليه من التفكك والضياع يتطلب من الحكومة والمعارضة وكافة القوى السياسية وقوى المجتمع المدنى التوافق حول ثوابت وطنية والالتزام بخط قومي وطني يعلي من شأن الوحدة ويبصر بمخاطر الانفصال...خط قومي وطني تنزوي فيه الأجندة الخاصة وتعلو فيه راية الوطن الواحد الموحد.