نزاهة الاستفتاء وشفافيته المطلوبة لا تعني حياداً بين خياري الوحدة والانفصال ، بل أن الاتفاقية تحتّم وتُوجب الترويج للوحدة وتؤثم وتدين النزعة الانفصالية وفقاًً لنصوص الاتفاق. الأوضاع السياسية التي يعيشها السودانيون الآن تجعل اي متابع او مراقب للاحداث يعيش في حالة من الارتباك والحيرة،ولا يستطيع ان يقيّم الاحداث ومجرياتها تقييماً صحيحاً،ولا أن يتكهن او يحدد اي مدى يمكن أن تمضي فيه الامور،فالخطاب السياسي في هذه الايام يتنازعه صوتان..صوت يعمل للوحدة وآخر يدعو للانفصال،والغريب ان هذين الصوتين المتناقضين والمتصادمين يبرزان من داخل الحكومة القائمة أي الشراكة السياسية المبرمة بين طرفي نيفاشا وهما حزب المؤتمر الوطني وحزب الحركة الشعبية..تلك الشراكة التي استمدت مرجعيتها وفقاً للاتفاق التاريخي ثم تجددت مشروعيتها وفقاً لحصاد صناديق الانتخابات الاخيرة. فالصوت الداعم للوحدة هو الصوت الاعلى داخل الحكومة المركزية والتي يشكل المؤتمر الوطني معظم قوامها ..وهو صوت يمزج القول بالفعل السياسي وينشط في التبشير بالمزايا السياسية والوطنية لمشروع الوحدة ، مصطحباً معه العمل الميداني التنموي في الجنوب والذي اصبح موضع الاهتمام الاول للرئيس ونائبه وكبار التنفيذيين في الحكومة المركزية.أما الصوت الآخر المناهض للوحدة والداعي للانفصال فينشط فيه تيار واسع من قيادات حزب الحركة الشعبية وحكومة الجنوب،هذا التيار يوصف قادته بالصقور او المتشددين الذين يبذلون بدورهم جهداً كبيراً كيما يكون الانفصال جاذباً،وهم يجاهدون ليصبح الانفصال حالة مزاجية سائدة وسط ابناء الجنوب خصوصاً الاجيال الشابة والمتعلمة وذلك باستثارة العواطف والعزف على اوتار التعنصر وغياب دولة المواطنة. ولا يحتاج الامر الى اجتهاد كبير لندرك ان هذا التيار الانفصالي داخل الحركة ينشط في قيادته الامين العام للحركة باقان اموم وبعض القيادات الأخرى،وقد وصل الامر بالامين العام الى التهديد حتى بالتنصل عن الاستفتاء واستباق الأمر باعلان الاستقلال من داخل برلمان الجنوب اسوة بما حدث في ديسمبر 55 حيث تم اعلان الاستقلال من داخل البرلمان،ولا يحتاج المراقب لكبير عناء حتى يدرك ان الامر مختلف ... ففي الحالة الاولى كان الهدف هو انتزاع الاستقلال الوطني من براثن احتلال واستعمار اجنبي بينما الحالة الثانية ترمي لتمزيق وطن وتنصل عن اتفاق توصل اليه اهل السودان ورعته مؤسسات اقليمية ودولية.هكذا راح هذا التيار الانفصالي يروج لاجندته ليس بالقول فقط ولكن بوسائل القمع وسطوة الارهاب لكل من يختلف معه من أبناء الجنوب ولعل الانتخابات الاخيرة في جنوب السودان تقف شاهداً على هذا التوجه الذي يرمي لاسكات اي صوت جنوبي وحدوي ومصادرة حقه في التعبير،بل الامر تعدى الداخل الى الساحات الدولية والاقليمية حتى راح البعض يروج للانفصال علنا وبشتى الطرق والاساليب. هذا الصراع بين تيارين احدهم وحدوي وآخر انفصالي نخشى ان يحتدم ويتجاوز الخطاب على المنابر الى الصراع في الميدان ، مما ينذر باشعال فتائل الحرب والاحتراب من جديد.ومما يزيد من اجواء الاحتقان السياسي في هذا المناخ السائد النقاط العديدة المختلف عليها بين هذين التيارين ومن بينها ترسيم الحدود واقتسام الموارد الطبيعية واصول الدولة والوفاء بديونها في حالة الانفصال.ففي شأن ترسيم الحدود يصر دعاة الوحدة على انجاز ترسيم الحدود قبل الشروع في الاستفتاء تحسباً وحرصاً من انفجار الوضع اذا ما كان خيار الانفصال هو الراجح،بينما الجانب الآخر المضاد يتمسك باولوية الاستفتاء على ما عداها دون تحسب لمآلات المستقبل التي تنذر بالانفجار.هذا المنطق السليم والداعي لاولوية الترسيم يمكن ان نجد ما يسنده في تجربة اثيوبيا وارتريا حين استبقا الانفصال الامر الذي ادخلهما في حرب مريرة ذات كلفة عالية ولا يزالان حتى اليوم في صراع حول هذا النزاع الحدودي. في اجواء الصراع المحتقنة هذه تبقى الحقيقة الغائبة التي لم يدركها قادة تيار الانفصال،وهي ان الدعوة للوحدة هي في جوهر اتفاق السلام بينما الترويج للانفصال يخالف مواثيق الاتفاق،فنزاهة الاستفتاء وشفافيته المطلوبة لا تعني حياداً بين خياري الوحدة والانفصال بل أن الاتفاقية تحتّم وتوجب الترويج للوحدة وتؤثم وتدين النزعة الانفصالية وفقاًً لنصوص الاتفاق. وثمة سؤال واضح وبين يحضرني في هذا الشأن،فخلال زيارتي الاسبوع الماضي لمريدي في معية السيد نائب رئيس الجمهورية حرصت على النزول الى الشارع في تلك المدينة الساحرة ذات الطقس الخلاب الذي يفوق كل المنتجعات السياحية في العالم..تحدثت بالمصادفة الى أحد المواطنين من ابناء الجنوب فراح يحدثني بمرارة وأسى عن ان المناخ السائد في معظم مدن الجنوب هو مناخ الانفصال،رغم انه يرى ان الكثير من أبناء الجنوب يتعاطفون مع المشروع الوحدوي ويؤملون فيه خيرا لمصلحة الوطن،وراح يعزو هذا المناخ الانفصالي لتيار نشط داخل قيادات الحركة يجاهد - كما قلنا- لتثبيت هذا التوجه ممنياً أهل الجنوب بميلاد وطن قومي لهم يريحهم من(إستعلاء جلابة الشمال)،ويزين لهم الثمار الاقتصادية للانفصال والمتمثل في النشاط الاقتصادي الذي ينمو يوما بعد يوم مع دول الجوار مثل كينيا ويوغندا والكنغو للدرجة التي اصبح فيها حتى الماء العذب يستورد من يوغندا.ومضى محدثي من ابناء مريدي يشرح لي بوعيه الثاقب أنه وقلة من ابناء الجنوب المستنيرين يدركون تماماً آثار الدمار الاقتصادي الذي يمكن ان يجره هذا التوجه الاقتصادي الذي سيجعل آخر الأمر من الجنوب سوقاً استهلاكياً يغذي خزائن دول الجوار تلك دون ان ينال الجنوب من هذا المسلك أية ثمار تنموية حقيقية،فانشاء الفنادق والقاعات والمطاعم وفتح افرع للبنوك واغراق الاسواق بالسلع والمنتجات يظل نشاطاً هامشياً وطفيلياً يستنزف موارد العملات الصعبة من الجنوب ليودعها في رصيد دول الجوار.ومضى المواطن(المريدي) يقول ان قلوبهم تميل للوحدة لانهم يدركون تماما ان مستقبل الجنوب في الاستمرار في الوحدة مع الشمال ، لانهم يدركون ان طريق الانفصال محفوف بألغام القبلية والحروبات العرقية التي ستندلع فور الانفصال بين المكونات القبلية لمجتمع الجنوب والتي - حسب توقعه- ستغذيها النخب الجنوبية المختلفة فيما بينها.وراح الرجل يقول إن ابرز الاوراق التي يستعملها دعاة الانفصال تركز على مسألة العنصرية وغياب دولة المواطنة ، الا انه وقد عاش كل فترة شبابه في الشمال حيث نال تعليمه وعمل وتخرج اولاده وتوظفوا .. لكنه لم يشهد يوما أن أوصد مستشفى او مدرسة او جامعة او وظيفة الابواب في وجه واحد من ابناء الجنوب،وراح يدلل على قوله بأن شارع الجمهورية في قلب الخرطوم كاد أن يصبح سوقاً جنوبياً ينشط في معظم تجارته أبناء الجنوب وكذلك الحال في بقية مدن الشمال والشرق والغرب.وعرج الرجل في ختام حديثه الى القول بأن بعض دول الغرب تشجع هذا التيار الانفصالي إذ يرون مصالحهم الاستراتيجية في الانفصال،فهم يسيطرون على منطقة وسط وشرق افريقيا ومعظم دول القرن الافريقي،وان السودان الموحد لا يمكن ان يصبح تحت الهيمنة والحماية الامريكية بينما دولة الجنوب الوليدة من السهل جرها بالترغيب والتهديد الى مظلة الحماية هذه،مما سيؤدي الى زعزة الشمال وبالتالي تنتقل جرثومة الانفصال الى بقية اجزاء السودان المتبقية ليصبح السودان آخر المطاف (دولة جريوات صغار)على حد تعبيره. (دولة جريوات صغار) ) ...يا له من تعبير صاغه هذا المواطن الجنوبي المستنير ، وهو تعبير يعبر بدقة متناهية عن المصير القاتم الذي يفزع منه كل دعاة الوحدة.ولعل هذه الحيثيات التي عبر عنها هذا المواطن صحيحة الى حد كبير،فمثل هذا المناخ الانفصالي السائد الذي يتوجس منه الرجل يستمد جذوره ويقوى عوده بسبب ان السودان باكمله والجنوب على وجه خاص لم تتشكل فيه بعد القومية الجامعة بين أبنائه،فالقبلية هي المسيطرة والتنازع القبلي هو سيد الموقف..صحيح ان التنوع يمثل ثراءً مقدراً في الموارد البشرية لأية دولة ولكن هذا التنوع في نفس الوقت يشكل عنصراً هادماً إن لم ينصهر في بوتقة قومية جامعة.هذا الانصهار لا يمكن ادراكه الا عبر نشاط تراكمي متصل يشمل الحياة الاجتماعية والبناء الاقتصادي والنشاط التنموي والتوجه السياسي. إن اغفال هذه الابعاد الاجتماعية والاقتصادية والتنموية والسياسية هو الذي جعل دعاة الوحدة والانفصال ينساقون الى العاطفة،يستمدون منها الزاد في مؤازرتهم للوحدة او دعوتهم للانفصال،ولكن العواطف تبقى بضاعة كاسدة في يد كلا الفريقين..فقضايا الاوطان المصيرية لا يمكن ادراك حلها وتسويتها عبر العواطف رغم نبل المقصد،اذ لابد من المنطق العقلاني المستنير في التعامل مع هذه الازمة. هذا التعامل العقلاني افرز عدة مشروعات واجتهادات ترمي للخروج من النفق السياسي المظلم الذي نحن فيه،وتعمل على فتح كوة ضوء تبدد هذه العتمة.ومن بين هذه الاجتهادات رأى يدعو لتطوير فريق العمل المشترك بين شركاء نيفاشا والذي ينشط هذه الايام لبحث ترتيبات ما بعد الاستفتاء..تطوير يمضي اكثر من بحث تلك الترتيبات الى التوافق على تصور لوحدة مستدامة ومحسنة تقوم على اساس نيفاشا يتم فيها تسوية كل القضايا الشائكة ما بين شمال الوطن وجنوبه ... تصور يعطي جرعة كبيرة من الاستقلالية اللامركزية للجنوب في اطار الوطن الواحد.صحيح ان هذا الحل يبدو نموذجياً ومطلوباً ولكن تكتنفه الكثير من المشاكل التي تتطلب مرونة مطلوبة من كلا الطرفين،ولا نرى بأساً في ان يكتسب هذا التوجه بعداً اقليميا ودوليا وذلك باستنفار وحشد كافة القوى العالمية لمساندة السودان في ايلاء قضية الوحدة الاهتمام المطلوب ، بحسبان ان انفصال الجنوب ستكون له تأثيرات لا يستهان بها على الوضع الاقليمي لدول القارة الافريقية . ان هذا الاستنفار الدولي الذي ننشده لدعم الوحدة يجب ان يشمل قوى دولية مؤثرة تم تغييبها في رعاية اتفاق نيفاشا..دول مثل الصين والهند وروسيا واليابان وغيرها الى جانب تفعيل الدور الافريقى والدور العربي ومنظومة الدول الاسلامية،فالثقل السياسي والاقتصادي لهذه القوى الدولية يمكن ان يقدم ضمانات دولية تخدم قضية الوحدة بأكثر مما فعلته وعود المانحين في اوسلو، التي تبخرت وذرتها الرياح.هذا التوجه يجب ان لا يُفهم بأنه تنصل من اتفاق نيفاشا او من الاستفتاء ولكنه يأتي منسجماً مع روح الاتفاق الذي ينص على دعم جاذبية الوحدة بشتى السبل.ومن المهم ان يجاوب هذا المؤتمر على كل الاسئلة الصعبة وفي طليعتها اقتسام الثروة وترسيم الحدود واعلاء قيمة المواطنة تحت ظل دولة ديمقراطية موحدة . هذا واحد من الاجتهادات وهناك اجتهادات اخرى من يبنها(طريق ثالث)) يُنسب للولايات المتحدةالامريكية يرمي لخلق اجندة مشتركة متوافق عليها بين الشمال والجنوب للتعاون السياسي والاقتصادي والتنموي من اجل الوصول لابتداع شكل جديد من اشكال الوحدة اشبه بالكنفدرالية . ايضاً هناك توجه يدعو لتطوير نموذج الحريات الاربع بين مصر والسودان في اطار دولتين مدعوماً باتفاق لحفظ السلام ونزع فتائل الاحتقان والاتفاق على ما يوطد هذه العلاقة. كل هذه الاجتهادات في تقديري تمثل منهجاً عقلانياً ومنطقياً ومطلوباً ونحن نتلمس سبل الحل لتدارك هذا المأزق السياسي..صحيح اننا نؤيد بعضها ونتحفظ على الآخر ولكن يبقى سلامة المنهج وتحقيق أعلى قدر من الوفاق الوطني هو بيت القصيد، إذ عبر هذا المنهج العقلانى وحده نستطيع ان نجاوب على السؤال الصعب ....تحقيق وحدة السودان هل باتت أمراً مستحيلاً أم هناك بارقة أمل تلوح في الأفق السياسي؟