استوقفتني قناة العربية عبر برنامجها «مهمة خاصة» والذي قدم قبل فترة حلقة متميزة بعنوان (عراقيون ..ولكن). كانت الحلقة مشوقة ومحزنة في نفس الوقت حيث سلطت الضوء على شريحة منسية ومهملة من شرائح الشعب العراقي هي شريحة العراقيين السود. هذه الشرائح السوداء في معظم المجتمعات العربية تشكل كماً مهملاً وأزمة يُغض البصر عنها، وحتى نحن في السودان يجهل الكثيرون منا وجود هذه الشرائح السوداء في دول مثل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ودول المغرب العربي. باستثناء السودان وهو الدولة العربية الرئيسية التي يتمازج فيها الدم العربي بالدماء الأفريقية إلى جانب بعض الدول حديثة الإنضمام إلى الجامعة العربية مثل موريتانيا والصومال وجيبوتي وإرتريا، فإن بقية الدول العربية تمارس نوعاً من التعتيم والإستعلاء العرقي على هذه الشرائح السوداء في مجتمعاتها. ربما نستثني نسبياً بعض مجتمعات الخليج والمملكة والتي باتت هذه الشرائح السوداء تشكل قوىً فاعلة في الأنشطة الفنية والرياضية، وربما دولة الكويت هي الأكبر استثناءاً حيث دخلت هذه الشريحة في نسيج الأسرة الحاكمة وفي دوائر الطبقات العليا من المجتمع الكويتي. وبالعودة إلى سود العراق فقد ابرز البرنامج معاناة هؤلاء من الإضطهاد الاجتماعي والتعامل الفوقي من بقية شرائح المجتمع العراقي. تحدث في البرنامج أحد هؤلاء بمرارة قائلاً : (نحن سود العراق لا نُمنح الجنسية إلا بصعوبة وتُقفل في أبوابنا فرص التعليم والعمل.. نحن ننعت بالعبيد أينما ذهبنا وحتى أطفالنا بالمدارس ينعتون أيضاً بالعبيد.. أو لم يسمع إخواننا من العراقيين بأن العالم أوشك أن يتجاوز هذا الإستعلاء العرقي المقيت؟.. أو لم يسمعوا بأوباما أول رئيس أسود للولايات المتحدة؟ .. هؤلاء الإخوة من العراقيين الذين يصفوننا وينادونا بالعبيد أنا أقول لهم كلنا عبيد الله.. هل يعتقدون أن ربهم أبيض ونحن ربنا أسود؟ إن ربنا واحد وهو ينهانا عن التفرقة ما بين أسود وأبيض). إنتهى حديث الشاب العراقي الأسود ويالها من مرارة تقطر بصدق من كلماته. كتبت من قبل أنني عشت قرابة الخمس سنوات بمنطقة البصرة بالعراق حيث تركزت هذه الشرائح السوداء إلى الجنوب من المدينة في منطقتي الزبير وأبو الخصيب، وقد زرتهم كثيراً حيث يعيشون في جيوب فقيرة أشبه بالمستعمرات، ومما يدلل على إجحاف حقوقهم في التعليم أنه لا توجد سوى قلة منهم في الجامعات العراقية. وبحكم جذورهم الأفريقية هم بارعون في ضروب الغناء والموسيقى ومن خلال هذا البرنامج أدهشني أنهم يسمون بعض آلاتهم الموسيقية بالطنبور والطار بدلاً من تسمية الدُف تماماً كما عندنا بالسودان. تاريخ هؤلاء السود العراقيين في منطقة البصرة يعود إلى بدايات الدولة العباسية حين تم جلبهم كعبيد من شرق أفريقيا وتم تسخيرهم للعمل في استصلاح الأراضي، كما أن عددهم كان يُعد بالألوف يعملون في جماعات ويحيون حياة سيئة دون أن يتقاضوا أجراً.. فقط فتات الطعام كان هو أجرهم. ويسجل لهم التاريخ قيامهم بثورة عُرفت بثورة الزنج (عام 875م) حيث نجحوا في السيطرة على البصرة وما حولها واستطاعوا هزيمة جيوش الدولة العباسية.. ثورة أشبه بثورة العبيد بقيادة سبارتكوس على الإمبراطورية الرومانية. من المؤسف حقاً أن تغض المجتمعات العربية بصرها عن هذه الشرائح السوداء وأن تمارس التعتيم على إهدار حقوقهم وإمتهان كرامتهم وعزلهم اجتماعياً، حريٌّ بهم - دون غيرهم- كمسلمين أن ينتهوا عن هذا السلوك المريض الذي نهى عنه الإسلام... أما نحن في السودان فيجب أن نملك الشجاعة الكافية لنقول إننا لسنا إستثناءً من هذه الممارسة المقيتة، وإن كانت أقل حدةٍ مما يحدث ببعض الدول العربية!