(هأنذا في منفاي في اللغة الفرنسية ، لكن ليست كل المنافي سيئة) مالك حداد (أدب الاطفال في مجتمع متعدد اللغات – السودان كمثال - ) كان هذا عنوان كلمة نُشرت لنا في أحد الأعداد ( المتميزة) لجريدة (الصحافة) أواخر تسعينيات القرن الماضي . أثارت بعض تعليقات افدت منها فأعدت كتابتها في شكل ورقة قدمتها – باقتراح و تمويل من منظمة فريدريش الالمانية – في معهد الدراسات الاقتصاديةوالاجتماعية – لم اسمع به لا قبلها ولا بعدها. كان الحضور قليلاً ، لكنه كان نوعياً . قبل أن ابدأحديثي جاءني في المنصة شاب معتذراً في الانصراف لمشاغل تهمه ، ثم اسر لي رأيه الذي يتلخص في أن لا داعي لهذه المحاضرة أصلاً ، لان الجنوب سينفصل ! في سانحة أخرى ، و نزولاً على رغبةالصديق الشاعر الفاتح اتيم – مدير الثقافة بجوبا الآن – و جراء نقاشات مسبقة ، قدمت نفس الورقة في مركز ( كوتو) بالخرطوم . أيضاً وقف شاب – من أبناء الجنوب هذه المرة – و ابدى رأيه واضحاً : ألاً داعي لهذه المحاضرة ، فالجنوب سينفصل . تذكرت هاتين الحادثتين و أنا أجلس في قاعة مالك حداد بالجزائر العاصمة لحضور فعاليات اليوم الختامي لمهرجان أدب الشباب والناشئة في الخامس من يونيو الماضي . كانت الجلسة مخصصة لإعلان نتجية مسابقة الشباب في كتابة القصة القصيرة . على المنصة جلس ثلاثة من الأساتذة الأجلاء : الدكتور / عبد الحميد بورايو ليقدم تقرير اللجنة التي قامت بفرز القصص المكتوبة باللغة العربية و إعلان اسم الفائز ، ( القاه باللغة العربية طبعاً ) . أستاذة محترمة لتقديم تقرير اللجنة التي قامت بفرز القصص المكتوبة باللغة الفرنسية و إعلان اسم الفائز ، ( القته باللغة الفرنسية ) . أستاذ محترم لتقديم تقرير اللجنة التي قامت بفرز القصص المكتوبة باللغة الأمازيغية و إعلان اسم الفائز ، ( القاه باللغة الأمازيغية ) . قامت بتسليم الجوائز وزيرة الثقافة ، وهي أمازيغية الاصل ، و كانت في غاية الذكاء حينما هنئت كل فائز باللغة التي كتب بها ! هذا التصالح اللغوى ، هذا التكامل الثقافي ، ماذا يعني لنا نحن الذين يتمزقنا التنافر الثقافي واللغوى والعرقي والديني؟! أن تحافظ اللغة الفرنسية على مكانتها هذه بعد نصف قرن على الاستقلال ، فأمر يستوجب الوقوف عنده . لكن حذار ، لا مجال هنا لصرعي فوبيا المؤامرة ، وينقطع لسان كل من يود الحاق تهمة العمالة و الصاق الذيلية – تلك المقولات الجاهزة المستسهلة . فليس هناك أشرس من حارب الاستعمار الفرنسي كالجزائريين . بمليون ونصف المليون شهيد و بقيادة جبهة التحرير – وليس أكثر تمسكاً بالعروبة والتزاماً بقضاياها مثل الجزائريين . ولقد رأيناهم في مونديال جنوب افريقيا ، راينا مشجعيهم يرفعون العلم الفلسطيني جنباً الى جنب مع العلم الجزائرى ، على إعتبار ان القضية الفلسطينية هي قضية كل الأمة العربية ، بل رأينا استقبالهم للذين كانوا على متن الباخرة (الحرية) والتي حاولت إختراق الحصار المضروب على غزة . خرجت الجزائر العاصمة عن بكرة ابيها – رسمياً وشعبياً – تستقبلهم بالزهور والرياحين وأعلام الجزائر و فلسطين . غير أن الجزائريين فرقوا بين اللغة كحامل ثقافي والمؤسسة الاستعمارية الفرنسية . أبقوا على هذه و لفظوا تلك . كتب كاتبوهم باللغةالفرنسية أدباً عاليماً ذا هم وواقع جزائرى : مالك حداد – محمد ديب – كاتب يسن – رشيد بوجدرة – آسيا جبار. في مؤلفه (طيور الاغصان العليا ) يقول مالك حداد : « نحن نملأ الكلمات بمعان خاصة بنا .» كتبوا باللغة العربية منذ عهد الاستعمار . كتب احمد رضا حوحو رائد القصة القصيرة الجزائرية ، و عاد رشيد بوجدرة يكتب باللغة العربية . كتبوا باللغة العربية أجمل ما أنتجت اللغة العربية من سرود : الطاهر وطار وواسيني الاعرج و أحلام مستغامي . جرآء نهج تربوي غبي و منهج دراسي أغبي افلتنا نحن هنا اللغة الانجليزية من بين ايدينا . افلتناها بعد أن كنا من أكثر المتمكنين منها . أفلتناها بعد أن اضحت هي اللغة العالمية الاولى . أفلتناها حتى أصبحت صلة القارئ السوداني بالكاتبين بها من السودانيين – تعبان لوليونق وليلى أبو العلا على سبيل المثال كصلته بالكاتبين باللغة اليابانية ، إلا إذا ترجموا ! أفلتناها وما لا يستهان به من تراثنا التاريخي والعلمي والفكرى مكتوب بها . أخشى إذا استمر الامر كذلك ، ومضى جيل الذين يمكنهم الترجمة الآن ، أن يستقدم السودان مترجمين ليعرفوا أجياله الحديثة بتراثها ! المضحك المأساوى أن اللغة الانجليزية حينما كانت متمكنة بين السودانيين كانت شأناً تعليمياً محضاً . الآن – و بعد ما اضمحلت – صارت أمراً دستورياً على أنها اللغة الثانية في البلاد – بعد العربية بالطبع – حسب دستور 2005 ميلادية . من كان يصدق أن تضمحل اللغةالانجليزية بعدما كانت الكتب ترد من كبريات دور النشر البريطانية برائحة حبرها الى مكتبات السودان مثل سودان بوكشوب وخرطوم بوكشوب وافريكانا هاوس وغيرها ، ليس في العاصمة فقط إنما في الاقاليم ايضاً ! من يصدق أنني ، وفي عام 1975م ، اقتنيت كل مؤلفات فرجينا وولف ود.ه . لورنس و قراهمام قرين من مكتبة (عبد القديم) بنيالا ؟ على أي حال عبد القديم لا يزال حياً أطال الله عمره ، والكتب لا تزال معي وعليها ختم مكتبته ! لكنا رغم ذلك لم نشرك الكاتبين باللغة الانجليزية عندنا – وأخص أبناء الجنوب – في أي فعالية ثقافية . لم نتح لهم مساحة في أي من مسابقات القصة القصيرة أو الرواية أو الشعر . خلت كل انطولوجيات القصة القصيرة والشعر من مبدعيهم ولو في ترجماتهم العربية ( فالجنوب سينفصل) ! أن تقف اللغةالمحلية في الجزائر (الامازيغية) كتفاً لكتف مع العربية والفرنسية ، فهذا أمر يستوجب منا نحن – أصحاب المئة والعشرين لغة محلية- الوقوف عنده . فهذه اللغات ( المحلية) تحمل موروثات ثقافية وابداعية تخص الإنسانية جمعاء ، إذا إندثرت أندثرت معها. موروثات وابداعات هذه اللغات بمثابة الروافد التي تغذي الثقافةالأم أو القومية ، إذا إنقطعت تلك هزلت هذه و هان شأنها بفقدانها التنوع الذي يثريها ويضيف اليها . صحيح أن العالم – كما إستنتج من لهم الباع الأطول في هذا الشأن – الى أن تسوده لغة واحدة . والانجليزية – التي افلتناها – مرشحة أن تكون هي صاحبة السيادة . لكن حتى ذلك الحين علينا ألاً نهمل محمولات اللغات الاخرى وإمكاناتها في التعبير عن ثقافاتها . كبريات اللغات التي تسود العالم الآن بدأت كلغات محلية أولهجات متفرعة من لغات أخرى ، أتاحت لها الظروف فرصة أن تكتب و تنشر . إن اللغة لا تعيش وتعسى بين الناس ويكون لها أخذها وعطاؤها فقط إذا أبتدعت لها حروف وكتبت ، بل أيضاَ إذا كتب بها . ولقد رأى بعض الكتاب الأفارقة أن لغة المستعمر السابق قد أبعدتهم عن شعوبهم ، و أنها ما عادت تسعفهم للتعبير عن قضايا مجتمعاتهم ، فرجعوا يكتبون بلغاتهم المحلية . رجع النيجيرى شنوا اشيبي يكتب بلغة الايبو ، ورجع الكيني نقوقي واثيونقو فكتب رواية وبعض المسرحيات بلغة الكيكيو ، و اعاد اليوغندى بتيك صوغ مطولته (أغنية لاوينو) بلغة الاشولي ، وليت كاتبنا تعبان لوليونق يعيد صوغ كتاباته الانجليزية بلغة الباريا كما عاد يعيش بين أهله في جوبا. و ليت الكاتبين باللغة الانجليزية من أبناء الدينكا يعيدون صوغ أو يبدعون أصلاً بلغتهم . فاللغة تزدهر وتتطور بإبداعات كاتبيها . إذن فالامر يحتاج الى توازن : اللغة العالمية و اللغة القومية واللغة المحلية . أنتجت فيدرالية الجزائر اللغوية مفردات في غاية الثراء والجمال . من ذلك على سبيل المثال : الذي يقوم بتقديم المتحدثين في ندون ما ، أو يدير النقاش هو ( المنشط) . الذي يقوم بادارة الخشبة في المسرح أو ما شابه هو (المسير) . فني المونتاج هو ( مسئول التركيب) . كل محل للبيع هو (دار)، فالمطعم هو (دار الطعام) والصيدلية (دار الدواء ) . هذه المفردات – إذا لم يحبس العرب أنفسهم في خيمة النابغة الذبياني – هي إضافة للغة العربية إذا نظرنا اليها غير مقيدين ببلاغة (قل ولا تقل) ! أخيراً أعود للشابين الإنفصاليين : الشمالي على نهج الأستاذ الطيب مصطفي ، والجنوبي على نهج الاستاذ باقان أموم ، واللذين لم يريا في كل ما يثيره سؤال اللغة غير انفصال الجنوب ! إنهما من ضحايا طغيان السياسى على الثقافي . هذا الطغيان الذي افقدنا الكثير مما كان يمكن أن نتبادله في ما بيننا ومع العالم .هذا الطغيان الذي حطم كل ماهو إنساني في علاقاتنا مع بعضنا ، وكفي.