لقد ثرنا في المغرب الكبير ضد الاستعمار وكان هدفنا فقط هو الاستقلال. ولقد حاول المسرح الجزائري أن يقلد المسرح الصيني في التوافق مع التراث والخطاب الثوري. لقد انقطعنا بواسطة الاستعمار عن هذا التراث. فثلاثمائة عام من الاستعمار ليست بالهينة ولا بالقليلة. لقد اقتلعوا ثقافتنا وأسلوبنا في الحياة. وحتى الفهم الخاطئ للدين والايديولوجيات كان له دور سلبي في تعطيل هذه الثقافة. وقتل الشاعر الذي بداخلنا. ان الانفجار الشعري وهذه الطاقة الشعرية هي التي تدفعني للكتابة، «التفجير الشعري في النص الروائي أو المسرحي» لقد قرأت المسرح الإغريقي، وهو ما جعل نصوصي ومسرحي أقرب للتراجيديا القديمة. وبعدها تأثرت بالمسرح الثوري الصيني. ان المسرح عندي لا يخضع للزمن العادي، وإنما هو المسرح الحر في فضائه الزمكاني، وبهذه الحرية يدعو لحرية الإنسان التي لا يحدها الزمان ولا المكان، ويمكن أن تبدأ من أي فصل فيها، وتشعر وتفهم ما يحدث وما يجري فيها، فهي ليست خاضعة للزمن الجغرافي المتعاقب، فمسرحي بعيد عن المسرح البرجوازي. ان الشعر هو كل حياتي ونصوصي كلها تقوم على هذه الشعرية، فاختارها بعناية من الحياة الواقعية حولي، وقد تأتي فكرة مسرحية كاملة من أغنية جميلة أعجبتني. وأتعجب لماذا لم يترجم العرب المسرح الاغريقي القديم عندما ترجموا العلوم والفلسفة، وهم الذين قدّموها جاهزة لأوروبا. لو فعلوا ذلك لأصبحوا أسياد المسرح في العالم كله. وأنا اكتشفت عظمة الشعر الشعبي وكيف يمكن أن يستثمره المسرح ويستفيد منه. ان الايقاع الشعري ونغماته الموسيقية يمكن أن يستفيد منها المسرح الحديث أيما استفادة. ان عمل الشاعر هو جد بسيط في العمل المسرحي فهو العبور بالغموض إلى الوضوح وبالوضوح إلى الغموض، حتى لا يصبح النص المسرحي مباشراً أو غامضاً. وتلك هي مهمة الشعر في النص المسرحي. اننا في الجزائر نمتلك تاريخياً وتجربة نضالية عظيمة، ويمكن للأدب أن يتفاعل مع هذه التجربة دون أن نغرق في النرجسية الوطنية، وننسى الفضاء الانساني الرحب. ويجب أن نستخرج الحب من داخلنا، فالذي مات من أجل وطنه كان يحب هذا الوطن ولا يحب الموت، وليس مريضاً بالوطنية، فيجب أن نبرز هذا الوجه الجزائري المخفي ونخفي الوجه النرجسي المتعصب والمهووس. وهنالك الكثيرون ممن يسألونني لماذا أكتب بالفرنسية وأنا أجيد العربية وأتحدث بها، فصيحها، وعاميها، وصغيراً حفظت القرآن؟ وهذه ليست معضلة أو مشكلة إن هذا يعتمد على ما تكتبه، يمكن أن أكون مفتوناً بفرنسا وحضارتها، وأكتب ذلك باللغة العربية، ويمكن أن أكتب بالفرنسية وأكره فرنسا وثقافتها واستعماريتها. وهناك من يكتب باللغة العربية فأضاعها وأضاعته. ويجب أن نهدم الأشكال المتطفلة حتى في لغاتنا الأم. إن اللغة العربية العامية غنية بكثير من التعابير، وإن الشعر الشعبي والعامي في العالم العربي كله يتقدم، وهو يعبر عن الطبقات الكادحة والفقيرة أكثر من الفصحى الساكنة، ولهذا فضلت أن اكتب نصوصي المسرحية العربية باللغة العامية.. إنه نوع من التعويض لمن فاتتهم كتاباتي بالفرنسية.. هذه الفرنسية التي ليست غاية عندي، ولا ننسى انها هي ايضا اردنا ام لم نرد من اللغات الرسمية في الجزائر ولا يمكن ان نمحوها في يوم وليلة. ان النضال والثورية لا تعنى ان نرفع اللغة العربية مع العلم يوم الاستقلال، فهذا هو التخلف عينه، فاللغة الفرنسية هي لغة الذين لا يفهموا عاميات ولهجات ولغات الآخرين، فهي وسيلة وليست غاية. وانا اعتبر نفسي كاتب الشعب فالجزائر هي الجزائر بعربيتها وفرنسيتها وامازيغيتها، وأية لغة من هذه أكتب بها فإنني اقدم لها خدمة جليلة، واعتقد أنني قد خدمت اللغة العربية عندما كتبت نصوصي المسرحية بها.. والمسرح يخدم اللغة أكثر من الرواية والقصة، لأن المسرح فن مفتوح ومباح ومتاح لكل فئات الشعب او ينبغي ان يكون كذلك.. والذي يفكر في الجزائر بوصفها دولة يجد انها دولة فريدة ومتميزة، فهي لم تحتل بواسطة عنصر واحد، وانما احتلها العرب والاتراك، وهذه الظاهرة بعيدة عن فهم كثير من الناس.. ان الجزائر هي الجزائر فليست هناك جزائر بربرية، أو عربية، أو فرنسية، إنما الجزائر فقط، والجزائري هو الجزائري يكفيه هذا الشرف، فعظمة الجزائر في هذا التعدد الثقافي والعرقي، وقوة الجزائري في هذا التعدد الثقافي وهذا الامتزاج العرقي، وهذه الجزائر هي التي اعطت البيركامو جزءا من روحها رغم فرنسيته، واستعماريته، وهذه الروح هي التي جعلت منه كاتبا انسانيا متفردا قبل ان يكون كاتبا فرنسيا.. ويجب ان نأخذ هذا الوطن كله بتعدده واختلاف ثقافاته، واذا جزأته فإنه يصبح بلدا آخر، والآن تسير الجزائر نحو التعريب، وهذا حق تاريخي، فالعرب قد حكموا الجزائر قبل الفرنسيين، واصبحت العربية اللغة الام حتى عند البربر الذين يستخدمون العامية العربية في تواصلهم مع الآخر. رغم ان هذا لا يمنع ان نطوّر اللغة الامازيغية، وجعلها لغة مكتوبة، ولا يضير الانسان ان يعرف لغتين في وطن واحد.. فهذا موجود حتى في فرنسا، حيث لغة الباسك والألزاس، والفلاماند، وانا اعتز بأنني اتحدث ثلاث لغات لها الفضل في موهبتي الكتابية، ففي كل مجال كتبت فيه بالأمازيغية والعربية والفرنسية.. وهناك اشياء كثيرة تظهر قوة وعظمة الإنسان الجزائري في بلد تكثر فيه الامية العالية. وهذا الامي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه غنى بالداخل، غنى بالشعرية الموروثة وبالحكي الشفاهي، فهناك شعراء كبار في بلدنا يكتبون الشعر وهم لا يعرفون القراءة والكتابة.. لذلك فإن الادب الشفاهي في الجزائر ادب غني وثر، بل هناك من يرتجل الشعر ارتجالا كما كان يفعل العرب في جاهليتهم.. وهذا الشعب فريد في نوعه، فالفرد عندنا كلما ازداد بؤسا وفقرا ازداد موهبة شعرية جميلة، وهناك مثل عندنا يقول في ما معناه: (أنت ايها الظريف والجميل من الخارج كم انت قذر في الداخل.. وأنت ايها القذر المتسخ في الخارج كم انت ظريف وجميل في الداخل).. ان شعبنا يجري الشعر في دمه والمسرح في فعله اليومي، انه يصنع الدراما اليومية بعفوية جميلة ورائعة، في حركاته وإشاراته وطريقته في الكلام، والشعب الحر يصنع المسرح الحر... ومن اشهر مسرحياتي التي كتبتها مسرحية (الرجل بصندل من الكاوتشوك)، وفكرتها نابعة ومتأثرة بالشباب الذين يهاجرون إلى فرنسا دون عودة، شباب في قمة الهمة والقوة والنشاط، يمكن ان يبنوا الجزائر بهذه السواعد الفتية والقوية.. ولكنهم فضلوا ان ينظفوا الارصفة في شوارع فرنسا، وان يجلسوا عطالى في المقاهي، وان يتعرضوا للإهانة من كل عنصري قذر، وهذه المسرحية عندما عرضت على المهاجرين في فرنسا شعر اغلبهم بأنهم قد استعمروا مرة اخرى وهم لا يحسون بذلك.. قد يسألني من يسأل ما هو دافعي للكتابة، واقول دافعي للكتابة دائما هو العودة الى الطفولة للبراءة الاولى، فالطفولة في وطننا الجزائر تختلف عن اوروبا.. انها مرحلة مهمة ورائعة وجميلة... هي فترة يكون فيها الطفل الرجل وسط النساء يتجول بحرية يستمع اليهن، ينهل من حبهن وحنانهن دون قيد ولا منع وسط الخالات والعمات والجدات والجارات، هؤلاء النسوة اللائي لا يخرجن من المنزل الا للضرورة القصوى يتعلم الطفل منهن الكثير، انه عالم قائم بذاته، عالم صنع كثيرا من الكتاب في إفريقيا والعالم الثالث.. تخيل طفل المدينة الذي لا يسمع الا حكاية مملة ورتيبة ومكررة من المعلمة، ان المدن في عالمنا لا تصنع الادباء، والادباء هم صناعة الريف بغناه الثقافي والاجتماعي. وقد يقول النقاد بأنني تأثرت بمسرح بريخت، وهذا ليس بنتيجة نهائية، فأنا اميل الى المسرح السياسي، واستفدت من مدرسة بريخت بإزدياد الثقة في نفسي وفي موهبتي، وأما مسرح بريخت فلا يمكن ان نتبناه كله في عالمنا العربي وفي غيره، اما لماذا اخترت انا المسرح السياسي؟ فلأن الجزائر تحتاج له، ما يزال الشعب يحتاج الى الإعداد والتوجيه والمسرح خير من يقدم ذلك، وذلك لمقدرته الخطابية الجماهيرية. وهذا المسرح يتيح للممثل حرية الحركة والتعبير وهو ينمي ويشجع مسرح الهواة، وهذه التجربة النضالية التاريخية التي عاشتها الجزائر جعلت المناخ المسرحي جيدا ومضامينه كثيرة وثرية ومتعددة. وقد استخدمتُ فيه الأغنية الشعبية والشعر الشفاهي القومي حتى أكسر رتابة الخطاب السياسي، وأنا مسرحي ضد مسرح الهواة، وضد مسرح المحترفين، فالهاوي قد لا يجوِّد عمله والمحترف قد يصيبه داء الروتين الوظيفي القاتل، ويصبح موظفاً للثقافة والفنون. وتسألني هل أنا أمازيغي ام فرانكفوني، فأنا جزائري أولاً وأخيراً.. ولكن الأمازيغية تاريخ وثقافة وعرق يجب أن نهتم بها.. ولو درسنا وتمعنا في كتاب «تاريخ البربر» لابن خلدون لوجدنا فيه ما يجعل المرء يشعر بقوة وحضارة تلك المنطقة. أما الفرانكفونية هذه التسمية التي بدأت في الانتشار، فإنها نوع جديد من الكلونيالية البغيضة، وهي تدعو للتفرقة بين من ينتمي إليها ومن لا ينتمي إليها. وقد قلت مرة لفرانسوا ميتران بأن فرانكفونية بوكاسا وموبوتو وبواتيبه لا تشرف افريقيا ولا تشرف فرنسا نفسها. فأنا اكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين لست فرنسيا، والسؤال الذي يسألني ايضا له الكثيرون من اين جاءتني موهبة المسرح؟! واقول لهم جاءتني من أمي، فقد كنت وحيدها، وكان أبي يتأخر كثيرا في عمله، وكنت عزاءها الوحيد، كانت تستبقيني مستيقظا في الليل الى اوقات متأخرة، تداعبني وتلاعبني، وتحكي لي وتمثل لي صوت ابي تحاكيه في لبسه ومشيته وطريقة كلامه، وكنت اضحك واستمع بعناية واهتمام، فمنها تعلمت البدايات الاولى للمسرح، فكانت امي ممثلة ومخرجة وكاتبة النص وهي لا تدري ذلك، بل كثيرا من النساء عندنا يملكن هذه الموهبة خاصة المرأة في الريف، فهي البديل الحقيقي للأب في غيابه، والمرأة دائما تلهمني الكتابة للمسرح، وكانت مسرحية (الرجل يأخذ حقيبته ويرحل) واحدة من ذلك، حيث وجدت امرأة تعجن الخبز وحولها كثير من أطفالها، سألتها اين زوجك؟! قالت لي: سافر إلى فرنسا، وما أظنه سيعود مرة اخرى.. والفنان لأنه مسكون بالهم والقلق، كأنني احسست بهم هذه المرأة التي ليس لها امل في ان يعود زوجها مرة او يسأل عنها او عن اطفالها.. والفنان كالدجاجة تحتاج الى الديك كي يطعمها والى الهدوء والسكينة والأمان لكي تبيض، والمكان الهادئ لكي تركض وبعد ستفرخ بيضا وانتاجا غزيزا، لقد اعطاني صديق بولوني في باريس شقة مريحة مليئة بالطعام الدسم وكل انواع الراحة والرفاهية لمدة نصف عام، وباضت وافرخت اكثر من سبع مسرحيات.. إننا كالدجاج فعلا، ولكن من يعرف ذلك...؟! في العشرين عاماً الماضية عشت نصفها في المنفى ونصفها في وطني الجزائر، وكان البعض يظن أنني سأموت هناك، ولكنني الآن أشعر بالراحة في وطني».. ولكنه في النهاية مات عام 1989م، في فم الذئب وهو يتعالج في أحد مستشفيات باريس.