شكرا لرابطة الكتاب السودانيين ولنادي الشعر لتقديمهما الاستاذ مجذوب عيدروس في محاضرة عن النقد الثقافي، اثارت العديد من الاسئلة ذات الصلة بتطور الادب والعلوم الانسانية الاخرى. ولن تكتمل عملية التطور هذه الا بحضور النقد، وكما قال جان جاك روسو «إن النقد اعظم ثورة في تاريخ الانسانية». واعتقد ان النقد والنقاد هم من يأخذون بيد المبدع، وهم جهاز الرقابة الخفي، والنقاد الحقيقيون هم الذين ساهموا ومازالوا يساهمون في تطوير المعارف والعلوم، ولا زالوا قابضين على الجمر «من حافلة لأخرى» بينما لحم الضأن...! وما دفعني الى كتابة هذه المقالة، حضوري لقراءة لوح من الواح النقد مع نخبة من العلماء والادباء والمثقفين مساء الثلاثاء 31 مارس 2010م بحدائق اليونسكو بالخرطوم شرق، وقدم مجذوب عيدروس ورقة حول النقد الثقافي، وكانت الورقة على درجة عالية من الاتقان، ومتناسبة مع اهمية الموضوع بالنسبة لي وللمتابعين وللحركة الثقافية والمبدعين، وخلاصته الرسالة التي اود ايصالها ان الامر يتعلق بتطور مصطلح النقد الثقافي او ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، وهي تمثل قراءة وتمثلاً لقراءات عميقة في المناهج النقدية الحديثة، وتطبيقاتها على الابداع الثقافي العربي، وكان من الضروري ان يأخذ اهل هذا العلم الامر بالجدية. وقد تابع الناقد مقدم الورقة تطور المصطلح الذي نحته الناقد «فنسنت ليتش»، وسأحاول هنا تقديم رؤيتي لتلك القراءة. وموضوع النقد الثقافي من الخطورة بمكان، خاصة ان التنبيه لاهمية هذا النقد تمثل حجر الاساس لتأسيس قواعد متينة لهذا البناء الجديد، على الساحة السودانية على الاقل، ووردت الاشارة لليتش بأن نظرية النقد الثقافي جاءت في مرحلة لاحقة للبنيوية، اذ قرنت معرفيا باعمال فوكو وديريدا ولاكان. واهم ميزات النقد الثقافي المطالبة بتطبيق النظرة الشمولية للاحداث او الافعال او الظواهر. فإن واحدة من هذه الاحداث والظواهر يجب ان تفسر بما يلقى من دلالات وعلاقات. وبهذه الطريقة فإن النظرية النقدية يدفع بها من مجرد نظرية علمية في الكتابة او التحليل الى اعماق اكثر بعدا واكثر شمولية تغطي الاجتماعي والنفسي والظواهر الطبيعية والكون كله. ونظرية النقد الثقافي في جانب آخر نظرية تساعد في الانعتاق من القمع والتقليد، فتصبح نظرية رافضة للسجن في قوالب او معانٍ تقليدية عتيقة تعتبر مسلمات في المجتمع. وبالتأمل في هذه الدعوة نكتشف أن النقد الثقافي امر له أثره وبتفاوت من بلد الى آخر. ومن هنا جاءت التساؤلات حول النقد الثقافي وتطبيقاته على الادب العربي الذي يختلف جذريا عن الادب الغربي. ويتضح أن من اهم خصائص مشروع النقد الثقافي اعتماده على نقد المؤسسية، وأن هذه المؤسسية هي مجموعة القوانين واللوائح غير المنصوص عليها، ولكنها بالضرورة أصبحت معروفة للنقاد والمبدعين، وهذه القوانين أو المعايير هي التي يعتمد عليها في القياس والحكم على العمل الابداعي. ومن خصائص النقد الثقافي كذلك صفة التمرد على النسق القديم في النقد بمناداته بتفتيت النص أو الخطاب في العمل الإبداعي، ونزوعه الى عدم الاكتفاء بتفسير الدلالات في الجمل وشبه الجمل بالاشكال التقليدية، ولكن بالنظر ليس بمعزل عن علاقات تلك الدلالات وما حولها من علوم اجتماعية وانثربولوجيا وتاريخ وغيرها. وبالنظر الى الوضع الثقافي الراهن، فإنني أجد النقد الثقافي يمثل نظرية ثورية تدعو الى تكثيف الوعي من خلال اعادة قراءة الانساق الثقافية السائدة، ونافذة تفجر طاقات لا حدود لها في ترقية العطاء الثقافي، وهي بدون شك دعوة للتحرر والانعتاق من المسلمات، والدخول في فضاءات الوعي والحرية، والخروج من الأحكام التي كبلت نظرتنا إلى فحص الابداع والظواهر الثقافية، وكافة الوان النشاط الانساني. وتمثل نظرية النقد الثقافي تطوراً مهماً ورفضاً لوضع هالات حول الرموز الثقافية. وكان مجذوب عيدروس قد أشار الى أن الناقد عبد الله الخذامي قد تناول المتنبئ وابا تمام ونزار قباني وادونيس. وتناول مرجعية «نزار وأدونيس» رغم وصفهما بالطلائعية في سياق آخر، وهذا ما اشار اليه الناقد سعيد علوش الذي قدم مجذوب عرضا لآرائه المناقضة لمشروع النقد الثقافي، وكذلك آراء د. بشير العنزي «ليبيا». وفي يقيني أن اهتمام النقاد والمبدعين السودانيين بهذا النقد وتطبيقه «بوعي» يأخذ في الاعتبار الظواهر الثقافية، وخصوصية الابداع السوداني، ويلائم بين النظرية والواقع، هو أمر يضيف الكثير لحركتنا النقدية والابداعية. وفي هذا اشارت الورقة الى ان النقد الثقافي ليس بديلا للنقد الادبي، ولكنه يفتح الآفاق امام نظر يتسم بالعمق والشمول للنصوص والظواهر، ويقرأها في ابعادها المختلفة. ويبقى القول إن نشوء النظرية في مكان آخر من هذا العالم لا يمنع أن نستفيد منها، وأن نستخدمها كأداة من أدوات التحليل والقراءة، وهي ستساعد على تنمية الوعي المعرفي الذي نحن في أشد الحاجة اليه. إن ما اطلقه الاخ مجذوب عيدروس هو بمثابة رمي حجر في بركة ساكنة، وعلى الآخرين توسيع الدائرة.