أتاح مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية فرصة جديدة لبحث تداعيات النزاع في دارفور، في مؤتمر انعقد يومي السابع عشر والثامن عشر من يوليو الماضي بمقر المركز بالخرطوم. في الجلسة الافتتاحية ساهم د.امين مكي مدني بابراز اهتمام المجتمع السوداني.. من خلال عناصر الوعي والاستنارة بالقضايا التي فجرت النزاع المسلح بدارفور.. والفرص المتاحة اليومية للخروج من الازمة بدعم جهود الدارفوريين وطنيا واقليميا ودوليا وهم يحاولون تقديم نموذج فكري سياسي ثقافي لحل الازمة، وبلوغ تراضي موضوعي حول خصوصية اقليم دارفور بمكوناته التاريخية في سودان متنوع يتطلع ان يلعب ادواراً تنموية في اقليميه الافريقي والعربي.. وان يقدم نموذجا لحسن ادارة التنوع.. لعل الورقة التي اعدها د. الوليد مادبو بعنوان (دارفور وآفة التحول الديمقراطي) ، طرحت ما يستوجب الوقوف لديه واعادة قراءته بمداخل مختلفة، فقد ركزت الورقة على الازمة الانسانية والورطة السياسية التي تعيشها المجموعات الإثنية والتي تعرف تقليديا في دارفور بالقبائل العربية.. ان ما يميز الورقة خاصة في هذه المرحلة الراهنة.. من تاريخ السودان اتجاه مؤلفها الى تصويب قدراته الفكرية والاكاديمية الى نقد التجربة السودانية في عمقها الانساني وابعادها الاجتماعية الاقتصادية، وقد اتخذ قاعدته القبلية نموذجا لاختلال الموازين الوطنية في حسن ادارة التنوع مما كان له ابشع النتائج من حيث هلاك الارواح والبنيات وانهيار العلاقات الانسانية الاجتماعية ، ان المؤلف ينتمي بالاساس الى قبيلة الرزيقات التي تمثل ضمن مجموعات اخرى، تجمعا قبائليا لتيار جهينة السودانية او قل قبائل عطية وجماد التي ارتبطت بالبيئة والمناخ والرعي كمهنة مشتركة مع قبائل الدينكا بجنوب السودان والتي تستعد للاستفتاء خلال الشهور القادمة. من ناحية اخرى ارتبطت تلك القبائل بالتاريخ والتعايش والبناء الاجتماعي الاقتصادي بقبائل دارفور التي تنحدر في معظم حالاتها من اصول افريقية ولكن بسبب عوامل متعددة بما في ذلك الدين والمصالح المشتركة استقر القبول السياسي والاداري والقانوني بالآخر، وفي حالات متنوعة وصل القبول من التدامج الاسري الاجتماعي خاصة في المدن والعواصم بما في ذلك العاصمة الاتحادية. إن الخلفية التي انطلق منها مؤلف الورقة، ان دارفور في تكوينها التاريخي سياسيا وثقافيا ونهوضها كدولة لأكثر من خمسة قرون ، ظلت تشهد اقرارا متزايدا بتكامل الادوار في بناء (الحالة الدارفورية) بلا استثناء إثني طالما ستتوفر شروط المبادرة الناجحة. ان خلفية انتماء المجموعات العربية للحالة الدارفورية في ظروف مختلفة جاءت موثقة في صميم الواقع الدارفوري نفسه. ان لفظ (دارفور) يحمل الدلالات ما يجعل اي مراقب معتدل المزاج، يكرر السؤال اذن ماذا حدث لتتبعثر العلاقات على هذا النحو المؤسف السائد اليوم..؟! إن لفظ (دار) مستقلة هكذا لا توجد الا في اللغة العربية دون اللغات الاخرى، ولفظ (فور) مستقلة هكذا اشارة الى الوجود الافريقي المكثف جغرافيا، واجتماعهما معا إنما يمثل عقدا متينا، وشراكة متطورة بين ثقافة تمثل ابعاداً عالمية ومستقبلية، وبين مجموعات منتجة وحاكمة محليا، ولعل الدارفوريين المؤسسين لذلك العقد وتلك الشراكة التي استوعبت المجموعات العربية على اسس جديدة قاموا بتفصيل للحقوق والواجبات. تقع حقوق القادمين من اهل العلم والمعرفة على ادارة السلطنة الزرقاء اعاشتهم وحمايتهم وهم يعرفون ان واجبهم الاول زيادة وعي الناس وتعليمهم دون تمييز، كما ان حقوق اهل التجارة والاستثمار تقع على الادارة ايضا بذات طريقة اهل العلم والواجب عليهم يقع في حدود تطوير العلاقات الاستثمارية عبر الطرق العابرة للصحراء في كل الاتجاهات بتنسيق متطور. اما العامة من تلك المجموعات فقد ظل واجبهم كبقية المواطنين المساهمة في حماية الدولة والمجتمع عسكريا او بالرعي أو بتقديم اي من الخدمات الضرورية، وفي كل الاحوال اصبحت قنوات المشاركة السياسية الادارية مفتوحة امام كل بناة الحالة الدارفورية، في هذا السياق فإن رمز الانتماء العربي للحالة الدارفورية، أحمد المعقور لم يكن غير معوق استفادت الصفوة الحاكمة من قدراته وتجاربه وضمته اليها بالمصاهرة ، الامر الذي مكن ابنه في الجيل الثاني ان يصبح سلطانا مسنودا بالتراث الافريقي والثقافة الاسلامية بدعاتها من جذور عربية ولم يحدث ان تنازعت الثقافتان في شئ الا تراضيا على تجاوزه بالحوار والحكمة، وبذلك اصبحت دارفور دبنقة إدخار للأمثال والحكمة ومفاتيح الحل للمشاكل والصعوبات وصار قادتها وما زالوا نماذج لحسن ادارة التنوع.. ان انهيار نموذج حسن ادارة التنوع وعدم القدرة على ضمان استمراره وتطويره هو ما فتح الابواب للوليد نقدا للتجربة السودانية في سياق اتفاقات السلام الراهن، لقد رأى بكل وضوح مظاهر الازمة وهي تأكل موارد مواطنيه واهله وارواحهم وتبعت الحمية في الاحياء لقتال غير منتج ، وهي تسئ الى علاقات بناها الاجداد وساهمت في أفْرَقتهم ودَرْفَنَتهم، بل جعلت منهم قامة امجاد اضافية ورائعة لذلك الجزء من البلاد، ان الدارفوريين من جذور عربية بالفروسية والكرم والوفاء اصبحوا ايضا رمز تكامل عربي افريقي، فمنطقة الرزيقات وحدها استقبلت رؤساء دول وملوك عرب وافارقة بمن فيهم الامبراطور هيلاسلاسي والملك فيصل والرئيس عبدالناصر (رحمهم الله تعالى)، ماذا حدث ويحدث الآن؟ لقد وجد مؤلف الورقة نفسه، في مواجهة اكثر من طرف، انه يواجه اهله بالحقائق الانسانية والتاريخية ويدعوهم الى رفع قدراتهم وتوجيهها الى خارج دوائر الراديكالية الثورية والغناء الذاتي.. ويحضهم على رفض ديمقراطية الاجراءات وحثهم للتطلع الى ديمقراطية النهوض الاجتماعي الاقتصادي الشامل، ايضا يواجه ا لمركز الاتحادي ويدعوه للتخلي عن الهيمنة التاريخية بمن فيها من مخططين وشركاء وتابعين، والا ستكون العواقب وخيمة وفق رؤيته، كما انه يواجه الظروف الموضوعية التي ادت الى تمأزق مواطنيه في قلب الدائرة الجهنمية التي قد تفضي الى القضاء على الذات اذا لم تتسارع خطى الحل، وفي هذا السياق يدعو (الاغلبية الصامتة) ان تمارس حقها السياسي المدني (في مواجهة المجموعات التي تفننت في قطع السبيل المعنوي والمادي..) ولتحقيق ذلك - حسب الورقة - ربما كان ضروريا تكوين جبهة وطنية دارفورية لاستنهاض دارفور الاجتماعية في سياق خطوات عملية. لقد استطاع مؤلف الورقة وهو خبير دولي في الحكم الراشد او الحكمانية ان يلامس مواطن الجراح والألم المحلي في اطار سوداني يحتاج الى مراجعة شاملة في ظل المتغيرات السياسية والدستورية، ولعل ما يجعل التفكير المهني الاداري والسياسي الدستوري ضروريا لمعالجة ازمة تبدو محلية الا انها قابلة للاتساع والتطور ومخاطبة اطراف اخرى ، بل انها يمكن ان تصبح مركزا جديدا... من مراكز الازمة السودانية التي تعيد انتاج ذاتها اميبيا بوسائل الاستغلال السياسي ، الاداري، العدلي الامني، الاعلامي ، وسط مجموعات اهلية لم تصل درجة الانتماء الى حقوقها المدنية بوسائل التنوير وحكم القانون. ان ما يجعل الوضع اكثر تعقيدا ان هناك سياسات امنية سياسية ادارية استعمارية طورها نظام مايو لتنظر به الى مناطق التماس في تخوم الجنوب باعتبارها حزاماً امنياً للشمال، وتطبيقات تلك السياسات هي ما تجعل مفكراً بمنطلقات اخلاقية يفزع حقا لمآلاتها، ففي الوقت الذي ظلت فيه حكومة الاقليم الجنوبي تعمل منذ وقت طويل في دراسة وبحث امكانيات التعايش بين المكونات الحدودية في حالتي الوحدة او الانفصال فان الحكومة الاتحادية ربما لم تعلن عن سياسات واضحة في معالجة اوضاع تلك القبائل شمال خط 13 بعد الاستفتاء. ان ما اثاره الوليد في ورقته بحق قبائل جهينة السودانية في غرب السودان وجنوب دارفور خاصة، يمثل انذارا مبكرا ودعوة واسعة لاستعادة الحالة الدارفورية بقيادات حقيقية نابعة من الواقع التاريخي الثقافي للتفاوض من اجل حقوق مواطنيها في سياق بناء الحالة الدارفورية بمكونات الاقليم، وللتفاوض من اجل حقوق الاقليم بشراكة الدارفوريين مع مركز السلطة الاتحادية باستراتيجية تفاوضية مشتركة متراضٍ عليها ، تحطم شعار (فرّق تسُد) وإبدالها بشعار (عَمِّر وأحكم ديمقراطياً)..