تناثرت هواجس متوقعة حول سؤال متوهم: إلى مَنْ مِنْ المجموعات الأثنية الدارفورية تنتمي وثيقة الدوحة؟ مثل هذا السؤال برغم مشروعيته، الا انه ليس بالضرورة، هو تعبير عن مخاوف حقيقية في الوجدان الشعبي الدارفوري. في ظلال هذا السؤال وعندما تتناول أطراف كما لو أنها ذات مصلحة في تمزيق وحدة السودانيين الدارفوريين وعزلهم عن المشاركة الايجابية في إعادة بناء المركز الاتحادي على أسس عادلة؛ أو أطراف أخرى كما لو أنها تبحث عن وسائل جديدة للهيمنة والتمكين خارج السياق الدستوري القانوني والإداري، فانها تبدو ساعية الى تعتيم الحقائق، وإعاقة جهود العملية السلمية وفوق ذلك استخدام قدرات المركز المتناقصة دستورياً لتأجيج نزاعات جانبية بين الأطراف الدارفورية، بحجم طموح تلك الأطراف. على أن الطموحات المطروحة لا تبدو كبيرة وان تأكد فيها عدم الموضوعية، وفي هذا المنحى والإتجاه تتحدث اصوات غير واثقة بان وثيقة الدوحة جزء من أطروحات أثنية، أو أنها قد تزيد المخاطر على وجود اثنيات أخرى، وفي كل الاحوال فان مثل هذه الأصوات تؤذي الوحدة المتنوعة للدارفوريين وتؤذي كذلك استقرار البلاد، بما قد تمهد لنزاعات دارفورية محلية قد تساهم في تعطيل أو إبطاء العملية السلمية. الذين شاركوا في الحوارات المختلفة يدركون امكانيات التراضي المستقبلي بين الدارفوريين، وتعاضدهم المشترك بالنضال من اجل حقوقهم التي قد تنتزع من المركز الاتحادي سلمياً وبالتفاوض وإن مازال بعضهم يحمل السلاح في نزاع قائم مع السلطة الاتحادية. والذين شاركوا على وجه الخصوص في حوارات هايدلبرج انتجوا وثيقة بمجهود دولي استفادت منها الوساطة الأممية القطرية أيما فائدة في اعداد خارطة الطريق لحل الأزمة السودانية الراهنة في دارفور، وذلك بتحديد محاور التراضي بين الدارفوريين، وتحديد معالم التواصل مع المركز الاتحادي بأسس متفاوض عليها، فيما حددت ما ينتظر من جهد يبذله المجتمع المدني والأهلي من أجل تسهيل الحوار بين الأطراف وفي كل المراحل وصولاً الى تلك الحقوق المعترف بها في الدستور والوثائق الدولية المختلفة خاصة بعد اعلان امكانية الوصول الى سلام قابل للاستدامة في دارفور. واليوم فان وثيقة الدوحة برغم الصعوبات التالدة والطارفة، فانها تمثل برنامج حد أدنى بين الدارفوريين لاستعادة المبادرة لاقليمهم في سودان ما بعد استقلال الجنوب. مع تسارع الخطوات ومضي الزمن فان الاسبقية الأولى لاستكمال العملية السلمية بين الأطراف سيظل هو الحوار بين الدارفوريين على مساحات التراضي بينهم، على أن يأخذ الحوار بعديه الافقي والرأسي، فالحكمة الدارفورية تمثل مفتاح الحوار الأفقي، والاستنارة والوعي الوطني تمثل مفتاح الحوار الرأسي، ان استعادة المبادرة لدارفور في اطار الكيان السوداني المعاصر، والتاريخي الذي يمتد من المحيط الاطلنطي الى البحر الأحمر يتطلب حوارا شاملا في كل المواسم والأجهزة الاعلامية الراهنة والمحتملة. لعل اكثر ما جعل الحوار مشلولا بين الاطراف الدارفورية هو ظاهرة المركزية التاريخية في السودان، وفي ذلك الشأن لا تختلف الاقاليم الأخرى وان كان احساس دارفور بالغبن والمرارة أوسع دائرة للخلفيات التاريخية الهانئة التي عاشتها في أوقات سابقة والتجارب المريرة التي عاشتها في سياق المركزية، عندما بادر الدارفوريون في سياق بناء الحكم الاقليمي بعد المصالحة الوطنية «1976»، ونجحوا عبر نضالات مدنية وفي ظل اقرار مبدأ الحكم الاقليمي ان يحصلوا على دارفور اقليما تحت ولايتهم السياسية والمدنية، الا ان المركز لم يمهلهم طويلا. لقد اختطت حكومة يومئذٍ بمعرفة وتوجيه رئيس الجمهورية سياسة تحطيم وحدة الدارفوريين من خلال استخدام الرمزيات الاثنية والقبلية، والذين تلقوا التوجيه ونفذوه بنجاح مازالوا على قيد الحياة، وبعضهم يود ان يشارك في حل الازمة اليوم بالنصح والمشورة. ان الخطط المركزية في تفتيت وحدة الدارفوريين مازالت سارية وهي فاعلة، ولكن هل تستمر؟ بكل تأكيد لن تستطيع تلك الخطط الصمود في وجه الوعي المتزايد بين الدارفوريين، لذا تراهم عجبوا لرسالة المركز اخيراً، وهو يود ان يفتح امامهم فرصاً اخرى للنزاع بأسس جديدة ومختلفة، انه على المدى المتوسط والبعيد فان سياسات المركز التشتيتية ستكون ضمن مخلفات الماضي. لقد صار لا سبيل غير العمل من اجل بدائل لمستقبل سوداني يتحرر بكل اقاليمه من عقابيل المركزية ومن وهم الذين يتعاملون معها كحصان طروادة. إن وثيقة الدوحة وفرت فرصا للدارفوريين لارساء قواعد جديدة للانتماء للدولة السودانية، خاصة في القاعدة بالحكم المحلي. لقد أقرت الاطراف بان «التنوع الثقافي والعرقي للشعب السوداني هو أساس التلاحم الوطني، ومن ثم يتم تعزيزه وتنميته»، وفي المادة الأولى: حماية وتعزيز حقوق الانسان والحريات الاساسية، تقرأ الفقرة الثالثة ان «تكون المواطنة هي أساس تساوي جميع السودانيين في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية»، كما تقرأ المادة الخامسة «يكفل أمن وسلامة الجميع في دارفور على اساس من سيادة القانون والمساواة وعدم التميز. وتحترم الاطراف الحق في الحياة والامن الشخصي وكرامة الفرد وسلامته، ويكفل عدم حرمان احد من حياته تعسفيا، وعدم تعرضه للتعذيب أو سوء المعاملة»، وفي ذلك تضمن الحكومة الحق في المحاكمات العلنية العادلة، والحق في اللجوء الى العدالة في جميع الدعاوى المدنية والادارية والجنائية على أساس من المساواة امام المحاكم بأنواعها، وان لم تتوفر تلك الفرص في اوقات سابقة. إن نضال الدارفوريين مدنياً، يوسع المسار امامهم لتجاوز غبن. على أن الفرصة الاوسع امام الدارفوريين من خلال نصوص وثيقة الدوحة لبلوغ وحدتهم التي تعضد الارادة السودانية وطنياً، انما يتحقق بحسن ادارة التنوع، بعد تصفيف الحقوق الدارفورية في المستويات الاتحادية والاقليمية والولائية، جاء التأكيد في الوثيقة على ان بناء الاجزاء الاعلى من الهياكل الدستورية الادارية والقانونية لا يمكن ان يكتمل الا ببناء حكم محلي صالح، بأسس ديمقراطية ومشاركة وشفافية. على ما تقدم اتفقت الاطراف في المادة 13 من الوثيقة ان «الحكم المحلي ضروري من اجل الوفاء بالتزام تحقيق سيادة الشعب، والنزول بالسلطة الى القواعد الشعبية، وضمان المشاركة الفاعلة من جانب المواطنين في الحكم، وتعزيز التنمية، وجعل ادارة الشؤون العامة ذات مردود اقتصادي أعلى». وزيادة في التأكيد على الحكم المحلي اتفقت الاطراف على ان الحكم المحلي والادارة الاهلية قد تضررا جراء النزاع في دارفور، ومن ثم يجري تمكينهما لمعالجة عواقب النزاع، بما في ذلك التدهور البيئي والمعدلات المتزايدة من الزحف الصحراوي. وفي الاتجاه ذاته فان مختلف الفئات مثل الشباب والنساء لا مناص من ان تجد المساعدات الضرورية بوسائل بناء القدرات والتمييز الايجابي. ان الحكم المحلي بمسؤولياته المختلفة بما في ذلك المشاركة في تنمية وادارة الاراضي والحواكير والموارد الطبيعية ربما اعتمد عليه مواطنو دارفور وسلطتهم الاقليمية لمفتاح تدابير حسن ادارة التنوع التي اشتهرت بها دارفور تاريخيا. ولعل السلطان علي دينار عندما أعيد تدشين ولايته على دارفور سلطانا وقال قولته المشهورة «كل زول في قديمو» وانه تقلد امور دارفور متبعاً وليس مبتدعاً، وذلك بان الارض والادارة والوجود الاثني انسانياً ومدخلات الاقتصاد والاستثمار جميعها تحت اختصاص السلطة الادارية المحلية كما هو الحال في وثيقة الدوحة، ما يعني ان الحكم المحلي تاريخاً ومعاصرة وبحسن ادارة التنوع، يمثل القاعدة الذهبية لاعادة بناء دارفور وترفيع قدرات أبنائها للمشاركة في البناء الوطني والشراكة الاقليمية والدولية تعزيزاً للعملية السلمية.