أقامت لجنة تأبين الأستاذ محمد يوسف محمد المحامي برئاسة الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد حفلاً جامعاً مساء يوم الخميس الماضي «5/8» بقاعة الصداقة، شهدته نخبة الخرطوم السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية حتى فاضت بهم القاعة الدولية على سعتها. كان الحضور يمثل بصدق علاقات محمد بطوائف المجتمع المختلفة ومجالات أنشطته المتعددة في العمل العام الذي امتد على مدى ستين عاماً، أي منذ أن كان طالباً بكلية الخرطوم الجامعية التي تخرج منها في مارس 1955م. تحدث في أمسية التأبين كل من أحمد عبد الرحمن والطيب زين العابدين وإسحاق شداد والصادق المهدي ومحفوظ عزام من مصر ودفع الله الحاج يوسف وإبراهيم الطيب الريح وصلاح أبو النجا ولام كول نيابة عن بونا ملوال وعبد الجليل الكاروري ويوسف حسن سعيد نيابة عن أسرة المرحوم، وحالت ظروف الأستاذ علي عثمان دون المشاركة رغم حرصه عليها. وقدم المتحدثون بلغة جزلة وعاطفة دافئة الأستاذ مهدي إبراهيم. تحدث كل فرد عن مجالٍ بعينه من مجالات العمل العام الذي عرف فيه الفقيد عن قرب مثل المجال الإسلامي أو القانوني أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. وكانت كلمة الصادق المهدي قوية مؤثرة تطرقت إلى الجانب السياسي وارتباطه بالعلاقة الاجتماعية الدافئة التي اتسم بها الفقيد الراحل، وكذلك كلمة بونا ملوال الذي تطورت علاقته بالفقيد من مواجهة سياسية في مؤتمر المائدة المستديرة عام 65 إلى أن أصبحت تداخلاً بين الأسرتين في فترة الإنقاذ جعلت بونا يكون زبوناً في لقاء الجمعة الأسبوعي بدار الفقيد الرحبة، وأضفى دفع الله الحاج يوسف بعداً أدبياً للأمسية بقصيدته الرصينة التي رثى فيها الفقيد بما هو أهله من حلو الشمائل. طلبت مني لجنة التأبين أن أقول شيئاً عن دور محمد يوسف في مسيرة الحركة الإسلامية، وكنت أظن أن غيري كان أولى بتلك المهمة من بين من عاصروه في مرحلة التأسيس الأولى مثل محمد خير عبد القادر ويوسف حسن سعيد وصادق عبد الله عبد الماجد ولكني استجبت للدعوة لأن الحديث في حق محمد لا ينبغي أن يرفض مهما كانت الأسباب. وشهد الحفل الدكتور حسن الترابي وقد كانت لفتة طيبة منه أن يستجيب للدعوة دون أن يطلب منه المشاركة في الكلمات. اتفق المتحدثون في ليلة التأبين أن أهم صفات الفقيد الراحل هي طبيعته المتسامحة الرفيقة وشخصيته المعتدلة المتوازنة وروحه الوفاقية وتواصله الاجتماعي مع كل من عرف، وكان عطاء الأخ محمد يوسف في مسيرة الحركة الإسلامية يقوم على ذات هذه الخصال الحميدة، حتى عندما كان الموقف يتطلب غيرها في نظر الكثيرين من إخوانه، فما كان محمد يستطيع أن يتنكر لطبيعته التي جبل عليها منذ النشأة الأولى. وكانت المفارقة أنه كان قائداً في حركة دينية أيدولوجية سياسية تريد أن تغير المجتمع رأساً على عقب، ودخلت الحركة في مشاحنات وصراعات مع معظم القوى السياسية التقليدية والعلمانية والعروبية والاشتراكية من أجل تثبيت أجندتها السياسية الإسلامية. فكيف لقائد إسلامي أن يحتفظ بتوازنه النفسي وطبيعته الوفاقية المتسامحة في جوٍ سياسي ملئ بالصراعات والنزاعات ولحركته القدح المعلى في إزكاء تلك الصراعات؟ هنا تكمن عظمة الأخ محمد يوسف الذي لم يتخلَ عن طبيعته السمحة لحظة واحدة ولم يتنكر لحركته الإسلامية التي اقتنع بالعمل فيها منذ باكورة شبابه إلى شيخوخته، ولكن لا بأس لديه أن يتنحى برضى نفس عن مواطن الخصام والصراع والأجهزة القيادية التي تديره. ولم يقطع صلته الاجتماعية مع معارفه وأصدقائه من قيادات الأحزاب الأخرى الذين تعاديهم حركته أو ترمي بهم في غياهب السجون لأنهم يعارضون أو يعطلون قيام «الدولة الإسلامية» الكبرى في السودان! وأثبتت الأيام أنه كان على حق في معظم الأحوال وأن منهجه كان هو الأفضل في إدارة المعارك السياسية لأنه ينسجم مع طبائع أهل السودان المتشحة بالخليقة الصوفية «الماهلة». وساعده على ذلك الموقف المستقل أنه لم يحترف العمل السياسي يوماً واحداً رغم عضويته في البرلمان لفترتين في الديمقراطية الثانية والثالثة «65-68، 86-89» بل وأصبح رئيساً للبرلمان في الديمقراطية الأخيرة في فترة تحالف الجبهة الإسلامية مع حزب الأمة القومي «88-89»، ولم يعرف بالمنافحة لكسب موقع سياسي داخل الحركة الإسلامية أو خارجها، كان زاهداً في لعاعة المناصب السياسية إلا إذا أجبر عليها. يمكن أن نؤرخ لمسيرة الحركة الإسلامية في السودان بخمس مراحل حسب دورها في كل مرحلة: 1/مرحلة التأسيس والتربية والدعوة والاهتمام بالشأن العام بعد الاستقلال «1949-1958» تحت مسمى «الإخوان المسلمون»، 2/مرحلة ولوج العمل السياسي بعد ثورة أكتوبر «64-69» تحت اسم «جبهة الميثاق الإسلامي»، 3/مرحلة الصدام والتعاون إبان الحكم العسكري الثاني بقيادة الرئيس نميري «69-85»، 4/مرحلة الانتشار السياسي الجماهيري «86-89» تحت مسمى «الجبهة الإسلامية القومية»، 5/مرحلة استلام السلطة في انقلاب عسكري «89-2005» ثم فترة التسوية السياسية مع الحركة الشعبية القائمة اليوم تحت اسم «المؤتمر الوطني». لقد كانت مساهمات الأخ محمد يوسف في كل تلك الفترات مساهمات مقدرة من موقع صناع القرار الذين لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة أو أعضاء الصف الأول أو أحياناً من خارج الصف الأول، فهو لا يأبه أن يدلي برأيه ويعمل له أياً كان موقعه في قيادة التنظيم. لعل الفترة الأولى والثانية هي التي شهدت الدور الأكبر لمحمد يوسف في قيادة التنظيم والتأثير عليه، لم تتسم الفترتان بصراعات سياسية حادة بين الحركة والأحزاب أو بينها وبين الحكومة العسكرية الأولى. ورغم اختلاف الرؤى والمنهج بينه وبين قيادة التنظيم في بعض منعطفات المسيرة إلا أنه لم ينشق أو يشجع انشقاقاً عن الحركة، كان دائماً مع تيارها العريض معترفاً بمشروعية القيادة وعاملاً معها في أي موقع يتاح له، بل ويعمل جاهداً للوفاق ولم الشمل حتى بعد أن يتضح أن الفتق لا يمكن أن يرتق لأن المزاج السياسي العسكري لا يؤمن إلا بالهزيمة أو النصر في الصراع حول مقعد السلطة الوثير!. وساهم محمد بجهد كبير في مجالات عمل إسلامية أخرى خارج دائرة السياسة المباشرة، ولعله كان يجد فيها نفسه بصورة أفضل من فظاظة العمل السياسي مثل: منظمة الدعوة الإسلامية التي كان من المؤسسين لها منذ قيامها في 1980، وجامعة إفريقيا العالمية، بنك فيصل الإسلامي الذي كان من مؤسسيه والمساهمين فيه والمشاركين في إدارته القانونية، شركة التأمين الإسلامية التي كان مساهماً فيها ورئيساً لمجلس إدارتها ومستشاراً قانونياً لها، وجمعية الهلال الأحمر السوداني التي كان عضواً في لجنتها التنفيذية ثم رئيساً لها. وعندما غابت أجهزة الحركة الإسلامية عن العمل العام المفتوح وتعطلت منابرها التي تجمع بين الناس، فتح الراحل محمد يوسف بيته للناس كافة كل يوم جمعة من العاشرة صباحاً إلى أذان الجمعة ترتاده بصورة منتظمة ثلة من قيادات الحركة: عثمان خالد وأحمد عبد الرحمن ومحمد محمد صادق الكاروري «رحمه الله» وموسى ضرار «رحمه الله» وعوض حاج علي وحسن مكي وعبد الله بدري «رحمه الله» وعلي محمد عثمان ياسين وعباس البخيت وعبد الرحمن إبراهيم الخليفة، ويغشاه من وقت لآخر بونا ملوال وعبد الله محمد أحمد ولام كول وعلي عثمان ومحفوظ عزام وعلي جاويش وعصام أحمد البشير وآخرون لا تحصيهم الذاكرة. وكان ذلك المنتدى الأسبوعي بمثابة مؤسسة اجتماعية إخوانية كاملة الدسم يتآنسون فيها ويتناقشون في همومهم وهموم البلد، يتفقون حيناً ويختلفون أحياناً دون أن تفسد بينهم للود قضية مقتدين في ذلك بسيرة ونهج صاحب الدار. رحم الله الأخ محمد يوسف رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.