والتربتك «Triptec» ببساطة هو نظام العبور الجمركي المؤقت المتعارف عليه دولياً لتسهيل نقل الافراد ومركباتهم بين الدول بدون دفع الرسوم الجمركية على هذه المركبات وملحقاتها عدا البضائع المحمولة عليها، وقد بدأ تطبيق هذا النظام في السودان في أعقاب نهاية حرب الخليج الأولى «العراقية الايرانية»، التي أطلقت عليها الحكومة العراقية «قادسية صدام» فيما أسمتها إيران «الدفاع المقدس»، وبداية الثانية حين غزا صدام حسين الكويت تحت زعم اعادتها للعصمة العراقية باعتبارها محافظة خارجة عن الطوع، مما اثار عليه «عاصفة الصحراء» ويبدو أن السبب المباشر الذي دعا للعمل بهذا النظام في السودان هو تسهيل عودة الكثير من المهاجرين السودانيين الذين تأثروا بظروف عدم الاستقرار التي سببتها هذه الحرب الطويلة «0891-9891»، ومن حينها بدأت شوارع الخرطوم والمدن الكبرى تشهد أرتالاً من السيارات عليها لوحات مرورية لا تحمل أرقام بل عبارة «إفراج مؤقت»، وعلى ذكر كلمة إفراج مؤقت يحضرني هنا الوصف الذي كان قد أطلقه مولانا محمد عثمان الميرغني على عودته إلى السودان بطريقة مفاجئة لم يخطط لها بل فرضتها ظروف وفاة شقيقه أحمد الميرغني فلم يكن أمامه سوى أن يصطحب الجثمان من مصر إلى السودان ليواريه الثرى إلى جانب والده بباحة مسجد السيد علي بالخرطوم بحري، فقد وصف مولانا محمد عثمان تلك العودة بأنها «إفراج مؤقت» بمعنى أنها ليست عودة نهائية «مع أنها صارت نهائية»، مثلما أن الافراج المؤقت الذي يُمنح لسيارات المغتربين ينتهي بوفاء مدة الافراج وإلا تعرض من يتجاوز «الافراج» إلى كربة تُكدِّره... على ذات طريقة «التربتك» أعلنت إدارة جهاز الامن والمخابرات الوطني «رفع» الرقابة التي كانت قد فرضتها على الصحف أو بالأحرى على بعض الصحف في وقت سابق من العام الجاري، مع الاحتفاظ للجهاز بحق العودة إلى فرض الرقابة مجدداً متى ما رأى ذلك، فهو إذن «رفع» مشروط وليس نهائي بلا شروط، ولكن رغم أنه «إفراج مؤقت» إلا أن أسارير الصحافيين قد انفرجت له ربما عملاً بالحكمة الشعبية «المال تلتو ولا كتلتو»، وما يلفت النظر في إعلان رفع الرقابة هو أنه تضمن بوضوح إمكانية عودتها تحت أي لحظة ولأي سبب يقدّره الجهاز وهذا ما لم يحدث في كل المرات السابقة التي فرض فيها الجهاز الرقابة ثم رفعها إذ لم يكن قرار الرفع يحوي أي وعيد بعودتها على خلاف القرار الأخير الذي بدا فيه الجهاز غير «محرج» في التلويح بالرقابة، ولعل الفتوى الدستورية التي أصدرتها المحكمة الدستورية بشأن الرقابة حين شطبت الطعن الذي قدم لها من ثلاث صحف هي «أجراس الحرية، ورأي الشعب، والميدان» ضد جهاز الأمن لفرضه رقابة تتعارض مع الدستور، ولم تشطب المحكمة ذلك الطعن فحسب بل أيّدت حق الجهاز في الرقابة، ولعله من هذا الحكم اكتسب الجهاز مشروعية أكبر وصار أجرأ من ذي قبل في فرض الرقابة باعتبارها ممارسة قانونية ودستورية بما أرسته المحكمة من «سابقة» غير مسبوقة ثار حولها وما يزال جدل كثيف أضاف حلقة أخرى إلى الجدل المحتدم أصلاً حول حرية التعبير وحرية الصحافة وهي عندي حريات محسومة حسمتها الاديان والمواثيق والعهود وليست في حاجة لجدال إلا من باب اللجاج، غير أن ما يحيرني في أمر الرقابة عند أنصارها ومنفذيها هو حملهم فقط على الصحافة التي يحملونها حتى أوزار من يناصرونهم من القيادات المتنفذة التي كثيراً ما يصدر عنها أقوال وأفعال وقرارات مثيرة للغضب و«النرفزة»، فاذا ما غضبت و«تنرفزت» الصحافة على هذه الأقوال والأفعال تصدت لها الرقابة وكتمتها وحرمتها حتى من حق أن تتألم من هذه الأقوال والأفعال المؤذية التي تجد طريقها ممهداً تلتقطها الاذان وتقرؤها العيون دون أن يعترضها «رقيب»، فاذا كانت الصحافة من وجهة النظر هذه «فالتة» تستحق الرقابة فما الذي يستحقه هؤلاء الفالتون...