«سعر الوحدة» لا يقاس بعدد براميل النفط التي تذهب لهذا الفريق او ذاك، ولا بحجم مليارات الدولارات من ديون السودان التي يسعى البعض للتنصل من الالتزام بها، ولكن «سعر الوحدة» كما نفهمه يقوم على بناء وطن ديمقراطي موحد تزيده الموارد الطبيعية منعة وقوة. ليس هناك من جدال بأن مشاكل السودان قد تعقدت كثيرا الى درجة اصبحت مثل كرة الخيط، كلما حسبت انك امسكت بطرف منها اطلت عليك اطراف أخر ، وبات من الضروري ان الوطن اصبح في حاجة ماسة للانقاذ من وهدته هذه اكثر من اي وقت مضى. هذه المشاكل اصبحت متداخلة ومرتبطة ببعضها مثل حبات المسبحة اذ انفرطت منها حبة واحدة تداعت لها المسبحة بأكملها وتناثرت حباتها على الار ض والكل يركض في اتجاهات متقاطعة ومتصادمة لالتقاط تلك الحبات المتناثرة. لو سأل سائل ما هو ترتيب ازمات الوطن ومشاكله وفقا لاولوية الاهمية والخط، لحار الناس في تقديم مشكل على آخر.. أهو الجنوب وتحديات الاستفتاء وما ينتج عنه؟.. ام هي ازمة دارفور بكل ما فيها من تعقيدات؟ ام تراها الازمة الاقتصادية التي تطحن المواطن واجهزة الدولة معا وتلقى بظلالها السالبة على بقية الازمات؟ ام هل هي تداعيات عملية التدويل وصراع القوى العالمية؟ او ربما هي خليط من كل هذا وذاك ؟ لا ريب انه امر يصيب الانسان بالحيرة والدوار وربما فقدان العقل..!! ان الخروج من نفق الازمات المتعددة دائما مايعتمد على منطق عقلاني يقول بترتيب التصدي لهذه الازمات وفقا لنهج الاولية والاهمية ، ولكن هذا المنطق العقلاني لا يفيد في هذه الحالة لأن ازماتنا كما قلنا تمسك الواحدة منها بتلابيب الاخرى في تشابك مضني ومريع، بحيث يتعذر ترتيبها وفق منطق مرتب وسليم في الاولويات. اذا ما هو الحل؟ خبراء الازمات يقولون ان هذا التشابك مرده الى خيط هو المنهج الذي ندير به ازماتنا ، وهو ما يتطلب اعادة النظر فالمنهج المرتبك هو الذي ادى لهذا التداخل بحيث تعذر علينا ان نجد (رأس الخيط) في كل مشكلة وفي كل ازمة. ولعل هذا التشابك نحسه ونلمسه اذا ما دققنا النظر في كل ازمة على حده.. فازمة الاستفتاء والابقاء على وحدة الوطن ليست بمعزل عن ازمة دارفور، إذ ثمة ارتباط عضوي ما بين السقف الذي وصلت له النخب الجنوبية وما بين سقف التطلعات الذي تنشده الحركات المسلحة في دارفور.. كذلك الارتباط ما بين ازمة الجنوب والضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، فالوحدة والانفصال كلاهما له فواتير مالية باهظة يتعذر الوفاء بها تحت ظل الركود الاقتصادي، وفوق هذا كله لا نستطيع ان نعزل هذه الازمة بعيدا عن المناخ الدولي واستراتيجياته ومطامعه المتعددة، الى جانب العزلة الدولية التي يسعى فيها البعض لتطويق السودان وتدويل مشاكله.. لا ننكر ان الحكومة وعلى رأسها مؤسة الرئاسة تبذل جهدا مقدرا في احتواء هذه الخطوط المتشابكة والسعي الدؤوب لفرزها وفك تشابكها، وان قيادة الدولة تعدو في سباق ايجابي مع الزمن للحفاظ على وحدة الوطن ودرء مخاطر الانقسام والتفتت ، وكلنا نأمل ان تتسع منظومة هذا الحراك الايجابي لتشمل كافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقطاعات الشعبية المختلفة وفقا لمنهج عقلاني مدروس يوظف هذا الدفع ولا يبدده. لقد انهمك الشريكان وانغمسا في فخ (ترتيبات ما بعد الاستفتاء) دون ان يشخصا بصرهما الى ازمات الوطن الموحد مجتمعة، وبات ما يرشح حول هذه (الترتيبات) كأنه نعي او دمعات تذرق على اطلال الوحدة، صحيح ان التحسب لكافة خيارات الاستفتاء من وحدة او انفصال هو نوع من الفطنة السياسية المطلوبة، الا ان هذا التحسب يجب ان لا يستهلك كل حراكنا السياسي على حساب الآمال المعقودة والمرجوة في وطن واحد موحد. لقد بات جوهر هذه المباحثات حول ترتيبات (ما بعد الاستفتاء ) يدور حول الابقاء على الخط الناقل لبترول الجنوب عبر الشمال كما هو في حال الانفصال ... وكذلك حول تحمل الديون الخارجية في حال الانفصال.. وحول جدلية ترسيم الحدود .. بعد الانفصال ام قبله؟ هكذا اصبح خيار الانفصال هو سيد الموقف وجوهر الازمة وكنا نأمل ان توضع هذه الاجندة في حجمها الطبيعي ليعلو سقف الحوار اكثر من هذا حتى يلمس تطلعات اهل السودان جميعا نحو وطن موحد قوامه المواطنة وتساوي حظوظ كافة الاقاليم في السلطة والثروة والتنمية. وفي هذا الشأن يعجب المرء من موقف اولئك الذين هللوا وصفقوا لاتفاق السلام في بواكير ايامه من القوى السياسية المختلفة، والذين لم يروا في اتفاق السلام سوى جزئية التحول الديمقراطي، حينما وضعوا رهانهم عليها في العودة لمقاعد السلطة، وعندما تبخرت تلك الاحلام راحوا يرمون الاتفاق بالاحجار والنقائص واصبحوا يحملونه وزر التفريط في وحدة السودان.. كأن (علي عثمان) على حد قولهم قد (قطع الاتفاق من راسو..)... وكأنهم لم يكونوا اول من صاغ مفردة (حق تقرير المصير).. مع الحركة الشعبية في اسمرا..! ان الحديث الذي تسوقه بعض قيادات الحركة الشعبية في اطار هذا الحوار، والذي ينادي برفع ما اسموه (سعر الوحدة) هو طرح قد يبدو جيدا ومثاليا في مظهره، ولكنا اذا ما لمسناه عن قرب سنجده للاسف نوعا من الابتزاز السياسي والمالي معا، (سعر الوحدة) لا يقاس بعدد براميل النفط التي تذهب لهذا الفريق او ذاك، ولا بحجم مليارات الدولارات من ديون السودان التي يسعى البعض للتنصل من الالتزام بها، ولكن (سعر الوحدة) كما نفهمه يقوم على بناء وطن ديمقراطي موحد تزيده الموارد الطبيعية منعة وقوة. اما في شأن الازمة الدارفورية، والتي استهلكت الكثير من جهدنا السياسي تماما كما استهلكت اهلنا في دارفور وهم يعانون مرارة النزوح والهجرة والبقاء في المعسكرات الى جانب السيول والامطار والاوبئة التي تنشط في هذه الايام... هذه المشكلة هي نموذج آخر على التشابك وارتباك المنهج الذي ظلت تمارسه كافة القوى السياسية.. حاكمة او معارضة او حاملة السلاح .. ان ضياع المنهج الموضوعي لمعالجة هذه الازمة مرده الى حقيقة اننا بتنا اليوم لا نعرف (رأس الازمة من رجليها) ولا نعرفها ما الذي تريده الفصائل التي تتناسل كل يوم كالفئران لتنجب فصيلا جديدا تختلف وتتعدد مطالبه. وتماما مثل ازمة الجنوب تبقى الازمة الدارفورية مشدودة بحبال متينة الى ازماتنا الاخرى حتى (راح الدرب) من تحت اقدامنا ومن بين ابصارنا. (روحان الدرب) هذا في تقديري يعود لكوننا نفاوض (البنادق) ولا نفاوض هموم المواطن الدارفوري وتطلعاته المعيشية التي تنشد الامن والسلام والتنمية والعدل. آن لنا ان نجلس جميعا الى المواطن الدارفوري المقهور لنسمع شكواه بدلا من التفرغ لمجالسة (حملة البنادق) وامراء الحرب ولورداتها، فهؤلاء في نظر هذا المواطن البسيط هم اس بلائه وجوهر محنته. ان الفهم الحقيقي لازمة دارفور يجب ان نستقيه من حوار هادئ ومتزن مع كافة المكونات السكانية للاقليم عبر نخبها المتعددة التي تشمل اركان الادارات الاهلية من نظارات ومشيخات وعمد الى جانب النخب المثقفة من ابناء دارفور الذين ينهمكون في حوار فكري وطني وسياسي واجتماعي يملأ منتديات الخرطوم والمدن الكبرى ولا نعيرهم مع الاسف الالتفات الواجب والمطلوب.. فقد اصبح عقلنا السياسي مبرمجا على دوي الرصاص الذي يطلقه حملة البنادق في دارفور ، بحيث لانرى او نسمع شيئا سواه.. ولا اود ان اسهب في ارتباط الازمة الاقتصادية والعزلة الدولية المضروبة حولنا ببقية ازماتنا ومشاكلنا ، اذ سبق وتعرضنا لهذا الارتباط المدمر، ولكن علينا ان ندرك ان الازمة الاقتصادية بوسعها ان تصادر من بين ايدينا كل مفاتيح الحل المرجوة. ان مطلوبات الحفاظ على الوحدة في الجنوب ونشر السلام والتنمية في دارفور هي في جوهرها فواتير مالية باهظة الكلفة.. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فان المواطن العادي الذي نأمل مناصرته لنا في التحديات السياسية، فهو لن يناصرنا وامعاؤه جوعى وابناؤه يفتقرون الى جرعة دواء وقطعة كساء ومدرسة يتعلمون بها.. كل هذا يتطلب توفيره مالا كثيرا وميزانية للدولة، لا ترهق الناس بالجبايات الباهظة. على صعيد العلاقات الدولية وانعكاسها على ازماتنا السياسية، فلابد لنا ان نسلم بان بلادنا باتت تفتقر الى الحليف الاستراتيجي القوي الذي يعتمد عليه في هذه الظروف الصعبة لكي يساهم في تخفيض الضغوط الدولية المسلطة على رقابنا ورقاب الوطن، وهو امر يتطلب نهجا جديدا في ادارة ملفنا الخارجي.. يتسم بالواقعية والعقلانية بحيث نوسع دائرة الاصدقاء ونضيق دائرة الاعداء، فالسياسة تحكمها المصالح وهي لا تعرف الصداقات او العداوات الدائمة وعلينا في هذا المجال ان نتعرف على الكروت الرابحة بين ايدينا ثم نوظفها لخدمة اهدافنا الاستراتيجية . ولعله من فساد الرأي ان نصغي لمن يقول باننا وفي هذه المرحلة لا نملك كروتا رابحة.. فنحن نملك موارد يركض وراءها العالم كله، ونملك وضعا استراتيجيا تتلهف في السيطرة عليه كل الاستراتيجيات الدولية. ويحق لنا ان نتساءل في اجواء هذه العزلة المضروبة حولنا اين ذهب اصدقاؤنا؟.. انني اكاد كل يوم اسمع صوت المحجوب المجلجل يرن في اذني وهو يخاطب البرلمان صباح الخامس من يونيو 67 بعد ساعات من العدوان الاسرائيلي على مصر وسوريا والاردن وهو يقول: (إنني وفي هذه اللحظة اعلن الحرب على اسرائيل).. اين ذهب هؤلاء؟ واين من وقفت كتائب الجيش السوداني الباسل لمناصرتهم في الكنغو والكويت والعراق ولبنان.. وغيرها من دول العالم ؟! هكذا نخلص الى ان الخيط المتشابك الذي يربط كل ازمات الوطن ويراكم ثقلها علينا هو هذا المنهج المرتبك الذي نتصدى به لهذه الازمات .. وهو منهج لكل منا سهم في ترسيخه وتكريسه.. حاكمون ومعارضون ومحاربون، وآن لنا ان نتوافق على منهج جديد تأتلف فيه كل قوانا السياسية وهي تسعى نحو وطن واحد.. وطن يسع الجميع...