=ظلت مشكلة كيفية توفير النقد الأجنبي هاجسا يؤرق مضاجع البنك المركزي وطالبي النقد الأجنبي على حد سواء، حيث يعمل الأول وسعه في البحث عن مصادر تدر عليه تدفق العملات الحرة باتباع حزمة سياسات مالية ومصرفية بغية الوصول إلى الهدف المنشود، لا سيما بعد انخفاض أسعار النفط في جميع أنحاء العالم، الذي يمثل المورد الرئيسي في إيرادات موازنة الحكومة السودانية، فلجأ البنك المركزي إلى ترشيد صرف النقد الأجنبي وتقنين أوجه صرفه، وأبدى جدية شديدة في تنفيذ سياساته، حيث لم يتوانَ في إغلاق بعض الصرافات التي لم تلتزم بتوجيهاته، علاوة على فصله لعدد من الموظفين المصرفيين الذين ثبت تلاعبهم في صرف العملات الحرة، وذهب خطوة أكبر من ذلك بإصدار قرار بالتعاون مع اتحاد الصرافات بتسليم النقد الأجنبي للمسافرين بالمطار، لمزيد من الضمانات على عدم ذهابه إلى السوق الموازي، وصرفه لأصحاب الحاجة الأصليين. وفي الآونة الأخيرة وإمعانا في جديته في محاربة كافة أشكال التلاعب بالنقد الأجنبي، أصدر منشورا حدد فيه ألا يتجاوز حجم العملة الممنوح للمسافرين إلى بعض الدول مثل مصر لغير غرض العلاج الألف دولار، فكل هذه السياسات التي اتبعها البنك المركزي تدل بما لا يدع مجالا للشك على أن المركزي يعمل على ترشيد صرف النقد الأجنبي. غير أن هناك أزمة في احتياطي النقد الأجنبي بالبلاد، والدليل على ذلك ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي إلى ما يعادل 2.8 جنيه جراء تراجع عجلة صادرات السودان غير البترولية المصحوب بتدني أسعار النفط عالميا، الأمر الذي دعا صندوق النقد الدولي إلى اعتبار إعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي بشكل عاجل في البنك المركزي السوداني اولوية قصوى في عام 2010م. وأشار الصندوق في تقرير له صدر الاسبوع الماضي، إلى موافقة السودان على برامج الصندوق لمساعدته في تحقيق مجموعة من السياسات الاقتصادية والمالية والأهداف، للحفاظ على النمو الاقتصادي والسيطرة على التضخم وإصلاح القطاع المصرفي والحد من عجز الموازنة وغيرها. وكشف التقرير أن احتياطات النقد الأجنبي ببنك السودان المركزي انخفضت بشكل حاد جراء تراجع أسعار النفط خلال الربع الأول من عام 2009م. وأكد استمرار انخفاض الاحتياطيات بالرغم من زيادة أسعار النفط. وأبان التقرير انخفاض احتياطيات البنك المركزي السوداني من النقد الأجنبي من 1.58 مليار دولار في عام 2006م إلى 390 مليون في عام 2009م، أي بما يعادل 75% . ولم يكتفِ التقرير بإبراز حجم الانخفاض، بل وضع سقفاً زمنياً لزيادة الاحتياطي من العملة الصعبة من 560 مليون دولار لتصل إلى 950 مليون دولار حدده بحلول نهاية العام الحالي. وعلى صعيد الخبراء تأسف الدكتور محمد الناير لاعتماد التقرير على معلومات ووقائع تأريخية، حيث استند في حيثياته على عام 2006 كعام أساس، في حين أن العام المذكور أعقبته ثلاث سنوات حسوما عانى فيها العالم بأسره من ويلات الأزمة المالية العالمية لا سيما في عام 2008م. ويرى الناير أنه كان ينبغي على الصندوق الاعتماد على عام 2009م ومقارنته بعام 2010م في بناء الاحتياطي من العملات الصعبة. وأضاف أن مؤشرات المقارنة بينهما حتما ستكون إيجابية لصالح بناء العملات الحرة، حيث زادت معدلات الاحتياطي نسبيا بعد بدء آثار الأزمة العالمية في التلاشي وارتفاع أسعار النفط عالميا، وبالتالي زيادة غلة الخزينة السودانية منها، لاسيما أن النفط يمثل العمود الفقري لايرادات الدولة من العملات الصعبة بعد تناقص وتراجع الصادرات غير البترولية، رغم الجهود المبذولة من قبل الدولة لإعادتها سيرتها الأولى بعودة الروح للمشاريع الزراعية والقطاع الصناعي، خاصة أن الدولة السودانية مقبلة على فترة حرجة في عام 2011م التي سيكون فيها الاستفتاء على وحدة السودان أو انفصال الجنوب عنه. وإمعانا في التحوطات يقول الناير يجب على الدولة البحث عن بدائل لمواردها بزيادة صادراتها غير البترولية، والعمل بجد في استخراج واستغلال بترول الشمال، لا سيما الموجود بالبحر الأحمر رغم ارتفاع تكلفته مقارنة بالمستخرج من اليابسة. ووصف الناير توجيهات الصندوق بأنها لم تأتِ بجديد من حيث الفكرة والهدف، لأن البنك المركزي نفسه يعمل بجد للوصول إلى احتياطي مقدر من العملات الصعبة، حتى يكون في وضع مريح يؤهله للقيام بدوره بصورة جيدة دون أدنى تذكير أو وصاية من أحد أو أية جهة، بهدف الوصول إلى سعر صرف مستقر، الذي برأي الناير لا يمكن الوصول إليه إلا في ظل وجود احتياطي معتبر من العملات الحرة. وقال إن توجيه الصندوق ليس فيه جديد، بل إنه ينصح بأن يكون حجم الاحتياطي من العملات الحرة أكبر من الذي أوصى به الصندوق، لأن توجيهات الصندوق تحقق استقرارا نسبيا، وإذا ما أراد البنك المركزي تحقيق استقرار كلي ودائم فعليه أن يعمل ما في وسعه لتوفير ما يكفي من العملات الحرة لاستيراد احتياجات البلاد لمدة ستة أشهر. وهذا يحتم أن يكون حجم الاحتياطي في حدود 3 مليارات لا 950 مليون دولار التي حددها الصندوق، لسبب بسيط يراه الناير، بأن جملة إيرادات البلاد تتراوح بين «6 8» مليارات دولار. وختم بأن المحك الرئيس للبنك المركزي يتمثل في ما تتمخض عنه نتائج الاستفتاء، خاصة إذا اختار أهل الجنوب الانفصال، فعندها عليه الاحتياط بالبحث عن موارد إيرادية جديدة بتفعيل الصادرات غير البترولية، وزيادة إنتاج النفط في الشمال بالبحر الأحمر رغم علو تكلفته مقارنة بالمستخرج، لتعويض الفاقد من إيرادات نفط الجنوب المتدفق إلى الخزينة العامة. ومن جانبه يقول المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا الدكتور عبد العظيم المهل، إن مستوى الاحتياطي من العملات الحرة بالسودان تحسن مع بداية استغلال النفط السوداني، ووصل ذروته عندما بلغ سعر برميل النفط عالميا إلى 147 دولارا، غير أن مستوى الاحتياطي انخفض مع بروز الأزمة المالية، وبلغ أقصاه عندما وصل سعر برميل النفط إلى 38 دولارا. وعزا المهل انخفاض احتياطي العملات الحرة في عام 2010م إلى انخفاض اسعار البترول، وتداعيات الأزمة المالية العالمية، واستحقاقات السلام من استفتاء وانتخابات وتسويات، علاوة على الحصار المضروب على الاقتصاد السوداني الذي تصادف مع حظر التعامل بالدولار في السوق العالمية. وقال إنه الآن يوجد هلع دولاري يقف وراءه التخوف مما يسفر عنه الاستفتاء المزمع عقده مطلع العام القادم. وقال إنه بعد أن اطمأن السودانيون للبنك المركزي وسياساته، أقبلوا على إيداع ما بحوزتهم من عملات حرة بالمصارف، إلا أن حزمة السياسات والضوابط المقيدة لحركة النقد الأجنبي التي اطلقها المركزي أخيراً حدت بالعملاء لاستغلال عملاتهم الحرة في غير القنوات الرسمية، وهربت رؤوس الأموال، وعاد الدولار للاستخدام بوصفه سلعة مرة اخرى، وفضل التجار الاحتفاظ به بعيدا عن أعين الرقيب الحكومي، مما أثر على حجم ودائع المصارف التجارية من العملات الحرة، الأمر الذي انسحب على حجمها بالبنك المركزي، فوجد المركزي نفسه مضطرا للسحب من احتياطياته لتمويل المشاريع التى كانت تمولها المصارف التجارية في السابق عبر ودائع الجمهور من العملات الحرة. غير أنه بالرغم من الإفادات عاليه، إلا أنه مازالت تجول في خاطر الكثيرين العديد من الأسئلة والاستفسارات، فإذا ما سلمنا بتحسن مستوى احتياطي العملات الحرة نسبيا، فلماذا لم ينعكس ذلك على مستوى سعر العملة المحلية وأسعار السلع الاستهلاكية؟