عرض التلفزيون القومي وقنوات البثّ الأخرى، المرئية والمسموعة على نطاق البلاد، مشاهد اللقاء المحشود المحفود، الذي ضم رئيس الجمهورية المشير/ عمر حسن أحمد البشير مع كوكبة من نجوم الحل والعقد الدارفوري، ممن لمعت أسماؤهم في سماوات السودان في طارف العهد وتالده، فهناك الفريق آدم حامد موسى، القائد العسكري والوالي السابق؛ واللواء التيجاني آدم الطاهر، عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ والوزير السابق؛ والسفير الشفيع أحمد محمد؛ ووزير العدل محمد بشارة دوسه؛ والوالي عثمان كِبِر، الذي أصبح بسبب مشكلة دارفور من الرموز الإعلامية ذائعة الصيت في فضائيات الجزيرة، والبي بي سي، والسي إن إن، وتتردد صوره كلما ذكرت دارفور، سواء على مستوى مجلس الأمن الدولي، أو على نطاق لجان حقوق الإنسان الدولية، وكذا في مشاهد محكمة الجنايات الأوروبية، التي يطلق عليها أولياؤها زوراً وبهتانا، لفظ الدولية؛ كما ضم اللقاء نخباً من قيادات دارفور التاريخية ممثلة في سلطانها إبراهيم، حفيد علي دينار، رأس الدولة الفعلي لحكومة السودان الشرعية بعد سقوط أم درمان، الذي ظل مدافعاً عن سيادة بلاده وحقها في العيش بكرامة، حتى سقوطه شهيداً عام 1916م برصاص الغزاة الذين هم ذات الدول التي تتشدق اليوم بتحقيق العدالة الدولية. لا نود أن نقرر ما هو معلوم بداهة، أن هذا اللقاء جاء ليدحض فرية مدعيّ المحكمة، التي يتولى كِبْرها الأوربيون، وتموِّل ثلاث في اتحادهم، هي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، أكثر من نصف الميزانية البالغة نحو 500 مليون يورو منذ عام 2002م. وبالتالي فليس اعتباطاً أو مصادفة، أن يحمل ميثاق المحكمة اسم «روما» عاصمة الإمبراطوية الرومانية، التي أذاقت العالم في عهدها الويل والثبور، قتلاً واستعباداً وسحلاً وتدميراً. لقد كفتنا همّ دحض الفرية دول الاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، ودول منظمة عدم الانحياز، ومنظمة الساحل والصحراء، ومنظمة الإيقاد، بعد ما تبين أن أوروبا، ممثلة في اتحادها، كانت تسعى بميثاق روما الى منافسة سانفرانسسكو، التي شهدت ولادة ميثاق الأممالمتحدة، عام 1945م، بيد أن الفارق بين الاثنتين، هو أن الأممالمتحدة لا يتضمن ميثاقها إنشاء محكمة للجنايات، وإنما تضمّن إنشاء محكمة العدل الدولية بلاهاي، التي تشمل ولايتها الفصل في القضايا التي تنشأ بين الدول، والتي لم يتم تحدي قراراتها من أيّة دولة، كما يحدث الآن من توجس وترهيب من المحكمة الأوروبية، التي تحاول الافتئات على الأركان الأساسية التي يقوم عليها بناء الدولة القومية، وهيكلية القانون الدولي، وخاصة مبدأ سيادة الدول State Sovereignty الذي يعتبر حقاً مقدساً لا يجوز التنازل عنه بأي حال، ولو أدى الأمر لإعلان الحرب، وهو أمر مُجمَع عليه منذ صدور العقد الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في القرن الثامن عشر. ويرى فلاسفة وفقهاء القانون الدولي، المنتقدون لميثاق روما، أن الدول الأوروبية، بعد أن استدركت أنها سوف تكون خارج الشبكة، بلغة سوداتل، بعد ثلاثة عقود من الزمان أو ما يقاربها، وأن الحضارة والتقدم وريادة العالم سوف تتحول الى الجانب الآخر، الى الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا وربما الى إيران، من تلقاء العدل الكوني، الذي ذكّر به القرآن تلميحاً «وتلك الأيام نداولها بين الناس» وباستشعار أن دول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية لا تزال تحتفظ بأكبر مخزون الأرض من الموارد الطبيعية والأساسية، بما في ذلك البشر والأنعام؛ وفي ظل مطالبة كافة دول العالم بإصلاح الأممالمتحدة والدعوة لتقليص سلطات دول الحلف الذي انتصر ضد هتلر في الحرب العالمية الثانية، مما مكّن لدوله أن تفرض نفسها على العالم، وتكريس السيطرة بمنطق القوة المحضة، عبر ما سمَوه بمجلس الأمن، الذي تشكله خمس دول، وصفت نفسها بدائمة العضوية، تتحكم في مصير 187 دولة ذات سيادة، هم الأعضاء في الجمعية العامة، التي لا يحق لها نقض قرارات المجلس، إذ لا يُستشارون، ولا يجوز لهم الاعتراض، بما في ذلك إعلان الحرب على أيّة دولة منهم، كما حصل في العراق، وما حصل من احتلال الصهيونية العالمية لفلسطين وتشريد أهلها، وإقامة دولة باسم إسرائيل، ووصف من يقاوم أو يعترض بالإرهاب. ويقيننا أن الدول الأوربية تعي مأثور القول المتداول في عالمنا: «من المحال دوام الحال» فقد استيقنت أوروبا الأمر، ورأت أن لا قِِبَل لها بمجاراة الصين والهند الملياريتين، والكواكب التي تدور حولهما، من النمور والأسود، وحتى الثعالب الاقتصادية والعسكرية، وحقيقة أن إحصائيات مراكز البحوث والمستقبليات أثبتت أن سكانها يُنكّسُون الى أرذل العُمُر، بنِسب تفوق نسبة من يولدون، وأن العمال المهَرة، ونوابغ العلم، وأرباب الفن والرياضة، أصبحوا يهجرونها، حتى أن بعض الفرق الرياضية الوطنية في بعضها، أصبحت فيها نسبة المنتمين من غير السكان الأصليين تفوق النصف، فأشار الخبراء الاستراتيجيون الى أن استمرارية السيطرة الموروثة لن تتحقق إلا باستصدار قوانين تشمل ولايتها كل العالم، وتستهدي بمنطق العولمة، وبذا تتعزز سلطة فرض الأحكام على الآخرين، وهم لا يشعرون. وتمتد النهايات المنطقية لهذه الاستراتيجية بأن تُفضي الى حكومة عالمية، تدار من أوروبا، بمنطق أن العالم أصبح قرية واحدة تحتاج إلى سلطة واحدة. من هنا جاءت قوانين تمهيدية تهيئ الرأي العام لقبول ميثاق روما والإيمان بمبادئه، فمثلاً جاءت اتفاقية كوتونو ببروتكولات إضافية وتكميلية، تفرض على الدول توقيع اتفاقيات في مجال حقوق الإنسان، تتعارض أحياناً مع بعض القيّم العقائدية والتراثية، كالمساواة المطلقة بين الرجال والنساء، وكتزوج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، ومن تلقاء إكراه الدول للتوقيع على اتفاقيات غايتها النهائية إلغاء كل ما له علاقة بالأديان، كاتفاقية سيداو «إلغاء كافة أشكال التمييز بين الرجال والنساء» CEDAW. بيد أن ميثاق روما تجاوز كل هذه المراحل، وقفز عليها بالجملة ليصل مباشرة إلى المرحلة الأخيرة بفرض الهيمنة الاستعلائية على العالم. فالمحكمة الموجودة اليوم في لاهاي تضم حوالي 326 من القضاة والمُدّعِين والمحامين، يوجد 3% منهم فقط من الدول الإفريقية، حسب ما أوردته دورية جون أفريك Jeune Afrique الأسبوعية الفرنسية، وعلماً بأن الدول الإفريقية الأعضاء بلغت 30 يمثلون حوالى ثلث الأعضاء. فالطبيعي وفق مبادئ اقتسام السلطة في الأحوال العادية، أن يتوافق التمثيل في العضوية مع التوظيف التنفيذي والإداري. ومن هنا تتبين نوعية العدالة التي تسعى المحكمة الأوروبية لممارستها. وطبعاً لا نود ترديد ما استيقنته الدول الإفريقية أخيراً، من واقع أن معظم التهم التي تمارس المحكمة الفصل فيها موجهة ضد الرؤساء وكبار المسؤولين الأفارقة. فليس البشير وحده هو المستهدف؛ فهناك رئيس ليبريا شارلز تيلور، الذي يُسحب في السلاسل بين يديّ حراس من عتاولة الأوربيين، ويقف حاسراً، مكسور الخاطر، كاسفاً، أمام القضاة في مشهد درامي، تقزّز منه أحد وزراء دول غرب إفريقيا التي تجاور ليبريا، لأنه يُذكّره بالزمن الذي كان الأفارقة يقتادون في السلاسل، ليباعوا رقيقاً في أسواق النخاسة بأوربا، أيام استشراء العبودية في سواحل الأطلسي. قريب من هذا ما أومأ إليه رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي، البروفيسور بينقو واموتاريكا، رئيس دولة ملاوي، إبان انعقاد الدورة ال «15» لرؤساء حكومات ودول إفريقيا بكمبالا، نهاية يوليو الماضي، فقد احتج على فرية الجنائية بإلصاق تهمة الإبادة بالرئيس البشير، أمام وسائل الإعلام الدولية بقوله: «كيف لي أن أقف أمام أحفادي بعد اليوم، رافع الرأس، إذا أنا وافقت اليوم على أن يقتاد رئيس دولة إفريقية، ذات سيادة، وعضو في الاتحاد الإفريقي، وهو منتخب ديمقراطياً من قبل شعبه، ليحاكم خارج بلاده، في دولة أوربية. إننا لن نفعل ذلك، ولن نسمح لهذه المحكمة بتحديد مصير شعوبنا، أو أن تصدر أحكاماً فوق قرارات دولنا».. وكانت هذه الكلمات القوية التي تنبض سؤدداً وشموخاً، كافية لإشعال الحماس التاريخي، واستنهاض قيّم التحرر الإفريقي الأصيلة، التي كانت ترن أيام مؤتمر باندونق، فوجدت التأييد بالإجماع من إفريقيا كلها، لم تتخلف منها دولة واحدة، بما فيها الدولة المضيفة، يوغندا وهي مصادقة على الميثاق؛ بل مضى الاتحاد الإفريقي برفضه الهيمنة على سيادته، واعتبار قرار المحكمة غير ملزم، بل يحرِّض على إفشال السلم والأمن الذي تحقق بجهوده في السودان وفي إفريقيا، وأن أيّة دولة إفريقية تتعامل مع القرار تعتبر خارجة على الإجماع الإفريقي، ومتآمرة على استقلال وسيادة وحرية الشعوب الإفريقية، وبالتالي فيجب معاقبتها ونبذها. وقد صفعت مفوضية الاتحاد الإفريقي مدعي المحكمة الجنائية تارة أخرى، برفضها القاطع لطلبه إنشاء مكتب له في مقر الاتحاد بأديس أبابا. وبهذا القرار تستطيع إفريقيا اليوم أن تقول إنها تحررت من آخر آثار الاستعمار القديم، المتمثلة في العُجب بالأجنبي، واقتفاء آثاره وتقمُّص شخوصه، واعتبار أن كل ما يأتي منه هو الخير، وأن الشر كله في مخالفة أمره؛ إذ أن القادة الأفارقة الحاليين هم الجيل الذي وقف على حجم الدمار الأخلاقي والمادي الذي خلّفه الاستعمار على القارة، بعد أن انكشف غبار المعركة، وبدأ حصر الخسائر. فقد كان الجيل السابق، هو جيل الآباء المؤسسين، الذين كان جلُّ همهم إخراج المستعمر جسداً، فجاء الجيل الحالي لإعادة بناء ما دُمر، واستعادة الدولة المسلوبة، ولكن تبين أن البناء المادي وحده لا يكفي، دون توفر عقيدة وطنية تحرّض على التحرر الشامل، وتحدد رؤية واضحة لمسار القارة في المستقبل المحفوف بالتحديات؛ وبالتالي لمعت اليوم أسماء يتردد صداها بقوة، في منتديات الفكر السياسي الإفريقي، تدعو لتبني هذا الاتجاه، من أمثال الرئيس السابق لجنوب إفريقيا تابو أمبيكي، وعبد الله واد رئيس السنغال، وميليس زيناوي، رئيس وزراء إثيوبيا، وهم الرواد التنفيذيون لمبادرة الشراكة الجديدة للتنمية في إفريقيا «النيباد» التي تستند على مبدأ الشراكة مع الآخر، في إطار الاحتفاظ بخصوصيات الهوية، واتحاد التنوع، والاحتفاء بالتراث الوطني، دون الشعور بالدُونية، فيما يتوافق مع القيّم الانسانية الشمولية، كالديمقراطية، والحكم الراشد، والمحاسبية، والشفافية واحترام حقوق الانسان الأساسية. إن ما طَفِق أبناء دارفور يرومونه للإمساك بزمام أمورهم، وحزم شؤونهم بما يتوافقون عليه فيما بينهم، منذ خروج مجموعة تصحيح مسار الأزمة، الذين كان لهم فضل فضح المخطط التدميري للسودان بدارفور، من قبل مكتب المدعيّ في المحكمة الأوروبية، وتعريف الرأي العام العالمي والإفريقي بما يدبّر لبلادهم، باستغلال مصيبتهم لتمرير أجندة معلومة وظالمة، وذلك من تلقاء تجاربهم الشخصية، وممارساتهم المباشرة مع وكلاء التدمير؛ ورسالة المهرجان الجماهيري آنفاً بقاعة الصداقة، الذي حفّته قياداتهم المستنيرة والتاريخية، من قادة الرأي والادارة الأهلية في المجتمعات القاعدية، ومن التنفيذيين في أعلى مراقي درجات سلم السلطة، سواء على المستوى الولائي أو الاتحادي، ومكاشفتهم رئيس الجمهورية بكل ما يتعلق بالشأن الدارفوري، وعزمهم المخلص لدعوة كافة أبناء دارفور، بما في ذلك من حملوا السلاح منهم، أن تعالوا الى كلمة سواء، حاديهم في ذلك ألا تكون دارفور ما يُصوّر لنا في وسائل إعلام الآخر: أرضٌ توارثها الجُدوبُ فكلُُّ مَنْ حلّها محروبُ؛ إما قتيلاً وإما هَلْكاً، والشيب شينٌ لمن يشيب. هذا المسعى يدل بصدق على مستوى النضج الفكري الذي بلغه الحس الوطني في دارفور، بعد طول التأمل، والصبر على أذى الشارد والوارد، بحيث أصبح حال أجمعهم كمن أغمض عيناً وفي جفنها الأقذاء. هذه إشارة فاضحة ولكنها واضحة، لفشل المخطط التدميري المعدُّ للسودان في دارفور.. وكما أفادت التجارب، وعُلم من الأمثال السائرة، والآثار المشهودة، البائدة والباقية، فإن معظم النار يكون من مستصغر الشرر. ٭ سفير السودان بجيبوتي والمندوب الدائم لدى الإيقاد.