السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نماذج من استمرار التهريج السياسي والإعلامي في التعاطي مع قضية المحكمة الجنائية .. بقلم: واصل علي
نشر في سودانيل يوم 01 - 06 - 2010

نماذج من استمرار التهريج السياسي والإعلامي للسودان في التعاطي مع قضية المحكمة الجنائية الدولية
رغم مرور أكثر من خمسة سنين على إحالة ملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية في مارس 2005 لا يبدو أن هناك أي تغيير يذكر في خطاب مسؤولي الدولة وقادة العمل السياسي في السودان بما فيها المعارضة وحتى جمهور المثقفين والإعلاميين. هذه الفترة الطويلة منذ قرار الإحالة كانت اكثر من كافية لاكتساب معرفة عميقة بقضية المحكمة الجنائية الدولية وفهم أبعادها وتأثيراتها على البلاد. وللأسف الشديد بعض الذي نقرأه ونسمعه يوحي أننا مازلنا محلك سر من ناحية الفهم وأصبحت مهمة وزير العدل السوداني وهو القانوني الأول في البلاد ليست تقديم المشورة القانونية السليمة بل ترديد كليشيهات وشتائم أضعفت موقف السودان ووضعته في هذا المأزق.
في هذا المقال سأستعرض بعض هذه النماذج حتى نقف جميعا على فداحة وعمق أزمة الفهم لقضية لاهاي التي طالت الحكومة السودانية وهي التي عليها أن تتسلح بأقصى درجات الوعي على إعتبار أنها المعنية أساسا بتبعاتها السياسية والقانونية.
في الأسابيع الماضية اكتشفت الحكومة السودانية على ما يبدو أن هناك مؤتمرا سينعقد في كمبالا هذا الشهر وسط زخم إعلامي وسياسي كبير لمناقشة بعض التعديلات على معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية وتشترك فيه أغلب دول العالم وعلى مستوى الرؤساء ووزراء الخارجية والعدل. وطالعنا بروفسور إبراهيم غندور الأمين السياسي للمؤتمر الوطني الحاكم بتصريح للمركز السوداني للخدمات الصحفية أوائل هذا الشهر قائلا فيه أن "هنالك جهات في دول القارة الأفريقية والعالم الثالث تعمل على تدويل القضايا المحلية ومراقبتها عبر المحاكم الأوربية الأمر الذي يسهم في إضعاف القرارات السياسية وتحجيم القوانين المحلية من ممارسة عملها ومهنيتها بالوجه الأكمل". ودعا أيضا الدول الأفريقية في الاتفاقية "لمراجعة ممارسات المحكمة الجائرة تجاه أفريقيا".
والأسبوع الماضي أيضا صرح السفير عمر دهب مدير إدارة الأزمة بوزارة الخارجية لصحيفة (اخر لحظة) أن أعضاء المحكمة " يناقشون إدخال التعديلات الخاصة بولاية المدعي العام للمحكمة، مشيراً لصعوبة إدخال التعديلات التي تتطلب موافقة (3/4) من الدول الأعضاء".
لقد فات على بروفيسور غندور والسفير دهب أن المؤتمر كان يتم التحضير له منذ سنوات وليس وليد اللحظة وان التعديلات على الميثاق التي ستخضع للنقاش تم الاتفاق عليها وليس من بينها مراجعة ممارسات المحكمة تجاه أفريفيا ولا ولاية المدعي. وكان بإمكان المسؤولين مراجعة الوثائق المتعلقة بالمؤتمر ليدركوا بكل بساطة أن المجتمعين سيناقشون اقتراح لتوسيع ولاية المحكمة لتتضمن جرائم العدوان والمادة 124 التي تتيح للدول الأعضاء استثناءها من ولاية المحكمة لمدة سبعة سنين وإضافة استخدام الغازات السامة لأركان جرائم الحرب.
و كانت المجموعة الأفريقية قد حاولت وبإيعاز من السودان إدخال تعديل على ميثاق روما لإعطاء سلطة التجميد بموجب المادة (16) للجمعية العامة للأمم المتحدة بدلا من مجلس الأمن كما هو الحال الآن. ولقد فشل هذا المقترح واسقط من أجندة مؤتمر كمبالا.
ويبدو أن الحضور الدولي غير المسبوق في مؤتمر كمبالا ومنها دول عربية وأفريقية قد أصاب الخرطوم بما يشبه الصدمة وهي التي تصورت أن قرارات الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي ستقضي على المحكمة وتلغيها من الوجود وتفضي إلى انسحاب عربي وإفريقي واسع من اتفاقية روما. ويبدو أن هذه الصدمة دفعت الحكومة لمنع بروفيسور بخاري الجعلي ومريم الصادق و صالح محجوب في اللحظات الأخيرة من السفر للمؤتمر على اعتبار انه يمثل "استهداف للبلاد" ومضت في تخوين أي سوداني تسول له نفسه المشاركة. ولقد امتنع السودان في قرار ينم عن قصر نظر,عن تلبية دعوة الحكومة الأوغندية للمشاركة رغم تواجد دول مثل ايران, الصين, روسيا وكوبا وأضاعت الحكومة على نفسها فرصة لإسماع رأيها او بناء لوبي موالي في المؤتمر.
لقد سقطت الحكومة السودانية أسيرة لأوهام وأحلام وأضاع ساستها كثيرا من الوقت عبر السنين الخمسة الماضية في محاولات الالتفاف على قضية المحكمة الجنائية الدولية بالهجوم عليها وعلى مدعيها بأساليب صبيانية ولاتخلو من إسفاف في بعض الأحيان. فمثلا لقد جمعت الحكومة بعض الدارفوريين في مؤتمر صحفي العام الماضي في فرقعة إعلامية ليعترفوا في صحوة ضمير متأخرة انهم فبركوا شهادات مزورة للمحكمة مع وعد بالكشف عن التفاصيل في مقبل الأيام وهو مالم يحدث وماتت القضية ولم يعد يتحدث عنها احد.
كما ان مسؤولي السودان بذلوا جهود محمومة وحاولوا تأليب الدول الأفريقية على المحكمة بالانسحاب منها وفشلوا في ذلك أيما فشل وتراجعت نفس هذه الدول سريعا عن قرار قمة سرت القاضية بعدم التعاون مع المحكمة ووجهت تحذيرات سرية وعلنية للبشير بعدم إحراجها ومحاولة زيارتها وإلا فأنها ستضطر للقبض عليه. وحتى تركيا التي ليست عضوا في المحكمة طلبت من الرئيس البشير في اللحظات الأخيرة بهدوء إلغاء مشاركته في القمة الإسلامية العام الماضي. وتوالى مسلسل اعتذارات الرئيس البشير عن تلبية كثير من الدعوات بسبب مذكرة التوقيف الصادرة بحقه.
وهذا الأسبوع قال رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما للبرلمان أن بلاده وجهت الدعوة لكل رؤساء أفريفيا لحضور افتتاح كأس العالم ولكن الرئيس عمر البشير عرضة للقبض بموجب مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية.
ولقد انبرى العديد من كتاب الأعمدة في السودان للهجوم على زوما بشكل شرس واتهموه بالتنكر لما قدمه السودان لجنوب أفريقيا إبان فترة التمييز العنصري. ومن بين هؤلاء الكتاب الأستاذ راشد عبد الرحيم من صحيفة (الرأي العام) في مقاله "أذناب الجنائية" و الأستاذ عبد المجيد عبد الرازق من نفس الصحيفة في مقاله "الرئيس جاكوب صورة مقلوبة لمانديلا" والأستاذ محمد حامد جمعة في صحيفة (الرائد) في مقاله " تسيس الرياضة".
ولقد وضح لي بشكل تام أثناء قراءة المقالات أن الكتاب الثلاثة ورغم انهم صحفيين لم يدققوا في الخبر الوارد في الوكالات أو يبحثوا عن خلفياته ولعمري لو فعلوا ذلك لتريثوا قليلا قبل الانجرار في موجة الهجوم الكاسح على رئيس جنوب أفريفيا. قال الأستاذ محمد حامد جمعة أن زوما "يحاول تملق أعداء الخرطوم بطريقة مهينة ومقززة في المسائل والأمور المرتبطة بالسودان وأنه كل شهر يطلق تصريحات بشأن البشير والسودان بمناسبة وبلا مناسبة وان حديثه خالف به موقف القادة الأفارقة من الجنائية الدولية ، وكان حديثاً بلا داع أو مبررات مفهومة".
واقع الأمر وخلافا لما ذكره الأستاذ جمعة فالرئيس جاكوب زوما لم يتحدث عن القبض عن البشير غير في مناسبتين منذ توليه الرئاسة اولهما في لقاء مع المذيعة كريستيان امانبور على شبكة ال (سي ان ان) في سبتمبر الماضي عندما سألته عن موقف بلاده من قرار الاتحاد الأفريقي القاضي بعدم التعاون مع المحكمة فقال ان الأفارقة يطلبون فقط تجميد مذكرة التوقيف وليس إلغائها لإعطاء فرصة لتحقيق السلام وعدم الانتكاس للخلف فيما تحقق حتى الآن على الأرض. وأضاف زوما أن البعض تساءل عن موقف حكومته إذا حاول البشير زيارة بلاده فأجاب "موقفنا انه متى ماتم القبض عليه (داخل جنوب أفريفيا) فليس باستطاعتي فعل شيئ".
المناسبة الثانية كانت داخل البرلمان الجنوب أفريقي ونتيجة لسؤال من العضو كينيث موبو من حزب التحالف الديمقراطي الذي سأل الرئيس زوما عن مصير البشير إذا حاول حضور نهائيات كأس العالم على اعتبار انه تمت دعوته.قال زوما في إجابته الأولى ان بلاده تحترم المعاهدات التي هم طرف فيها وسيلتزمون بها في إشارة لميثاق روما. بيد ان هذه ألإجابة لم تقنع العضو فعاد وسأل إذا كانت الحكومة ستعتقل البشير إذا جاء إلى جنوب أفريفيا فأجاب زوما بأسلوب ينم عن ضيق "في إجابتي كان هذا اول شيء رددت عليه وأجبت بشكل واضح أن جنوب أفريقيا تحترم القانون الدولي".
وبناء على ما أوردته يتضح للقارئ أن زوما لم يتبرع أبدا بتصريح يهدد فيه الرئيس البشير بالقبض ولم يذيع بيانا للبرلمان بهذا الخصوص كما توهم البعض ولم يذكر حتى اسم الرئيس البشير في إجاباته وظهر تماما انه يحاول تجنب اثارة هذه المسألة الحساسة.
والشيء الأخر الذي فات على من كتب يهاجم زوما أن قرار القبض على البشير يخضع لصلاحية المدعي العام هناك وهو مستقل في عمله ولا يملك أي شخص هناك التأثير عليه في ظل نظام قضائي قوي وراسخ. ولعل ان هذا هو السبب الذي تراجعت به جنوب أفريقيا عن قرار الاتحاد الأفريقي الذي استشارت فيه الحكومة مستشاريها القانونيين بعد قمة سرت واكدوا انه مخالف تماما لدستور البلاد الذي اصبح ميثاق روما جزءا منه وأى محاولة لتنفيذه ستكون معركة خاسرة خاصة وان كثير من المنظمات غير الحكومية هناك هددت وقتها باللجوء للمحكمة العليا.
ويبدو ان القاسم المشترك بين من كتب يهاجم زوما هو الاعتقاد الزائف أن إعادة انتخاب البشير تحميه من الملاحقة القانونية وهو أمر بعيد كل البعد عن الواقع لأن ميثاق روما لا يعترف أصلا بحصانة الرؤساء سواء جاؤوا بالانتخاب أو على ظهر دبابة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل كلما أكدت دولة التزامها بميثاق روما ستقوم الحكومة السودانية والأعلاميين بمهاجمتها وسبها؟ ولماذا حلال على السودان تمسكه باتفاقيات مياه النيل وحرام على غيره التزامه باتفاقياته؟ ولعله من المفيد ان نذكر ان الأردن نفسها وعلى لسان وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال الدكتور نبيل الشريف اعلنت التزامها بميثاق روما.
ولقد قام رؤساء دول مثل شيلي, البرازيل, الأرجنتين وكولومبيا برفض الجلوس أو التقاط صور بوجود الرئيس البشير في قمة الدوحة العام الماضي. و استعدت أجهزة الدولة في البرازيل العام الماضي لاحتمال عبور طائرة الرئيس البشير أجواءها وانزالها في طريقه للقمة الأفريقية-اللاتينية في فنزويلا التي أيضا غاب عنها رأس الدولة في السودان. وألغيت قمة أفريقيا-فرنسا المقررة في شرم الشيخ بسبب إصرار مصر على حضور الرئيس البشير. ولعل هذا يفسر جزئيا على الأقل الموقف الغريب وغير المفهوم من الحكومة السودانية الداعم لموقف القاهرة في ازمتها مع دول حوض النيل. فهل سيعادي السودان كل هذه الدول؟
وفي أمثلة أخرى وإثناء قراءتي لصحيفة (الرأي العام) الشهر الماضي وقعت عيني على مقال للدكتور خالد المبارك بعنوان "انتخابات السودان في الميزان" وتوقعت كما كان من الطبيعي ان يتوقع أي قارئ عادي بناء على العنوان, ان يتناول الكاتب الجدل القائم حول عملية الاقتراع محليا ودوليا وربما استشراف المستقبل السياسي بعد إعلان النتائج كمسألة تركيبة الحكومة القادمة والاستعداد لعملية الاستفتاء القدمة في الجنوب عام 2011.
ولكن ويا للعجب كان المقال في معظمه ليس له أي علاقة بقضية الانتخابات وإنما انصب على كيل الشتائم للمحكمة الجنائية الدولية ومدعيها لويس مورينو-اوكامبو و كان السياق الذي أدرجت فيه هذه المسالة غريبا وغير منطقي من ناحية بنية المقال وباعتبار العنوان الذي اختاره له. وعلى أي حال بعد قراءة متمعنة لما كتبه الدكتور المبارك أدركت انه لا يخرج عن حالة من (البارانويا) تنتاب مسؤولي السودان منذ احالة ملف دارفور للمحكمة الجنائية وارجو الا يفهم هذا الوصف باعتباره تجريحا أو سبا بقدر ماهو توصيف موضوعي لحالة نشاهدها بشكل شبه يومي.
وقع الدكتور المبارك في نفس الخطأ الذي يقع فيه الكثيرين في السودان باعتقاده أن المدعي يملك سلطة مطلقة في المحكمة ليفعل ما يشاء وكان بإمكانه أن يدرك الحقيقة لو قرأ ميثاق روما أو لو تابع نشاط المحكمة ليفهم أليات عملها ولنأخذ مثلا قضية كينيا التي فيها تحقيق مؤخرا وفيها كثير من التشابه مع قضية السودان.
حولت لجنة (واكي) التي يرأسها قاضي من كينيا خلاصة تحقيقاتها للأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان الذي رعى اتفاقا لتقسيم السلطة بين الفرقاء وتضمنت مظروفا يحوي أسماء المشتبه فيهم ارتكابهم للفظاعات التي صاحبت انتخابات 2007 وبينهم أشخاص متنفذين وهو يذكرنا بقائمة ال(51) التي أعدتها لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم دارفور برئاسة انطونيو كاسيسي في عام 2004.
كان من المفترض أن تقوم الحكومة الكينية والبرلمان بتأسيس محاكم وطنية للنظر في جرائم عنف الانتخابات ولكن لأسباب سياسية دافعها خوف بعض كبار المسؤولين من إدانته تم تعطيل هذه المسألة مما أثار سخطا واسعا بين المواطنين الكينيين الذين كانوا يتحرقون لجلب المتورطين للعدالة. بعد فشل الأحزاب في الاتفاق على إنشاء هذه المحاكم الخاصة قام عنان بتسليم الملف لأوكامبو للنظر فيه وبدء التحقيق.
ولكن فتح تحقيق في قضية ليس أمرإ سهلا وتحكمه ضوابط ومعايير محددة في ميثاق روما وذهب وزير العدل الكيني للقاء المدعي في لاهاي ووقع معه اتفاقا في يوليو 2009 ينص على انه إذا فشل مسعى إنشاء المحاكم الخاصة فستتولى المحكمة الجنائية التحقيق. ذهب اوكامبو في زيارة لكينيا في نوفمبر 2009 والتقى بالرئيس مواي كيباكي ورئيس الوزراء رايلا اودينجا وابلغهما بانه سيطلب الضوء الأخضر من قضاة المحكمة الجنائية.وكان اللافت هو الاستقبال الحافل الذي لاقاه في نيروبي والتغطية الإعلامية المكثفة لزيارته. الجدير بالذكر ان استطلاعات الرأي أظهرت أن الكينيين بغالبيتهم الساحقة مؤيدين لتدخل المحكمة الجنائية الدولية للقصاص ممن يقفون وراء أعمال العنف.
قام المدعي في نفس الشهر بتقديم طلب للقضاة يطلب موافقتهم على بدء التحقيق في جرائم كينيا بموجب المادة (15) من ميثاق روما التي تعطيه سلطة فتح التحقيق طالما وافقت الدائرة الابتدائية على ذلك وعليه أن يحدد الأسباب والمسوغات التي تبرر طلبه من ناحية مقبولية القضية واستيفاءها لمعايير جسامة الجرائم وتوصيفها القانوني وهل هناك اجراءات قضائية محلية اتخذت لمعاقبة المجرمين وأشياء اخرى.
عاد القضاة بعد حوالي ثلاثة شهور لطلب توضيحات جديدة من المدعي حول جوانب محددة من القضية ورد عليهم في أوائل شهر مارس الماضي بالمعلومات التي طلبوها. وجاء قرار القضاة بالغالبية وليس بالإجماع يعطي التفويض لبدء التحقيق رسميا في قضية كينيا لتنتهي هذه المرحلة التي استغرقت قرابة الخمسة شهور وتبدأ مرحلة اخرى من جمع الأدلة وتسمية أشخاص بعينهم للتحقيق معهم.
تعطي هذه القضية دلالة على تقييد سلطة المدعي في فتح التحقيقات على عكس ما حاول أن يوحي الدكتور المبارك وهو يتحدث عن تقرير جولدستون حول جرائم غزة وما يعتبره تلكؤا من المدعي في فتح التحقيق هناك. والحقيقة انه على عكس كينيا فإسرائيل ليست عضوا في المحكمة وليس هناك قرار من مجلس الأمن الدولي يفوضه التحقيق كما حدث بالنسبة لدارفور.وإضافة لذلك فحتى لو طلبت السلطة الفلسطينية من المحكمة فتح التحقيق فلا تعتبر غزة دولة حسب القانون الدولي.
وإذا نظرنا لبعض القضايا الأخرى في المحكمة فلقد استغرق فتح التحقيق في قضية أفريفيا الوسطى وهي عضو في ميثاق روما سنتين رغم أنها هي التي أرسلت خطابا رسميا للمدعي في يوليو 2005 تطلب منه ذلك فما بالك بقضية مثل غزة لها ظروف اشد تعقيدا من الناحية القانونية.
وإذا عدنا لقضية كينيا فنجد أن الحكومة هناك رحبت بقرار القضاة وقال رئيس وزراءها انه مستعد للذهاب إلي لاهاي إذا تم توجيه الاتهام له ولايسعنا إلا المقارنة بين هذا الموقف وموقف مسؤولينا الذين درجوا على استخدام عبارات من قبيل "يمصوها ويشربوا مويتها" و "لن نسلمهم جلد كديس" وكأن بهذا الكلام تختفي مذكرات التوقيف ولم يعد لها وجود.
ولا يخرج الدكتور المبارك بعيدا عن سياق تصريحات المسؤولين في الخرطوم فهو ركز هجومه على شخص المدعي متناسيا أن من اعتبر السودان ملزما من الناحية القانونية بقرارات المحكمة هم القضاة وهم أيضا من اصدروا مذكرات التوقيف وهم من رفضوا إضافة تهمة الإبادة الجماعية وطلبوا فيما بعد إعادة النظر فيها وهم أيضا وجهوا الاتهام للقائد بحر ادريس أبو قردة وبرؤوه فيما بعد رافضين التماس المدعي وليس اوكامبو الذي تنتهي مدته غير القابلة للتجديد عام 2012 ولاتنتهي القضية المرفوعة ضد الرئيس البشير و احمد هارون وعلي كشيب والأخرين.
ولقد استرعى انتباهي أيضأ نسبه لوفد المحكمة الذي كان في لندن انهم يطلبون مزيدا من "الشكاوى" ضد الرئيس البشير لأن مالديهم لا يتعدى 12 شكوى. وهذا الكلام الذي خطه الدكتور المبارك يعطينا مثالا اخر على ضعف الوعي عند المسؤولين السودانيين حول عمل المحكمة الجنائية الدولية فالشكاوى التي يتحدث عنها هي طلبات يقدمها ضحايا الصراع في دارفور لقضاة المحكمة ليصنفوا كضحايا إذا استوفوا معايير محددة ليسمح لهم بالمشاركة في اجراءات التقاضي ضد المتهمين بموجب ميثاق روما وهذا الأمر مختلف تماما عن موضوع الشهود.
"يسمح للضحايا، بموجب معاهدة روما، بعرض آرائهم وشؤونهم مباشرةً أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية في مراحل معينة من الإجراءات. أهم عناصر هذا الأمر، هو الدور الذي يتمتّع به الضحايا في التأثير على قرار المحكمة للبدء بتحقيق جنائيّ أو المقاضاة، في وقت لاحق، في حالة معينة. ولا يتمتّع الضحايا، في المحكمة الجنائية الدوليّة، بحقّ التسبّب في الشروع بتحقيق ما، لكن تُمنح لهم فرصة الإدلاء بآرائهم أمام الهيئة القضائية في مرحلة ما قبل المحاكمة في الوقت الذي تقوم فيه هذه المحكمة بدراسة ما إذا كان يجب تفويض المدّعي العام في الشروع بتحقيق عن طريق استخدام صلاحيّات proprio motu أم لا، أو إعادة النّظر في قرار المدّعي العام الداعي إلى عدم التحقيق أو عدم المقاضاة. وعلى نحو مشابه، وعلى الرّغم من أن الضحايا غير مدرجين كطرف من الأطراف التي يمكن لها أن تطعن في النفوذ القضائي أو جواز التداول في قضيّة ما، إلا أنّهم يُمنحون الحق في تقديم ملاحظات إلى القضاة عندما تنظر المحكمة في مثل هذه الأمور."
وأنا أحيل الدكتور المبارك لقرار الدائرة التمهيدية في 10 ديسمبر 2009 من 26 صفحة الخاص بالسماح ل12 شخص بتصنيفهم كضحايا بناء على طلب رسمي تم تقديمه من قبلهم و تم قبولهم بعد النظر للوثائق و الاستماع لرأي مكتب المدعي ومكتب محامي الدفاع المعين للحفاظ على مصالح المتهمين وأيضا قسم الضحايا والتعويضات. فالعملية برمتها ليست اعتباطية كما حاول أن يصورها الدكتور المبارك بناء على فهمه لها.
والشئ المثير للاهتمام هو أن الكاتب ذكر أن وفد المحكمة "اعترف" بان القضية هي الوحيدة التي جمعت لها الأدلة من خارج دارفور وكأن هذه المسألة كانت سرية ولم يذكرها المدعي رغم أنها ليست دقيقة تماما لأن وفود مكتب المدعي زارت السودان بين عامي 2005-2007 والتقت بمسؤولين واستجوبتهم بالصوت والصورة كما حصلت على توضيحات ومعلومات من أجهزة الدولة المختلفة. ولكن المدعي حقيقة رفض أن يجلب شهودا من داخل دارفور لأنه غير قادر على حمايتهم داخل دارفور على اعتبار أن واجبه القانوني هو حماية كل الشهود.
كنت أتمنى من الدكتور المبارك بدلا من محاولة الطعن في المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها أن يدفع لنا بالإجراءات القانونية التي اتخذتها الحكومة السودانية لمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب في دارفور أو أن يحاول تقييم أداء وزير العدل السابق محمد علي المرضي و سلفه الدكتور عبد الباسط سبدرات فيما يختص بمحاكم دارفور ووعودهم التي اطلقوها حول محاكمة كشيب ومتهمين اخرين التي ذهبت أدراج الرياح عندما خف الضغط الدولي أو هجوم احمد هارون على سبدرات عندما لمح مدعي جرائم دارفور المستشار نمر بالتحقيق مع هارون في دولة يدعي حكامها سيادة القانون واستقلال القضاء.
ولقد أصبحت مسألة مماطلة الخرطوم في القيام بأي محاكمات في دارفور واضحة للعيان والمجتمع الدولي ولقد ذكر القاضي التنزاني محمد شندي عثمان وهو خبير في حقوق الإنسان مُعين من قبل الأمم المتحدة في فبراير الماضي ان القضاء السوداني لم يوجه إلى الآن اتهامات أو يُحاكم أحدا في دارفور وانه يتعين على الحكومة السودانية تسريع المحاكمات "وإلا خسرت ثقة الناس".
وأوصى تقرير اعده الرئيس الجنوب أفريقي امبيكي بإنشاء محكمة مختلطة تضم قضاة أجانب لمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى في إقليم دارفور وانه يجب تعديل القانون السوداني كي يدمج بشكل كامل مع القانون الدولي حتى لا تتمتع قوات الأمن السودانية بعد الآن بحصانة من المحاكمة. وهذا التقرير في مجمله صفعة للقضاء السوداني حيث اثبت انه غير قادر أو راغب في التعامل مع الانتهاكات في دارفور وان كل الدعاية الحكومية في هذا الموضوع لم تكن اكثر من مجرد مادة للاستهلاك السياسي فقط وليس له أي وجود على ارض الواقع. وايد التقرير أيضأ ضمنيا عمل المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها جهاز قضائي مستقل.
ولقد فشل السودان أيضا في محاولته دفع الدول لتغيير ميثاق روما لتنتهي اخر المغامرات الدبلوماسية السودانية لتعطيل عمل المحكمة وتظل مذكرة التوقيف سيفا معلقا على الرئيس البشير وتدفعه للتفكير ألف مرة قبل القيام بسفرية خارجية.
ولقد توالى انضمام الدول للمحكمة واخرها بنجلاديش في مارس الماضي و هي دولة مسلمة وعضو في منظمة المؤتمر الإسلامي التي رفضت مذكرة التوقيف التي صدرت بحق الرئيس البشير كما ان تشيلي و جمهورية التشيك انضمتا أيضا للمحكمة لتصبح قارتي أوروبا و أمريكا اللاتينية بأكملهما أطراف في اتفاقية روما.
ورغم كل هذه الحقائق يبشرنا الدكتور المبارك أن المحكمة "لا أسنان لها ولا مصداقية" رغم أن 111 دولة في العالم اصبحوا أعضاء فيها وهو رقم سيزيد بمرور الأيام والسنين ورغم ان أمر التوقيف حجم تحركات البشير بشكل لا يليق برئيس دولة. واصبح ساسة كثير من دول العالم يتجنبون الظهور معه كما ان بعض الدول التي تصنف بأنها صديقة للسودان تمارس الأبتزاز السياسي على البشير على خلفية مذكرة التوقيف لتصبح مصالح البلاد رهينة لشخص واحد يريد حماية نفسه.
ولقد وقع اشخاص مخضرمين مثل الدكتور منصور خالد, رغم انه من اكثر الناس عقلانية في تناوله لمسألة المحكمة, في نفس الخطأ عندما قال في حواره المنشور في (سودانايل) في تعليقه على طلب اوكامبو من القضاة تقرير ان السودان غير متعاون في قضية هارون و كشيب واعتبره ان المدعي " يخدم قضيته بإصدار مثل هذه الاحكام لأن ذلك يحوله من ممثل اتهام لشخص سياسي لأن يجعل هدفه هو اثبات التهم قبل أن تصدر المحكمة فيها قرار يشكك ذلك في أمانته المهنية ويحوله من شخصية قانونية لشخصية سياسية".
ولقد فات على الدكتور منصور خالد امران في هذا التصريح اولهما ان المادة (87) من ميثاق روما تتيح للقضاة اصدار حكما يعتبر دولة غير متعاونة واحالة المسألة لجمعية الدول الأطراف في المحكمة ان كانت الدولة عضوا او لمجلس الأمن الدولي اذا كان هو الذي احال القضية.
و خلافا لما ذكره الدكتور منصور خالد فالمدعي لم يصدر حكما بل طلب من القضاة اصداره خاصة وانه مرت ثلاثة سنين على مذكرات التوقبف بحق هارون و كشيب ولم يتعاون السودان رغم ان مجلس الأمن الدولي الزم السودان بالتعاون بموجب الفصل السابع كما ان على المدعي تقديم تقرير نصف سنوي للمجلس عن تطورات التحقيق في قضية دارفور. والأهم من ذلك ان قضية البشير لم تدرج في الطلب وهو دحض لما يقوله البعض ان المدعي هدفه الضغط السياسي على الرئيس البشير في فترة الأنتخابات.
والحقيقة انني لم افهم ماذا قصد الدكتور منصور خالد بأن اوكامبو هدفه هو اثبات التهم قبل أن تصدر فليس للمدعي هذه السلطة في ميثاق روما و قضية هارون و كشيب مازالت في مرحلة مذكرات التوقيف فلم تتم اي محاكمة بعد واصدار تقرير بعدم التعاون ليس لها اي اثر على التهم الموجهة للمتهمين.
لم تعد سياسة دفن الرؤوس في الرمال كالنعامة تجدي نفعا في التعامل مع هذه القضية فالمحكمة هي جهاز دائم بوسعه الأنتظار حتى يتم القبض على المتهمين ولقد رأينا كيف تم القبض على رادوفان كاراديتش بعد ان ظل فاراً من وجه العدالة طوال 13 عامأً والرئيس الليبيري تشارلز تايلور الذي تم القبض عليه بعد ثلاثة سنين من امر اعتقاله والأمثلة كثيرة. كما ان التعويل على الدعم السياسي للدول اصبح نهجا ديماغوغيا وغير مثمر ولن يخرج السودان من هذه الأزمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.