لأول مرة أدرك كيف تشهق الحروف، ذلك عندما لا تحتمل المعاني التي تحاول أن تنظمها جملاً، تشهد على عمق تجربة انسانية تتمدد بحجم عالم الانسان الذي لا تحده سوى خطوب الزمان متجسدة في التنكر للمعرفة، والجمال والصدق. علمت تماما كيف يكون انتماء الانسان للارض.. للروح.. للجسد متكاملاً، مترابطاً ومنسجما على أوتار الحنين الى العدالة والحب الكوني الخالد الذي يجمعه بحقيقة الوجود. قرأت الشاعر جيلي عبد الرحمن مرات عديدة لعلي اصل الى المدى الذي اراد بلوغه، وأظنني عجزت عن ادراك المدى الذي حاول التعبير عنه، لأنه وكباقي ابناء جيله يتمدد في الاطار الزماني جامعاً الماضي بالحاضر في مستقبل لابد يكون نتيجة لحاصل جمع الحاضر بالماضي، في مستقبل لابد يكون نتيجة لحاصل جمع الحاضر بالماضي، نوعا ما يمكنه أن يكون متفائلاً رغم رصد شاعرنا لكل صور البؤس والشقاء في كل قصيدة، بل وفي كل كلمة من كلماته، مستلذاً بتوصيف مدهش لحقائق الوجود المفجعة في مجتمعات متباينة جمعها مصير واحد.. مخلفات الاستعمار.. الفقر وقلة الحيلة.. سافر جيلي مع كل حركات التحرر في افريقيا وخارجها، تعاطف مع اليابانيين بعد هيروشيما، وطاف على عدد من الدول الآسيوية الأخرى ولم يتخل طوال تلك الرحلة عن قريته الصغيرة وأشيائها البسيطة التي انتمى لها حد الوله، ما جعلني اتساءل كل لحظة كيف لهذا الانسان ان يكون غريباً عنا وهو من جعل الهواء في السودان مجسماً، واستطاع التعبير عن كل ما هو سوداني باعطائه روحاً يسعى بها الى التاريخ والتعريف وفق مضمون حضاري لا يمكن تجاهله، ولكن وا أسفاه قد أمكن جهله ومرت فترات من الجمود منعتنا من استنطاق ما نعايش به الحياة وسبر غوره.