٭ من أجل الحقيقة يجب الاعتراف بأن ( نيفاشا ) كانت الحصاد الاخير لسلسلة طولية من التطور السياسي في ازمة الحكم في الجنوب والشمال وان الاستفتاء صار واقعا فرضه الشريكان ولا يمكن التراجع عنه كمرجعية لهذا التطور السياسى اٍلا باتفاقهما على مراجعة الامر لتعزيز جدواه السياسية لاستدامة السلام . ٭ سيناريو الخلافات بين الشريكين على مدى سنوات الفترة الانتقالية لم يأخذ في الاعتبار أن السفينة التي يتناوبان على مسك دفتها تحمل أمة كاملة غيرهما . أكتب هذ المقال مساء الإثنين 9/8/2010 م ولا أعلم متى سيجد حظه من النشر لما يشكله الامر من صعوبة لرؤساء التحرير بتواتر المواد المتعلقة بموضوع الاستفتاء وما يثيره من حراك وسط كثير من المهتمين بالامر ، خاصة في ظل التطورات الاخيرة التي ما تزال تنبئ عن تصاعد الازمه رغم إقتراب موعد الاستفتاء وفق اتفاقية السلام . وقد عمدت الي اختيار هذا اليوم ( 9 أغسطس ) لأبدأ مع كثيرين غيرى حساب العدد التنازلي لخمسة اشهر تماماً منذ الآن ( وقت كتابة المقال ) والتي بعدها سيتحدد مصير السودان مابين خياري الاستفتاء بالبقاء دولة واحدة كما عرف على مدى التاريخ الحديث منذ ان حددت حدوده الجيوساسية ايام محمد علي باشا قبل 187 عاما ، او بإنفصال ثلث مساحته او مايعرف بالجنوب بحدود المديريات الثلاث بعد الاستقلال في 1956 . دعونا نقفز مباشرة فوق الشكليات ونواجه الحقائق مجرده كما بات الجميع يعرفها تماما ونقول انه بعد خمسة اشهر بالتمام ستكون هنالك دولتان مستقلتان تشغلان مساحة المليون ميل مربع التي عرفت حتى قيام الاستفتاء بدولة السودان ، والتي طالما تفاخر بها السودانيون بأنها اكبر الدول الافريقية مساحة ... ارض المليون ميل مربع !! ويالسذاجتنا لم نعرف قيمتها الا بعد فوات الاوان، فقد بات من المؤكد أنها ستفقد هذا اللقب، و قبل اللقب ستفقد هويتها التاريخية كبلد تنتمي اٍليه حضارات وثقافات وأجناس مختلفة ومتنوعة طالما تعايشت بسلام على ارضه على مدى التاريخ . و الآن : هل نجعل هذه المساحة من ورق الصحف وزمن القارئ والجدول الزمني الضيق ، نجعل منها مناحة وبكائية ووقوفاً على الاطلال !!! وأي اطلال تلك التي نقف عليها ؟؟ أهي جبال الاماتونج .. أم جبال كرري ...أم جبال التاكا .. أم جبال مرّة !! اي اطلال من كل تلك يقف عليها من أراد البكاء والحسرة وإجترار الماضي لدولة بنتْ كل تاريخها على توحّيدأقاليمها الشاسعة ضمن وحدة سياسيه واحدة ، منذ بعانخي وحتى المهدي الى أن جاء اليوم الذي سلّم فيه الازهري علمىّ دولتي الحكم الثنائي الى مندوبيهما في باحة قصر الحاكم العام ليرفع بعد ذلك علم السودان المستقل الموحّد على صارية القصر الجمهوري في 1/1/1956 م .. للاسف أنت، عزيزي القارئ، وأنا وكل افراد الشعب السوداني الموجوع والمأزوم والمهزوم نفسيا لقلة الحيلة لا نملك اٍلا ان نقف على الأطلال في بكائيه ومرثيه منذ الآن وحتى 9/1/2011 لاننا ببساطه لا نملك ان نصنع شيئا حيال هذا البلاء القادم ، فالامر كله صار كصكوك الغفران ، لا يمنحها إلا من يملكها ، اى شركاء السلطة والثروة وصناعة القرارات المصيريه وكتابة ثم إعادة كتابة تاريخ الشعوب وفق مصالحهم و رؤاهم التى تبلورت في أماكن بعيده عن الديار وعلى طاولات غريبه عن أهل البلاد . نعم الامر كله في يدى الشريكين ، وجهى العملة الواحده ،المؤتمر الوطني والحركة الشعبيه ، صانعي السلام الآن والحرب من قبل وربما من بعد أيضا . هما من بيدهما الأمر الآن لكنهما في صراع محتدم يتكسر تحت اقدامهما العُشب وآمال وتاريخ طويل لوحدة شعب السودان . فبعد خمسة أشهر سيتم الحكم بإقامة جدار طويل عازل بين الشمال والجنوب ، وللدقة في النص نضيف اليها ستة اشهر أخرى يتم بعدها تنفيذ حكم قسمة الفرز بين الاشقاء لإرثهم الذي كان على الشيوع منذ الازل .!! سيناريو الخلافات على مدى سنوات الفترة الانتقالية الست إمتد وتصاعد ولم يكن يأخذ في الاعتبار ان السفينه التي يتوليان التناوب على دفتها تحمل أمة كاملة غيرهما . كل طرف كانت له أجندته وإستراتيجيته المخططة والمرسومة بعناية داخل منظومة من المصالح أحيطت بإطار فكري وثقافي نضج وإكتملت إطروحاته عبر تاريخ طويل من التصادم والصراع الحضاري بين المجموعتين : الاسلامية العربية او المستعربة الواردة من الشمال والشرق ، والافريقية الوثنية المحلية ( ثم المسيحية لاحقا ) . و رغم تمدد و انتشار الثقافة العربية تبعا لانتشار الاسلام إلا أن الصراع لم يحسم نهائيا بتغلب حضارة علي الاخري سواء بالاستيعاب الكامل والتحوّير او حتى بالتعايش السلمي الدائم . وعلى المستوى السياسي استمر الصراع متقطعاً طوال تواجد الحضارتين علي ارض السودان الى أن أخذ شكله الحديث متزامناً مع الاستقلال والذي شهد أيضا بداية التمرد المسلح في الجنوب(حوادث مارس) علي الدولة المركزية المستقلة الوليدة في الشمال ، ولسخرية القدر فإن التمرد الأول للجنوب كان فى نفس عام اٍعلان الاٍستقلال (ديسمبر1955) . وكان هذا أول إنذار بوجود خلاف عميق وتصادم حقيقي بين الثقافتين ، ومع ذلك وللأسف ظلت كل المحاولات معنية فقط بإحتواء الخلافات التي هي أعمق من كل المحاولات والمعالجات السطحية التي كانت تتم من الدولة المركزية فى الشمال وتقبلها النخب الجنوبية كترضية وتسوية مؤقته وذلك منذ عام 1954 ومطالب حزب الاحرار حتى إتفاقية أديس أبابا في 1972 وصولاً الى نيفاشا 2005 . ظلت جذور الازمة قائمة وإن إختلفت الحلول ، وظلت الحرب الأهلية هي اللغة والوسيلة التي تفرض نفسها على الأطراف ، وإستمر الجنوبيون يعلّون سقف مطالبهم من حالات تمرد على أوضاع مرفوضة لكن داخل ذات الوطن الواحد والمطالبة بالحكم الذاتي الاقليمي ، الى أن وصلوا الى مرحلة حق تقرير المصير كنتيجة حتمية لفشل كل النخب السياسية والفكرية في الشمال والجنوب في ايجاد حل حقيقي لمشكلة الوحدة القومية والتي أثبتت أنها ليست مجرد أزمة سوء توزيع للثروة والسلطة و عدالة تحقيق التنمية المتوازنة بقدر ماهي مشكلة هوية وثقافات مختلفة ومتضاربة حضارياً مع بعضيهما رغم اشتراكهما في حدود جغرافية سياسية لعدة قرون تحت مسمى دولة واحدة . صار الجنوب أزمة وطنية تعصف بكل محاولات إستقرار الحكم في السودان وظل هو الصخرة التي تتحطم عليها كل محاولات الحكومات البرلمانية منذ الاستقلال لإحداث إختراق وتجحيم لازمة إستقرار الحكم والسيادة الممتده علي كل الرقعه من ( نمولي ) حتى (حلفا ) ، الأمر الذي دعا كل الانقلابات العسكريه لإتخاذها ذريعه ومبرراً بالانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة بدعوى فشل النظام الديمقراطي في إيجاد الاستقرار الأمني قبل السياسي والاقتصادي . وعلى الجانب الآخر كانت حركات التمرد العسكرية الجنوبية تطوّر نفسها بإستقوائها باطروحات فكرية واستراتيجيات عسكرية جذبت اليها المزيد من ابناء الجنوب المثقفين وأيضا المحاربين العاديين الذين عملت جهات كثيرة علي حشدهم معنوياً قبل عسكرياً لحمل السلاح . وليس خافيا نجاح هذه الحركات وعلى رأسها حركة د. جون قرنق ، في إيجاد الدعم السياسي واللوجستي من كثير من دول العالم خاصة الغربي بأجندات تراوحت مابين التعاطف مع ما رأوه كظلم واقع على أقليات عرقية بمعيار حقوق الانسان ، الى الانحياز الديني من دول ايضا رأت ظلماً من المجموعة الاسلامية الشمالية ضد الجنوب الذي دخلته المسيحيه أوائل القرن الماضي ، بالاضافة الى دافع قوي من محركات العصر الحديث وهو المصالح الاستراتيجية الامنية والاقتصادية مثل البترول والمياه ومحاربة ( بعبع) ورهاب الغرب المسمى بالارهاب العالمي المرتبط في اذهانهم بالاسلام ( إسلاموفوبيا ) . وكان نتيجة كل ذلك تنامي وإستقواء حركات التمرد العسكري في الجنوب الى ان فرضت نفسها على مسار السياسة السودانية بإعتراف ( الانقاذ ) بها وجلوسها معها على طاولة نيفاشا ليقررا معا حاضر السودان بسلام مؤقت اشبه بالهدنة لست سنوات ، ويقررا أيضا مستقبله بالاٍستفتاء على الاٍنفصال او الوحدة . وكل ذلك برعاية المجتمع الدولي كله الذى بات من المعروف فى أى اٍتجاه يدفع!!!