في مطلع السبعينات عندما كانت حركة التمرد تنشط في جنوب السودان بقيادة ( الانيانيا ) وعلى رأسها مجموعة من القيادات الجنوبية أمثال اللواء جوزيف لاقو ، في تلك الفترة وفي لحظة صفاء سياسي بين الخرطوم وكمبالا أقدمت الحكومة الاوغندية على تسليم السودان مرتزق الماني حارب في صفوف قوات التمرد يدعى شتاينر . مازلت أذكر ونحن في بواكير الصبا مشهد ذاك المرتزق الالماني في المحكمة العسكرية التي شُكلت لمحاكمته برئاسة المرحوم اللواء محمد الخير عمر أزرق ، وكان التلفزيون ينقل وقائعها يومياً ( ابيض وأسود طبعاً ) . ظهر شتاينر في المحكمة في كامل هندامه وأعتداده وحرص على حلاقة شعر رأسه على الزيرو بالموس . كان سجل شتاينر مخزياً في تلك المهنة ...مهنة الارتزاق العسكري ، فقبل مجيئه الى جنوب السودان كان الرجل يحارب مع انفصاليى بيافرا في جنوب نيجريا ، والله وحده يعلم كم من الحروب الانفصالية الافريقية قد خاضها هذا المرتزق من أجل المال ، المال وحده ولا شىء سواه . كانت افريقيا في تلك الفترة تعج بهؤلا المرتزقة ، إذ كانو يبذلون خبراتهم القتالية والعسكرية لمن يملك التكلفة المالية الباهظة لخدماتهم ...قاتلوا الى جنب الطغاة والعملاء من حكام افريقيا أمثال موبوتو وشومبي في الكنغو وكانو وراء إغتيال وذبح المناضل الوطني باتريس لومومبا ، كذلك استعانت بهم الحكومات الاستعمارية والانظمة العميلة لمحاربة حركات التحرر الوطني في انقولا وغينيا بيساو وموزمبيق وروديسيا العنصرية وغيرها . كانت هذه المهنة في ذاك الوقت موضع إذدراء حتى في اوروبا، فكان هؤلا المرتزقة ينضوون في مكاتب تخديم اوروبية شبه سرية وكانت النظرة الاجتماعية لتلك المكاتب تضعها في موضع أحط من شبكات البغاء والدعارة ! الآن تغير الحال وأصبح الارتزاق (بزنس ) تنشط فيه شركات ضخمة يوظف فيها جيش من المرتزقة وتُضخ فيه مليارات الدولارات ولعل أكبر الأمثلة هي شركة بلاكووتر الأمريكية . يقول جيرمي سكيل مؤلف كتاب ( بلاكووتر ..المرتزقة قادمون ) : ( وُلدت بلاكووتر ومعناها المياه السوداء نسبةً الى المستنقعات الامريكية الكئيبة التى تأسست الشركة في قلبها بولاية كارولينا الشمالية . هذه الشركة الامنية يديرها شخص واحد هو الميلياردير ايريك برنس الذي ينتمي للتيار المسيحي الراديكالي ، والذي كان أحد الممولين الأساسيين لحملات انتخاب جورج بوش الابن ، ولأجندة اليمين المسيحي الصهيوني العريضة . كانت بلاكووتر من أعظم المستفيدين من سيناريو ( الحرب على الارهاب ) فقد صرح أحد كبار المساهمين في الشركة بأن الفضل يعود لأسامة بن لادن في تحويل بلاكووتر الى امبراطورية مالية ضخمة ! هذا وتمنح الشركة الجندى المتعاقد معها 600 دولار في اليوم الواحد وتتقاضي عنه 815 دولاراً ! في الاشهر الماضية راجت أخبار تقول إن بلاكووتر أبرمت عقودا مع حكومة جنوب السودان للقيام بمهام تدريبية وأمنية وعسكرية ، وقد أكد هذا الأمر الرئيس باراك اوباما حين صرح بعدم توافر إتجاه لمعاقبة بلاكووتر لخرقها الحظر التجاري الذي يلزم الشركات الامريكية بعدم التعامل مع حكومة السودان . شتاينر وبلاكووتر وجهان لعملة واحدة .