السودان من أكثر الدول التي تعاني التنوع الإثني والثقافي والديني واللغوي، حيث يضم حوالي 572 قبيلة، تشكل 50 منها مجموعة قبلية كبيرة، ويتحدث سكانها 115 لغة. ونسبة إلى عدم نجاح النخبة السياسية في تحقيق الانسجام وعملية التكامل القومي، فإن هذه القضية أصبحت لا عائقا للتنمية فحسب، بل مهددا للسلام، وتبعا لذلك مهددا لأية وحدة مستدامة في المستقبل من هنا سكن هاجس مهددات الوحدة عبده مختار موسى مؤلف كتاب «مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان» (منشورات مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2009)، لتقوم على فرضية صعوبة تحقيق وحدة مستدامة بين الشمال والجنوب، من خلال تلك الأطروحة التقليدية التي تختزل المسألة في اختلافات سياسية، يمكن حلها بإعادة توزيع السلطة، أو تظلمات اقتصادية يمكن حسمها من خلال معادلة جديدة لتوزيع الثروة، أو من خلال ترتيبات إدارية تقوم على الفدرالية. وباستقراء أحداث كثيرة يستخدمها الباحث كمؤشرات، تتكامل في نسق نظري ومقولات ترجّح عدم إمكانية تحقيق التكامل الوطني أو بناء سلام مستدام، وبالتالي وحدة مستقرة بين شمال السودان وجنوبه، ما لم يتم ذلك وفق منظور سوسيولوجي شامل، واندماج اجتماعي حقيقي يمهد لانصهار بين القوميات في هوية سودانية كبرى واحدة، تتعايش في داخلها عناصر التنوع الثقافي في انسجام تلقائي. لهذا لم يقتصر مجال البحث في مهددات الوحدة في السودان، بل وفي السياق يتطرق المؤلف إلى بعض منفرات تلك الوحدة، ومدى إمكانية ديمومتها، ولكن بشروط سوسيولوجية تدعم فكرة الاندماج الاجتماعي، على الضد من أطروحات سياسية - وربما أيديولوجية ودينية - تهدد وحدة السودان الحديث، حيث يلاحظ الباحث أن جوهر الصراع بين الشمال والجنوب في السودان هو صراع هويات، يحمل في طياته من المهددات، ومن المنفرات، ما ساهم إسهاما فعالا في غياب الاندماج الاجتماعي، والتفاعل الثقافي بين الشماليين والجنوبيين. تنبع أهمية الكتاب من أنه يأتي في وقت تمر فيه علاقة الجنوب والشمال في السودان بمنعطف خطير، وفق ما جاءت به اتفاقية نيفاشا (كينيا) للسلام الشامل، التي أعطت حق تقرير المصير لشعب الجنوب، بعد فترة انتقالية مدتها ست سنوات (2005 - 2011). هذا يعني أن شعب الجنوب قد يصوّت - وفق استفتاء - إما لصالح الوحدة أو لصالح الانفصال عن الشمال لتشكيل دولة مستقلة جديدة. وهذا يعني أن الاتفاقية تشكل نقطة تحول في تاريخ السودان. وهي التي جاءت بعد إرهاصات محلية وضغوط خارجية، لتنهي حربا طويلة امتدت نحو عقدين من الزمان (1983 - 2002). وإذا كانت قيمة الاتفاقية تكمن في وضع حد للحرب، فمن المخاطرة الاعتماد على ذلك فقط لتأسيس مجتمع سوداني متكامل، لأن التعويل على اتفاقية السلام لتكون حلا جذريا يعكس رؤية قاصرة، وقد يثبت الواقع عدم صدقها. هناك فرق كبير بين الواقع الاجتماعي وأطروحات السياسيين. وتمثل الاتفاقية أحدى تلك الأطروحات، ذلك لأنها تختزل مشكلة معقدة - مثل مشكلة الهوية - في معالجات سياسية - اقتصادية. لذلك يصر هذا الكتاب على المدخل السوسيولوجي لتوصيف جوهر العلاقة الجنوبية - الشمالية، بل لأن جوهر العلاقات يكمن في البُعدين الاجتماعي والهوية الثقافية، وليس في البُعد السياسي أو البُعد الاقتصادي. وحتى على المستوى السياسي، تواجه الاتفاقية عقبات وانتقادات شديدة، ربما تؤثر فيها وفي مستقبل الوحدة، في وقت بدأ العديد من الأصوات يرجّح الانفصال. ولأن الطرح السوسيولوجي الذي يتبناه الكتاب هو المدخل السليم - في اعتقاد الباحث - للتأسيس لحل جذري للمشكلة وفق خيارين: إما تحقيق التكامل والاندماج الاجتماعي/الثقافي بين الشعبين، وهذا يحتاج إلى أجيال وذلك في المدى البعيد؛ وإما أن نخضع مسار الواقع للمعطيات الآنية ولضرورات الواقع الاجتماعي الحالي، فيبرز خيار الانفصال الآن. وهذا الخيار الأخير هو الذي يراه الكتاب ممكنا كاحتمال، لأنه يتعذر تحقيق وحدة مستدامة بين الطرفين في غياب الاندماج الاجتماعي بين شعبين مختلفين في الخصائص الاجتماعية والهوية الثقافية، وفي ظل ضغط السياسات الإقليمية والدولية. وفي حال نجحت النخبة الجنوبية بإقناع شعب الجنوب بالانفصال عبر الاستفتاء، فإنه من الأفضل أن يتم هذا الانفصال بصورة سلمية، وأن لا تضع الحكومة العقبات أمامه، لأن السودان (الشمالي) إذا فقد الجزء الجنوبي بصورة غير سلمية، فإن الدولة الناشئة سوف تشكل من ناحية إستراتيجية خطرا أكبر من حرب الجنوب نفسها، ذلك لأن الدولة الوليدة سوف تتشكل في سياق مختلف عن الشمال، وربما تدير نخبتها ظهرها للسودان الشمالي - وهم يحملون في دواخلهم مرارات الماضي - لتشكيل تحالفات مع دوائر إفريقية وغربية، وربما صهيونية، قد تهدد كيان السودان الشمالي. كذلك ربما تسعى الولاياتالمتحدة، ومعها إسرائيل، إلى دعم هذه الدولة الجديدة وتزويدها بالتكنولوجيا والتدريب والمال والسلاح لتأسيس «إسرائيل إفريقية». ولكن على نقيض ذلك، وكرؤية مغايرة، وبالعودة إلى اتفاقية نيفاشا، ورغم عظمتها وقيمتها في إيقاف الحرب، إلاّ أنها بطابعها السياسي والاقتصادي تظل قاصرة دون تحقيق الاندماج الكامل - بدلا من الانفصال - بين شعب الشمال وشعب الجنوب، فهي سياسيا تشرك الجنوبيين في مركز القرار، واقتصاديا ربما تساعد في تخفيف الشعور بالظلم، غير أن كل ذلك يظل بمثابة تدابير سياسية واقتصادية لا تمس جوهر البناء الاجتماعي، أو تغيّر في طبيعة العلاقات الجنوبية الشمالية، ولا يمكنها تحقيق اندماج الهويات الشمالية والجنوبية بما يحقق الوحدة الوطنية الكاملة والمستدامة. لهذا يرى الباحث أن الأمر يحتاج إلى جهد كبير ودور فاعل من المفكرين والعلماء، من أجل صياغة برنامج وطني للاندماج من خلال آليات محددة، مثل عملية تثاقف مستمرة - من خلال توظيف وسائل الإعلام لهذا الهدف - وتوفير أطر التواصل الاجتماعي، مثل انخراط الجنوبيين في منظمات المجتمع المدني والأهلي في الشمال، وتشجيع التزاوج، وتعزيز التعايش الديني، وانتهاج خطاب ديني يزيل الهواجس والحواجز، وتعديل القناعات القديمة التي ترى في الآخر دينا مغايرا يقصي الطرف الثاني، أو يرى فيه نقيضا لدينه، أو الإثنية التي ترى في وجود الإثنية الأخرى إقصاء أو تهميشا لهويتها. وهذا تحديدا يحتاج إلى وقت طويل بعد إزالة آثار الحرب وتجاوز مرارات الماضي، ولتحقيق عملية الاندماج الاجتماعي الشاملة والتكامل الوطني في المدى البعيد، وهي تعتمد على عملية «هرمنة» للهويات السودانية المتعددة، عبر تفعيل تلك الآليات التي سبق الإشارة إليها، لكن الحكومة تحتاج إلى عدة تدابير للتمهيد لتلك العملية، منها: إحداث تنمية شاملة خاصة في مجال مشاريع البنية الأساسية في الولايات الجنوبية، وفي مجال الخدمات، لوضع أول لبنة في أرضية بناء الثقة بين الطرفين. والتمهيد لعملية الاندماج والتواصل الثقافي، عن طريق الحوار الفكري المتواصل بين النخبة الشمالية والجنوبية، لإزالة الحواجز وتعديل الصورة الذهنية النمطية التي تراكمت عبر التاريخ. على ألاّ يكون الاستفتاء حكرا على الجنوب، بل أن يتم استفتاء الشماليين أيضا، كضمانات بعدم وجود تيار أو قوى شمالية رافضة للوحدة مع الجنوب، تهدد مستقبل الوحدة إذا ما تمت وفق موافقة الجنوبيين فقط. إذن ينبغي أن يكون الاستفتاء للشماليين والجنوبيين، للتأكد من القناعة الشعبية التامة والإجماع الجماهيري حول الوحدة، لأن الجنوبيين قد يرون - ومن حقهم أن يروا ذلك - أنهم قد قدموا تضحيات كبيرة في حرب أهلية طويلة، تستحق هذه التضحيات الانفصال وإقامة دولة خاصة بهم في الجنوب. لكن دون ذلك، فليس هناك ما يضمن أن تتحقق الوحدة المفروضة رسميا من جانب واحد، هو الجنوب. مثل هذه الوحدة من الأرجح أن لا تكون مستدامة، خاصة بعد أن دخل النفط كعامل جديد في معادلة قسمة الثروة، وهو من المحتمل أن يكون عامل صراع داخلي، ويكون كذلك عاملا جاذبا أيضا للتدخل الخارجي، لأن النفط أينما وجد، غالبا ما يكون محركا للأطماع الدولية، خاصة في الدول الصغيرة والضعيفة عسكريا والمضطربة سياسيا. على هذا كله يبني الباحث الدكتور عبده مختار موسى في كتابه هذا الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية، تصور رؤيته البانورامي، أو اقتراحاته للحل الشامل والجذري الذي ينبغي أن ينطلق من هذه الرؤية المتكاملة للسلام، وإلاّ ربما يكون مصير اتفاقية نيفاشا (كينيا 2005) هو مصير اتفاقية أديس أبابا (أثيوبيا 1972) ذاته، من حيث احتمال ظهور نخبة جنوبية جديدة تنتقدها وتنقضها وترفضها، وبالتالي تنقلب عليها، ليعود السودان مرة أخرى إلى دوامة التمرد والحرب الأهلية والتدخل الدولي، وكل ذلك يكون خصما لاستقرار البلاد والتنمية ومستقبل الوحدة، ويدفع الشعب السوداني الثمن باستمرار الدمار والخسارة في الأرواح والموارد. ومثل هذا السيناريو يمكن أن يتم بعناصر جنوبية جديدة لها طرح آخر ربما من منطلق ديني أو أيديولوجي أو كليهما معا، وتدعو إلى الانفصال الكامل. وإضافة إلى النتائج التي يحددها الباحث، فهو يرى كذلك أن من ضمانات استدامة السلام، هو أن تضع الحكومة السودانية في الحسبان، أن وفاة جون غارانغ لا تعني نهاية آيديولوجيا الحركة الشعبية، التي ما تزال النخبة الجنوبية متمسكة بها كمبادئ وأدبيات. فرؤية الحركة المتمثلة في «السودان الجديد» تنطوي على خيارات أساسية، على رأسها إقامة سودان جنوبي مستقل قوامه كونفدرالية من النيليين والاستوائيين لتشكيل «جمهورية أزانيا»، فهل بتوقيع اتفاقية السلام تخلت الحركة الشعبية عن هذا الخيار؟ ربما يكون خيار السلام قد أصبح قويا وواقعيا للحركة الشعبية على أساس أنه مرحلة انتقالية، بمعنى أنه لا يعني تخلي الحركة عن خياراتها الأخرى، بقدر ما يعني تأجيلها وإعطاء فرصة للسلام الذي يمكن أن يحقق لها أهدافها الإستراتيجية بطريقة أفضل مما يمكن تحقيقه بالحرب، خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان الضغوط الدولية على الطرفين تجاه الحل السلمي، إضافة إلى الجانب الإنساني، حيث مات بالحرب أكثر من مليون سوداني، وتم تشريد أكثر من ثلاثة ملايين من الجنوب الذي دمرت الحرب فيه البنية التحتية وتوقفت التنمية، إضافة إلى الآثار الاجتماعية والنفسية للحرب.