يبدو أن كل المؤشرات التي ينوء بها جوف مجريات الأحداث بالساحة السودانية تشير إلى أن انفصال الجنوب لا محالة واقع بعد إجراء الاستفتاء بحق تقرير المصير للجنوبيين، وترك الخيار لهم للاستمرار في سودان موحد أو تكوين دولة وليدة لها كينونتها وخصويصتها واستقلالها المطلق عن السودان القديم، فساد في الوسط الجنوبي والشمالي على حد سواء أن الانفصال هو الخيار الأرجح لأهل الجنوب بالرغم من نبرة الدعوة الحرى إلى الوحدة التي تتبناها حكومة الشمال التي يقودها المؤتمر الوطني بدرجة تصل إلى حد التشنج في الدعوة إلى بقاء السودان موحدا ولم يقف الإحساس بدنو أجل الانفصال وأن مسألته مرهونة بالوقت عند العامة بل سيطر على النخب الفكرية والسياسية بالبلاد حيث أجمع المشاركون في السمنار الذي عقده معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية التابع لجامعة الخرطوم أمس على ان الانفصال واقع واقع، وأن الوقت قد أزف لتحقيق الوحدة الجاذبة التي دعت إليها إتفاقية السلام الشامل في 2005 وألقوا باللائمة على شريكي الحكم لا سيما المؤتمر الوطني الذي حسب وصفهم كأنما لم يحس بخطورة واقع الاستفتاء إلا الآن حيث لم يعد العدة اللازمة لمواجهته وكسب نتيجته . ودفع الكاتب الصحفي والمحلل السياسي دكتور عبد الوهاب الأفندي المتحدث الرئيس في السمنار الذي بحث علاقة الشمال بالجنوب بعد الاستفتاء بحزمة مقترحات للحكومة لتلببها ليكون على يديها المخرج من المأزق الذي دخلت فيه البلاد،وقال إن قضية العلاقة بين الشمال والجنوب بعد الاستفتاء أصبحت القضية التي تتسيد الساحة الآن بفضل التداعيات التي تعيشها الساحة السياسية الآن ورمى باللائمة على الشريكين خاصة المؤتمر الوطني الذي يتعامل مع القضية كأنها اكتشاف اليوم وليس أنها مرسوم ومرتب لها منذ توقيع إتفاقية السلام الشامل في 2005. وواصل إن واقع الحال يقول كأن المسؤولين لم يكونوا مصدقين بمآلات الاتفاقية وأنها ستفضي إلى وضع الكرة في ملعب الجنوبيين ليقولوا كلمتهم إما إلى وحدة أو انفصال وأضاف كان ينبغي أن تبذل الجهود لتغليب خيار الوحدة عند الجنوبيين وإعداد الدرسات العلمية الرصينة التي تبحث كافة التوقعات الممكنة وكيفية التعامل معها، غير أن إنتاج مراكز البحث والدراسات بالبلاد برأي الأفندي كان ضعيفا لا يرقى إلى أهمية الحدث الذي تستشرفه وزاد بأن تناول قضية الوحدة بين الشريكين تبدو عليه علامات الافتقار لأرضية الحوار بينهما حيث يغلب على الرأي العام بالجنوب أن الانفصال هو الخيار الأمثل وأن الجنوب لابد أن يكون مستقلا عن الشمال، يقابل هذا الخط من الخطاب دعوة مشوبة بسحنة تشنج بائن إلى الوحدة من قبل المؤتمر الوطني، غير أن الأفندي يرى أن ثمة خطل وقع فيه المؤتمر الوطني حيث إنه يتعامل مع الجنوب بانفصال عن إنسانه حيث لم تتغير النظرة إلى إنسان الجنوب ودعا إلى تغيير النظرة إلى الجنوب وأهله حتى يتم التوصل إلى الوحدة الجاذبة المنشودة حيث لا وجود الآن لصور التماذج الاجتماعي بين الشمال والجنوب، وأنه ليس هناك جهد بذل من قبل الدولة لإنشاء أندية وخلق منابر للنقاش حول أس القضايا وأسبابها ومن ثم التوصل إلى علاجها عبر الحوار المفتوح غير أن الأفندي يرى أن المحور الأساسي في قضية الشمال والجنوب هو النظرة الاستعلائية من الشمالي إلى أخيه الجنوبي، وقارن بين نظرة المصريين إلى الشماليين في السابق وبين نظرة الشماليين إلى الجنوبيين وقال إن الشمال الآن لا يتفهم طبيعة الجنوب ولا مناطقه أو ثقافته ويتعامل مع هذه الأشياء كأنها غير مهمة وأقر الأفندي بأن ثمة معضلة وإشكالية في العلاقة بين الشمال والجنوب أفضت في نهاية المطاف للمطالبة بحق تقرير المصير الذي صار نصا ملزما بحكم إتفاقية السلام الشامل بالرغم من أنها اتخذته مدعاة للوحدة أكثر من كونه عاملا للانفصال حيث ركز الطرفان وشركاؤهم على وقف نزيف الحرب والوصول إلى سلام أولا ومن ثم إحالة بقية القضايا إلى المؤسسات للتوصل إلى حل بشأنها. وزاد بأن المطالبة بحق تقرير المصير تعني ان الناس وصلوا إلى حد يصعب العيش فيه وقال إن الخطاب الوحدوي الذي تبنته الحركة أو بعض من قادتها في وقت سابق قبل موت جون قرنق اصطدم بإشكالية ارتباطه بتغيير هيكلي في بنية تكوين السودان، وأن إتفاقية السلام الشامل خلقت حالة صدامية بين طرفيها حيث جعلت كل طرف منهما يسعى لضم الآخر إلى جانبه فتحولت ساحة الحرب من الميدان إلى الساحة السياسية ومن بعد ذلك ( الحشاش يملأ شبكتو). وقال إن جون قرنق كان يخطط لاكتساح الانتخابات ومن ثم التوصل إلى رئاسة البلاد ولو تم ذلك يقول الأفندي لحسمت مسألة وحدة الجنوب مع الشمال غير أنه الآن أصبحت الأجندة تصادمية حيث هيأت التوترات المتراكمة والآنية المواطن الجنوبي نفسيا لاختيار الانفصال لدرجة أن الوحدويين من صفوف الحركة الشعبية أصبحوا يخافون من الجهر بقناعاتهم خوفا على أنفسهم وتغولتت الانفصاليين . وقال الأفندي إذا ما حدث الانفصال هناك خطوات يمكن أن تسبقه أن تستمر بعده من شأنها تعزيز العلاقة بين الطرفين على رأس هذه الخطوات التواطؤ على تهدئة الخطاب بين الطرفين وأن تكون منطقة أبيي جسرا للتواصل بين الشمال والجنوب حسب بنود الإتفاقية غير أن العكس حدث تماما إذ أنها المنطقة الوحيدة التي حدث فيها نزاع مسلح بين الطرفين منذ توقيع إتفاقية السلام في 2005 .وقال الأفندي لو أن الشريكين يتمتعان بشيء من العقل لبدآ في تطبيق الجنسية المزدوجة لمواطنيها وأن يجعلا لأبيي وضعيتها الخاصة وأن تكون مفتوحة للجميع لتشكل منطقة تلاق وتنافس بين الشريكين في بسط مشاريع التنمية بها. واعتبر الأفندي النزاع والخلاف حول الديون والحدود والجنسية المشتركة يمكن أن يتم تحويله إلى تعاون حيث يرى ان الحدود لا تشكل حاجزا أو عائقا بين الدول حيث إن للسودان حدودا مع دول عديدة لم يحدث بسببها اختلاف و« مافي زول شغال بيها» ولايعتقد أن يهتم الشمال والجنوب بها وأن إيلائها قدرا من الاهتمام مثل الذي يعكف عليه الشريكان ما هو إلا مضيعة للوقت والجهد ومدعاة لخلق بؤرالتوتر والخلاف، واعتبر رفض الوطني للجنسية المزدوجة لا يعدو كونه ورقة ضغط على الحركة ويرى الأفندى أن الوطني لو قبل بها فهي خطوة في اتجاه الوحدة العملية وأشار إلى ان الشريكين يمكن أن يتعاملا بذكاء مع ملف الديون حيث إن الكل يعلم أن الغرب وأمريكا لن يعفيا ديونهما على حكومة الشمال طالما أن النظام الحاكم الحالي باق على سدة الحكم في وقت يعتقد الكل أن الغرب وأمريكا لن يتوانيا في إعفاء نصيب الجنوب من الديون لأجل هذا يرى الأفندي أن تتم صفقة بين الشريكين يتم بموجبها تحويل كافة الديون إلى الجنوب ليضمن إعفاءها والخلاص منها. وزاد بأنه كلما كانت اللهجة تصالحية بين الشمال والجنوب وفيها احترام للمشاعر وأن يعلن الشماليون وقوفهم مع مصلحة الجنوبيين في حالتي الوحدة أو الانفصال فإن ذلك من شأنه أن يغير وجهة نظر الجنوبيين للشمال وأهله، واعتبر أن ذلك المسلك نواة لمشروع لإعادة بناء جدار الثقة المفقود بين الطرفين وتفعيل التعاون ومشاريع التنمية . ومن جانبه يقول إسماعيل حسين من معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية إن اتفاقية السلام الشامل حملت بين جيناتها عوامل انفصام شخصية فهي تدعو للوحدة وتعمل على بسط أسباب الانفصال في آن واحد حيث تم التوقيع على تحقيق الوحدة الجاذبة دون تحديد لتلك الجاذبية المقصودة، وزاد أنه منذ توقيع الاتفاقية تم تكوين منبر السلام العادل الذي قاد الدعوة لانفصال الشمال عن الجنوب وليس العكس بعد أن استكثر القائمون والمنضوون تحت لوائه على الجنوبيين ما تحصلوا عليه من حقوق منحتها لهم إتفاقية السلام الشامل وزاد بأن الاتفاقية كانت ضعيفة في حد ذاتها حيث صممت لتمكين كل طرف من الانفراد بما يليه، وقال إن الوحدة أو الانفصال أصبحا بيد المؤترم الوطني والحركة الشعبية وأن الحركة ظلت تعمل لنيل إحدى الحسنين إما التوصل إلى وحدة بمفهوم جديد قائمة على إعادة صياغة السودان وتكوينه أو الانفصال والانفراد بالجنوب . فيما اعتبر الدكتور بمعهد الإدارة العامة ابراهام كوت أن مشكلة الجنوب اكمن في العقلية التي يتعامل بها الشمالي مع رصيفه الجنوبي علاوة على عامل الفارق في اللغة بين الطرفين، وقال إنه لا ينفع التباكي على أخطاء الماضي وعلى الجميع الالتفات إلى المستقبل وحذر من مغبة سوء استخدام الجنسية المزدوجة حال تطبيقها، وأكد وجود أزمة فقدان ثقة بين الشمال والجنوب وأن مشكلة الجنوب والشمال لا تحل بترؤس جنوبي للجمهورية ودعا إلى تبني علاقة بين الطرفين قائمة على حسن الجوار وتبادل المنافع . أما الدكتور عدلان الحاردلو فنفى قناعة شريكي الحكم بالوحدة واعتبر توقيع اتفاقية السلام استراحة محارب وزاد أن كل طرف يحارب دفاعا عن قناعاته وأهدافه واستراتيجيته، وقال إن مقترحات الأفندي تفضي إلى الوحدة بيد أنها ستكون وحدة بذات الطعم والمذاق القديم . وتساءل أستاذ العلوم السياسة بجامعة الخرطوم في مداخلته وتعقيبه على مقترحات وآراء الأفندي بعد أن أوصل رؤيته بأن الشريكن أوصلا الشعب إلى حافة الهاوية تساءل عن استمرار نهج التنازالات الذي كان سمتا غالبا في حسم كل الخلافات التي تنشأ بين الشريكين في الفترة السابقة أم أنه سيتوقف بعد الانفصال مما يعني رجوعهما إلى مربع الحرب .