عقب الإفراج عنا بعدة أسابيع، تم إبلاغ كل منا بواسطة ورقة رسمية من جهاز الأمن تأمرنا، بصفتنا متهمين، بالمثول أمام محكمة الثورة العراقية. حقيقة كان الأمر كابوساً مرعباً بالنسبة لنا ولسنوات عمرنا الغض الذي بالكاد تجاوز العشرين. وكانت محكمة الثورة العراقية برئاسة طه ياسين رمضان هي الغول الذي يخشاه كل عراقي في ذاك الزمن، فهي محكمة عسكرية يتندر عليها العراقيون بنكته سوداء تقول إن السعيد هو من يخرج من هذه المحكمة بحكم الإعدام فقط! في الصباح الباكر تم اقتيادنا إلى المحكمة في أحد أحياء بغداد، ومن ثم حشرنا في زنزانة المحكمة الضيقة التي تعج بالمتهمين، وكان الحاجب العسكري ينادي على كل قضية حسب دورها. ولا أنسى أبداً جندي الطيران وكان شاباً كردياً يافعاً، والذي أُدخل ويداه مكبلتان خلف ظهره إلى داخل المحكمة، إذ كانت قضيته تسبق قضيتنا مباشرة. ولم يمض الشاب المسكين أكثر من ثلاث دقائق داخل المحكمة وتم إخراجه لنا في زنزانة الانتظار. وسأله بعض زملائنا في لهفة عن الحكم فأجاب ووجهه يرتعش كله «إعدام»! تماسك أحد زملائنا حينما طلب الشاب المسكين سيجارة، فقام بإشعالها ووضعها في فم الجندي البائس المكبلة يديه إلى ظهره. وتم النداء على أسمائنا فأدخلنا إلى قاعة المحكمة، ولم يبدد غياب طه ياسين رمضان عن رئاسة المحكمة من مخاوفنا، إذ جلس على منصتها ثلاثة لواءات من الجيش العراقي بملابسهم الرسمية ويتوشحون بالعلم العراقي على صدورهم، وإلى جانبهم ممثل الاتهام، وكان برتبة العميد يرتدي نفس زيهم. ولم يتسع قفص الاتهام لنا، إذ كان عددنا يقارب الخمسين طالباً فوقف بعض منا خارج القفص. وراح ممثل الاتهام يتلو خطبة مطولة تناولت ما ارتكبناه من جرم، احتلال سفارة دولة أجنبية.. تعريض الأمن العراقي للخطر.. المساس بهيبة المهيب أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية وغيرها. والتفت القاضي اللواء الجالس على المنصة نحونا وسألنا إن كنا نرغب في توكيل محام للدفاع عنا. وعلى الرغم من رهبة الموقف تطوع بعض منا بالحديث، وعلى ما أذكر كان صديقنا جمال محمد إدريس وبعض الأخوان من ضمنهم شخصي. وشكرنا في البداية المحكمة على طلبها بتعيين محامٍ واعتذرنا عن هذا الأمر، كما شكرنا للحكومة العراقية موقفها من استيعاب مئات منا بالجامعات العراقية، وأوضحنا أننا لسنا في خصومة مع الحكومة العراقية، ولكننا في خصومة مع نظام مايو الذي كمم الأفواه وسلب الحريات في بلادنا..!! رفعت الجلسة للمداولة، وأثناء خروجنا من القاعة لمحنا أحد الإخوة السودانيين الذي كان يشغل منصباً رفيعاً في القيادة القومية لحزب البعث الحاكم يدخل إلى غرفة القضاة الجنرالات دون استئذان، وقد وقف القضاة الثلاثة بكل احترام لحظة دخوله. وبعدها بربع ساعة تمت إعادتنا لقفص الاتهام، وأمام دهشتنا وقف الجنرال العسكري رئيس المحكمة ليتلو حكماً ينص على حفظ القضية والإفراج الفوري عن كافة المتهمين..!! ومما لا شك فيه أن الحكومة العراقية والحزب الحاكم في العراق في ذلك الوقت لم يكن متحمساً للتعاون مع نظام مايو على خلفية أحداث 19/ يوليو/1971م، ولعلَّ هذا التوجه كان طوق النجاة الذي أخرجنا من ورطة دخلناها طائعين بكل ما في سنوات عمرنا من صدق وطني ورعونة وتهور كادت أن توردنا مورد الهلاك..!!