مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجلست أبحث بين أضلعي عن عشقي القديم، كان اسمها قرة العينين
لو أني جئت مرة أخرى ما دخلت من ذات الأبواب
نشر في الصحافة يوم 28 - 08 - 2010

مدينتي التي اعرف ثم أعشق تعرفني تماماً ، فيها حدث لي الكثير ، و قدمتني للناس ، وفتحت لي أبوب ، و أجلستني على صدرها بترحاب ، و أتاحت لي فرص أوسع . جئت باريس أول مرة و مايو في العام 1977 تبقى منه القليل ، ذهبت في أوله بعد أن أخذني من عوالمي التي لم تمتد ابعد من حلمي الأول ورغم أنه جاهد كثيراً ليكون حلماً في اتساع الأفاق التي بعدها ما عرفت لها سواحل . جئتها وصيفها يناصف الأشياء ، ظل أشجارها الباسقات في الشارع الأشهر (الشانزليزية)الممتد من بعد وقبل قوس النصر و حتي ساحة المسلة الفرعونية وقصر اللوفر ، ما أن ينتصف النهار حتي يزاول بين الأوقات كلها . مدينتي الأحب فيها وخطواتي الأولي تمشي بلا عنوان ذهبت أسكن أولا في أحيائها القديمة ، فندقي كان لا يبعد كثيرا عن أشهر أحيائها الأحدث ( مونبرناس ) ، و إذا عبرت حديقة ( لكسمبورغ ) أكون قد اندمجت في الحي اللاتيني في المكتبات في الزحام ، والناس الناس من أي مكان كانوا أهلها وأهلها الأقدم . في باريس لا تستطيع أن تقول السكان الأصليين كما تقول عن مدن مثل سدني في استراليا أو بعض مدن البراري الأمريكية ، باريس مدينة الكل بلا تعنت ، مدينة النور في قبولها للآخرين تتقاسم مع أهلها المطر والثلج والزحام ، وانتظار أنيق للحافلات وتزاحم أدفئ وأجمل مع تدافع مقبول في القطارات تحت الأرض .
باريس التي عرفتها سنواتي الأولي جئتها بعد أن توجت ملكا للاندهاش في مدينة ( كان )عاصمة السينما العالمية صيفي ذاك العام و في مايو و الشاطئ (اللازوردي) اختلف ، وضعت في الصباح الباكر قدمي الحافية علي الرمل ، انغرست بكل لطف وقوة ، وأدخلت بعدها يدي تبحث في الماء عن قواقع صغيرة أخذها معي أقارن بينها والحسن في الذي كنت أعثر عليه في الصباحات أمام بحر ابيض ، أعود في الفجر أسمع حديث الطير ، الطير يحادث بعضة ، وتحدث الكبري صغارها أن الصباح جاء بالبشريات فانهضوا ، وصباحي الأول في مدينة السينما( كان ) ومهرجانها الثالث والثلاثون يعطيني دفقه أمل كبري ، كان فلم (عرس الزين )يسبقنا ، جئنا متأخرين ، وصلنا ذات يوم عرض الفيلم الأول في أسبوع المخرجين . وهو وأحد من أهم تظاهرات المهرجان ، جلسنا في الصفوف الخلفية وأمامنا فنانين .من شمال الوادي نسمع تعليقات وضحكات ، انتهت الى تصفيق حار وتحايا وقبلات ، ثم خرجنا من دار العرض في غير حالنا ، بعدها تغيرت الأمسيات والصباح ما عاد عندي يبدأ في ساعاته المعلومة، أوصل ليلي حتي مطلع الفجر، والفجر فيه من بقايا الأنجم ،تظل تطرق باب غرفتي المطلة علي البحر بمائه الأزرق يكرس عندي مشاعر ما عرفتها ، ألتقيت وتعرفت يومها علي نجوم الكون أهل السينما ، في صيفي ذاك في (كان ) ، جاء المخرج والممثل الأمريكي ( ودي آلن) يحمل شريطة السينمائي الأروع ( نيويورك نيويورك ) بالأبيض والأسود رغم سطوة الألوان يومها ، حتي عرس الزين كان بالسينما ( سكوب و تكنيكلور ) لكنه تفرد في ذاك الشريط الإنساني .وبعدها بسنوات التقينا في نيويورك ، أحضر لقاء مع الرابطة الأمريكية للمسرح وهو لا يزال كان يعشق المسرح ويهوي اللقاء المباشر مع الجمهور ( ودي آلن ) عشقت بعض أفلامه وأدائه مشخصاً متميزاً .
باريس التي جئتها بعد (كان ) قالت مرحبا ونعم ، سكنت أول أمري في فندق صغير في شارع متفرع من الشارع الذي يأخذك من (مونبرناس ) العمارة والصناعة والمبنى الشاهق ، لا تزال بعض أحياء باريس تحافظ علي طراز البناء الرفيع والمباني الحجرية المزينة بالتفاصيل والتماثيل ، و يمتد ذاك الشارع إلي ما بعد المدينة الجامعية من ( دانفيرروشا )، فيه المركز الثقافي الأمريكي ، العام ذاك تعرفت علي بعض مبدعي أفريقيا يعطون دروساً في الرقص والعزف ، طبول ألوانها وأحجامها تتغاير من حيت أتت أصولها . دخلت المبني مرات ومرات أعجبتني اللوحات علي الجدران .هذا ما نحاول أن نفعله الآن في مركز مهدي للفنون ،أن تدخل المركز وتأخذ من اللحظة الأولي لك فيه إدراك أن الثقافة تمشي بين يديك وأنت تقصد مركزها تحيط بك وأشواقك للمعرفة التصاوير و ألوانها وأشكالها توحي لك بالكثير ، الحائط الخارجي للمركز كما كنت أحلم به في مدينة باريس استطاع أن ينقله من فضاء حلمي الملون الفنان عادل كبيدة ، يحكي في ألجداريه الكبري في مركز مهدي للفنون عن سودان واحد ، ويخرج منها مجسم تلمع فيه قطع المرايا وان تشظت إلا إنها تعكس بكل الصدق وجهك، وتصبح أنت الحاضر بطبائع البشر جزء من اللوحة الجدارية، تشكل فيها وتعيد من الرسم والتلوين بانتقال حركتك كيفما تشاء . هكذا كنت أرى الأمر عندما أقف كل وقت أمام اللوحة الجدارية الكبرى لمركز مهدي للفنون في وسط الخرطوم ،وهي عند بعضنا الرقم الأكبر في المساحة طولا وعرضا ، ذات الأحلام من باريس التي جئتها أحمل معي بعض انتصار تحقق يومها للسينما العربية و الأفريقية ، وكان خالد الصديق يومها قد جاء لمدينة السينما في مهرجانها العالمي ( كان ) يحمل مثلي فلمه الثاني بعد الأول ( بس يابحر ) حصل ( عرس الزين ) علي جائزة أول مهرجان للفيلم العربي في باريس وقالت لجنة التحكيم بعدها أن الفيلم ( استطاع أن يعبر بصدق وأمانة عن واقع شعب ) .جئت باريس بعد ( كان ) أحمل معي أحلامي الخاصة بعد أن شهدت ما لم أتخيله في مشواري الصباحي بين دار الإذاعة و الحيشان الثلاثة ووسط المدينة حافي كما قلت قبلها ليس عندي إلا آمال و ما بعدها من أحلام . مشيت في الشاطئ اللازوردي مع الذين كنت أقف في صفوف السينما في أم درمان انتظر أن أجلس علي مقعد متقدم أقرب إلي شاشة العرض ،أشاهد ( صوفيا لورين ) وكانت يومها في ( كان ) ومهرجانها تجاورني في الجلوس تتحدث بصوت خفيض لكن من ولعي بها أكاد اسمع همسها تحادث أخريات، و أنا أركز النظر والبصر والعقل ، أفهم الذي أقدر عليه و أقبل ما أظنة تحكي عن فلمها في المسابقة الرسمية ، ويحقق حلمها أيضاً ، كانت مثلي تأتي للمهرجان الكبير و الأشهر والأهم بحلم أن تحصل علي الجائزة الكبرى (السعفة الذهبية) ، وكنت وحلمي القصير نرقد في مواجهه البحر يوميا ، أحدث نفسي عن مشهدي التمثيلي الأول و الأستاذ الرائع السر قدور ، يحدثني عن المشهد، كانت البروفات في حدائق التلفزيون مكان الأستوديو الكبير الآن ، أدخل وأنا أراجع في الجملة ألف وألف مرة ، في الطريق حفظتها ولم أفهمها ، كما قال لي معلمي بعدها
( لا تحفظ يا ولد ، أفهم الموضوع،بعدين الكلام يطلع من عندك سليم وتام .. تمام فهمت ؟ )
وكنت قد فهمت منه أن الممثل غايته في التشخيص ،أكتمال المشهد بكلياته مع الشخوص الأخرى ، لا تفرده بجملة ، لهذا فن التمثيل هو فن الناس فن الجماعة ، و ( صوفيا لورين ) بشعرها وعيونها وكل تفاصيل حسنها في مواجهتي نتساوى اللحظة تلك في الحضور بين الناس ( زي زيها ) تجلس في ذات المطعم ، أتقدم وأصافح ، وتمسك بيدي و أطير من مكاني في الشاطئ الفرنسي الساحر إلي مكاني في ( الكنبة ) في سينما الوطنية أم درمان ، جالس في الوسط تماماً أتحاشي أن تحجب صورتها في الحقل الكبير والزهور تحيطها ،وفيلمها ذاك كان حكاياتي للصبية أمام دارنا بعدها أعود أعيد من تكرار الحكاية ، الخص الفيلم في أبتسامة فرح من جنة شفتيها . و هي هنا في ( كان ) تمسك بيدي ثم تسألني عن بلدي ..من أين أنت ؟؟ وهل هو فيلمي الأول ؟ وكيف حال السينما عند أهلي ؟ ثم تسأل عن كيف كانت رحلتي من أفريقيا إلى ( كان ) ؟ . قلت وكنت أفصح عن بعض إدراك ينازعني في الصمت لأسمعها صوتاً مباشراً يدخل أذني ، الحديث والإجابة لما سألت ، أطيل فيها علها تمسك بيدي أكثر ، تحدثت وعيوني تلاقي كل خطوط الضوء الخارج من أخضر عينيها ورمشها يضايقني، يغمض العين فتنغلق فرجة النور، لكن البهاء والضوء من قوته وعزته رغم رمشها المنسدل يتدافع ويلمسني لا أنظره وهو ينظرني ، تركتني في تفاسيري لجمال عيونيها ومضت ، دخلت في غابة من الناس أظنهم كلهم كانوا في انتظارها ثم عادت لتلتفت تناديني، وذهبت من مكاني قبل أرجلي ، رجعت إلي جوارها، قدمتني للآخرين . أعلم أنهم من نجوم السينما لكني ساعتها لم انتبه للأسماء ، أعرف الوجوه هي ذاتها التي كانت تحبسنا لساعات في دار السينما تلتمع على الشاشة الفضية وفي الاستراحة نعود لقصب السكر و بعض من البطاطس الحلوة نأكل ونستذكر وننادي بعضنا بصوت عال يُسمع من هو في الدرجات العليا من السينما ، أننا هنا نتشارك رغم اختلاف المقاعد في سقف السينما ونجومها... والساعة أنا وفي (كان )بينهم جالس مثلي مثلهم أقلها في إحساسي ، لا فرق ، وليس عندي غير فيلمي الوحيد هو الذي أخذني من بين مشقاتي اليومية ، كانت الأحوال قد تحسنت أكثر ، صارت لي وظيفة ، والآن سحر الفن الذي أسرى بي من تلك الأماكن الأحب والتي أعطتني قدرات اكتشاف ،رغم بعد المسافة في الخيال وفي المكان واسعى لاتصال الزمان . جئت باريس يا سادتي وحيداً تنتظرني في عتباتها الأولى صديقة التقينا في ( كان ) تعمل في إدارة المهرجان، تروج للسينما مع مؤسسة السينما الفرنسية الأقرب إلي وزارة الخارجية ، وكنت يومها أستعجب في الربط بين الخارجية و ( السيتباك) و( الأودوكام ) ، كانت (الأودوكام )تعمل علي نشر اللغة الفرنسية في البلدان غير الناطقة بها و بشكل خاص في أفريقيا الشرقية والجنوبية ، و بعدها بسنوات أيام عملي في مؤسسة الدولة للسينما أنتجت المؤسسة ثلاثة أفلام قصيرة بدعم فرنسي .
باريس يا سادتي ما تركتني وحدي في نهاري ذاك ، دخلت مبنى اليونسكو أبحث في الدهاليز عن مكتب سيدي الراحل المقيم فعلا السفير بشير البكري، كان يومها الرجل الأقوى و الأفهم في المبني ، و المنظمة تخرج من أزمتها الكبرى ، يوم نافح أحمد مختار امبو وحده القوى الكبرى ، وقف ولا شك سيدي بشير البكري معه ، جئتها اليونسكو أحمل حلمي الآخر بان يصبح السودان عضواً في الهيئة الدولية للمسرح والمجلس العالمي للموسيقي ، تكليفي كان مزدوجاً ، أستاذنا الجليل الدكتور خالد المبارك، عميد كلية الموسيقي والمسرح، يومها و أول رئيس لمكتب الهيئة الدولية للمسرح بالسودان ، وشاعرنا الراحل المقيم حقاً الدكتور محمد عبد الحي ، أحاول أن أراجع الأشياء و الأفعال أبحث عن أسباب طلب ذاك التكليف ، كنت يومها أكتب في صحيفة الأيام عمود قصير ،سنوات عهد مايو المتوسطة قبل الخواتيم بكثير ، وأعمل في مصلحة الثقافة المبني الجميل بأشجاره علي شارع الجامعة، وسألت النفس هل يمكن أن تكون المشاركة في مهرجان ( كان ) السينمائي الدولي هي بنشاطي الوحيد ؟ وإجاباتي كثيرة ، أولها لماذا لا أعرض فيلما سودانيا ً آخر آخذه معي وقد كان ، استأجرت قاعة في قصر المهرجان القديم -الآن أنتقل المهرجان إلي قصره الجديد- تعبر الشارع الأشهر في المدينة ، المسافة بين القصر وشاطئ البحر صارت أقرب ، وعرضت فيلم الراحل المخرج والملون حسين شريف ( انتزاع الكهرمان ) وكان بالفعل أول و آخر شريط سينمائي سوداني قصير يعرض في المهرجان العالمي ، أخذت الشريط بعدها وعرضته لأهل اليونسكو ، كانت تحتفي بمدينة سواكن كواحدة من المدن التاريخية ، سألني سيدي بشير البكري
( ماذا عندك ؟ )وكان يعشق الطيب صالح
قلت:( ارغب في أن أقدم أوراق أنضمام السودان للهيئات الدولية في حضرة اليونسكو .)
سألني بعدها عن بعض أساتذتي ،فقلت ما أسعده ، أخذني بنفسه الي المكتب الخاص بالهيئة الدولية للمسرح( ITI / يونسكو )، وقف الجميع حباً و إعجابا ، سألهم عن أحوالهم ثم أضاف ضاحكاً :
( هذا ممثل جيد من أهلي، يأتيكم يحمل رسائل أهلي، نرغب أن ننضم إليكم )
أنظر وتأمل كيف اختار التعبير الأدق (نرغب )أدخلني معه في أطار علمه وأدبه ، وقد كان في الظهيرة أن السودان أقرب إلي إعلانه عضوا كامل الانتماء ، الشهر الماضي كنت في باريس انتظرتني السيدة ( بيتيا ) ،و التي تعمل سكرتيرة تنفيذية للهيئة الدولية للمسرح ، أخذتني إلي مكتبي الجديد داخل مبني اليونسكو ، مشيت في ذات الطرقات ، دخلت الدهليز الذي يفضي بعدها للساحة الخلفية للمبني ، حدثتني في الطريق راجية أن تكون الإضافات التي طلبتها للمكتب قد تم تنفيذها كما أرجو ، كنت قد طلبت إضافة صور عن عروض مسرحية عالمية ، وكنا قد كرمنا العام قبل الماضي الصديق ( أوقستو بوال ) المسرحي البرازيلي، الذي رحل بعدها بشهور ، أحببت أن أضع صورته إلي جوار صورة لأستاذي الفكي عبد الرحمن في ذات زاوية صورة الراحل سعد الدين وهبة ، تركت مساحة بينهما ، لكني كنت أنتظر وصولي المبكر لألتقي ببعض الشركاء الجدد لنا ، كلفنا سيدة وخبيرة في برامج التمويل لتشرف علي إبتكار وسائط جديدة للتمويل ،ولما كان التمويل و الموازنة العامة جزء من مسئولياتي كان لابد أن التقي في الظهيرة وعلي الغداء بأحد مندوبي شركات التمويل، ونحن نطرح مشروع الأكاديمية العالمية للمسرح ، برنامج لقاءاتي ذاك الصباح وفي المساء فيه الكثير وكنت أغيب عن باريس و اعود لمكتبي والسكرتارية تعد برنامجي ، أتركها المدينة التي أحب الي مدينة أوربية أخرى، أرأس اجتماعاً للمجموعة الأوربية في مدينة ( فولهم )الالمانية ، ثم أعبر الحدود إلى لاهاي في هولندا أشرف علي مشغل علمي عن استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام أكثر من أربعين دارسا من أنحاء أفريقيا والعالم . دخلنا ( قصر العدل ) وتركنا في طرقاته وقاعاته الفخيمة، أصوات طبولنا وأجراسنا ومشيت علي السجاد الناعم ،أرجلنا تعفر فيها وتترك آثارها . حدثتني السكرتيرة تؤكد ما انجزت في غيابي
(تركت البارحة لي ورقة وأخري ، وما فهمت إلا الجزء الأخير، تكتب بحروف ما عرفتها ، ما هذا الذي تكتب ؟ الجزء الأول واضح تركت لك نسخة منه لكن أرجوك اسمح لي هل تترجم لي ما كتبت إذا كان له علاقة برسالتك الي البنك في ( بيرن ) أطبعها وأن كنت أرى أنها واضحة وتأكد علي تحويل جزء من الوديعة لحسابنا الجاري في باريس )
وضحكت أولا وحدي وبعد أن شرحت لها أنني كتبت ما كتبت بين صحوي وغير ذلك ، أفهمتها أنني بعد أن أعددت مسودة رسالتي للبنك في ( بيرن سويسرا ) وتركت لها أن تكتب أرقام الحسابات ولا حظت المسافة الفارغة أمامي فكتبت ما بين الشعر والقصة والحكاية وكل شي ، لا باس أن أترجم لكي ما هناك و قرأت ترجمة الكلمات تخونها موسيقي اللغة وتفقد حسها عند انتقالها من العربية للإنجليزية
( لو أني جئت مرة أخرى ما دخلت من ذات الأبواب لجلست علي أطراف العتبة الأولي المفضية الي أعلي الدرج ، فيها خلاص روحي . وجلست أبحث بين أضلعي عن عشقي القديم، كان اسمها قرة العينين ،وعطرها الباذخ في جمال السماء ،ساعة ميلاد المطر زخات زخات يتنفس المطر ،كانت لي و ما عادت كذلك وماعت لها روحي وكفي )
وما ضحكت السيدة الجليلة التي تعمل معي في أسبوعها الأول، سكرتيره تنفيذية تجيد الإنجليزية والفرنسية والأسبانية ،و أظنها قبل نهاية ولاياتي نائباً لرئيس الهيئة الدولية للمسرح ستفهم العربية وبعض من عربي جوبا وقليلاً من غناء أهلي في كاس و الضعين و رطانة الدناقلة و الهدندوة .
سألتني كل يوم نلتقي حرفا وقلت بل عشرة وما كان ذلك كافيا لا لها ولا للغة ولا لحسن الظن في اللسان المزدان بالذهب والفضة ومعادن آخري لا تحصي.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.