للأقدار مفارقاتها، ففي الوقت الذي كنت أعد للكتابة في موت هشام أمين محمد سعيد (03 سنة) الفاجع قبل نحو عام في داخل غرفة عمليات احدى المستشفيات الخاصة بالخرطوم إثر حادث حركة مؤسف، فيما ساهمت اجراءات إدارية فنية بطيئة وخاطئة في التعجيل برحيله، إذ تطل على المجتمع السوداني مؤخراً فاجعة كارثية بفقدان جامعة الخرطوم لإبنها محمد موسى عبد الله بحر الدين (42 سنة) وأحد طلابها النابغين بكلية التربية وقد وجد مقتولا وممثل بجثمانه على نحو لا يشبه الخلق السوداني الأصيل. لقد أعادت الحادثتان على اختلاف ما بينهما من زمن ووسائل، اعادتا الى الذاكرة تداعيات مشبعة بالحزن والغضب معا. لقد فقدت الجامعات السودانية في السنوات الاخيرة اعدادا كبيرة من طلابها في حوادث مماثلة، وفي سياقات كارثية، فمن لا يذكر احداث العيلفون بمعسكرات الخدمة الالزامية وقد فقدت البلاد فيها طلاباً كثر، بل من لا يذكر من قتلوا في النزاعات الداخلية المسلحة ومن كل الأطراف في الجنوب ودارفور والشرق وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. لقد كانت جرأة ب.الطيب زين العابدين مباركة في وقت مبكر حين وصف ما كان يحدث في الجنوب من موت مجاني ب (محرقة الجنوب) في سياق الدعوة الراشدة الى انهاء الحرب، والانخراط في العملية السلمية. من لا يدري أن شباب اليوم في المدارس والجامعات هم قادة المستقبل، وزعماء الغد؟ ومن لا يدرك ان حمايتهم وتوفير الفرص امامهم بالتدريب وبناء القدرات هو صمام الأمان لوحدة البلاد واستقرارها وتحديث امكانيات المواطنة فيها؟ ومن لا يفهم ان السبيل الى كل ذلك انما يكتمل بتسهيل السبل أمام الشباب للخروج من ضيق النزاع الى سعة التعايش والسلام والانتاج؟ حتى أولئك الذين لا يدرون أو لا يدركون، أو لا يفهمون أو لا يرغبون في ذلك فانهم صاروا اليوم محاطين بنصوص اتفاقيات السلام والدستور الانتقالي، ولا سبيل الا الخضوع لاحكامهما تأسيسا لبناء البدائل الاكثر انفتاحا على الآخر والتعايش معه ثم العمل معا لتحقيق الوحدة من خلال تنوعنا السوداني العريق. على تلك الخلفية يبدو انه علينا العمل على ايقاف كل السبل المفضية الى اغتيال الشباب لما في ذلك من اغتيال لأحلام المستقبل والغد، فماتزال الاسر تعيش كوابيس فقدانها بنيها بوسائل مختلفة وفي ظروف استثنائية مليئة بالغموض والاهمال والقصد الجنائي، ولا تجد تلك الأسر المنابر القانونية الطبيعية للمعرفة او المتابعة او الوصول بالحالات المختلفة لساحات العدل والقضاء العادل. في هذا السياق فان أسرة عمي محمد خاطر ماتزال تحتفظ ببلاغ محاصر عدة سنوات ولم تكتمل اجراءاته القانونية في مواجهة مجهول قتل ابنها الراحل المهندس الزراعي عبد العظيم والذي انتشل جثمانه من على ضفاف النيل الأبيض بمنطقة الكلاكلة ود عجيب. إن أكثر ما يجعل مثل هذه الاغتيالات عميقة الأثر في المجتمع، أن القتل نفسه يثير مجدداً العلاقات الوجدانية والعاطفية التي ربطت ما بين القتيل وأسرته والمجتمع العريض، خاصة في المجتمع السوداني الذي لا يؤمن البتة وفي الاساس بان القتل سيحل مشكلة، او يفتح الطريق لانجاز عمل ذي قيمة. ان أميز المقولات المأثورة شعبياً وهي تؤيد هذا الاتجاه قولهم (الشين شين مكانو...) أي ان الانسان مهما بلغ سوؤه فان الأسوأ من ذلك يوم فقدانه بالموت، فما بالك ان يكون الفقد لشخص عزيز يرجى منه كثيراً وأن موته جاء غيلة وبوسائل غامضة وغير انسانية، فذلك شين الشين. عرفت الفقيد هشام في سياق معرفتي اللصيقة بأسرته، فهو ابن شقيق الراحل بشير محمد سعيد استاذ الاجيال في مجال العمل الصحفي، وكان ضمن مؤسسي صحيفة «الأيام» وأول رؤساء تحريرها مع تباشير استقلال السودان. ولعل اكثر ما جعل ارتباطي عميقا «بالايام» ان اول مقال له صدى في حياتي المهنية قد تم نشره بصحيفة «الأيام» (4791). عندما توفي الراحل بشير محمد سعيد كنت ضمن لجنة تسيير تأبينه واحياء ذكراه، وفيما بعد تابعت مع أبنائه امكانية نشر مدخراته المعرفية الفكرية منها والصحفية وكان هشام ضمن تلك الانشطة. كان هشام يتميز بروح الدعابة والمرح والانطلاق وظل من حوله ينظرون اليه كمشروع مهندس ناجح للمستقبل. نعم الموت حق ومما ضاعف الحزن عليه ان حادث الحركة الذي تعرض له لم يعالج طبياً بما يعزز فرص انقاذ حياته، ولعل تقرير المجلس الطبي وهو يؤكد ان ثمة أخطاء ادارية فنية توجب فرض عقوبة على المستشفى المعني، قد يفتح المجال امام اسرة الراحل لمتابعة حقوقه المشروعة من على منصة القضاء. اما العبرة فستظل في القول ان ما حدث للراحل ليست حادثة مستقلة بل ترد في صميم الاخطاء المهنية القاتلة التي هي أشد ما تكون حاجة الى المعالجة وقد اصبحت اليوم ظاهرة تقضي على المواطنين، نتيجة تزايد انعدام الخبرة والكفاءة وسط الاطباء والكوادر الطبية الأدنى بمقاييس موضوعية وفي تزايد الاحداث القاتلة، في وقت نحتاج الى صحة الجميع وبناء قدراتهم. في صعيد متصل برغم الوشائج الأسرية العميقة التي تربط بيني والفقيد محمد موسى، الا انني لم التقه الا جثماناً مسجى أمام المشيعين في مشرحة ام درمان، فكان الفقد مضاعفاً. ان والده الفكي موسى مع ارتباطه بالارث الديني، فهو رجل شجاع وحكيم روى في تأثر كيف انه كان ينظر الى ابنه محمد بأمل. لقد دفع به الى المدينة الاسلامية بكباكبية لتعلم وحفظ القرآن الكريم، وكان نابهاً وقد ظل يحتل المركز الأول في دفعته منذ دخوله المدرسة وكان راغبا في ان يكون طبيبا في ظروف دراسية غير مواتية. تشاور مع والده قبل الانتساب الى كلية التربية التي منها الانطلاق الى التعليم وحسب ثقافة الاساس لديه فان تلك مسؤولية توارثها من الاجداد. لقد ذرفت عينا الاب عندما انتهى به الحكي الى ان محمد اصبح اليوم جثمان اغتالته أيدٍ آثمة ينتظر من العدالة والرأي العام السوداني القصاص لابنه الفقيد. جاء محمد من (كوقرما) قرية ترقد على سفح جبل غربي مدينة كبكابية يحتضن قصراً سلطانياً ضمن آثار دارفور. أمضيت بضعة ايام هناك في التسعينيات من القرن الماضي، وفيما كنت متجولاً ذات مرة وقفت عند معلم يأمر تلاميذه باحضار طوب من ذلك القصر لاستكمال تشييد مباني المدرسة. دخلت معه في حوار طويل، استطعت ان اصل معه في خاتمة المطاف ان القصر بهيئته تلك شهادة تاريخ بالحقوق المتوارثة، وهي شهادة ميلاد لمواطنة مميزة، وهكذا عندما يؤخذ الطوب بتلك الطريقة التي أمر بها، فان ذلك نوع من تمزيق شهادة ميلاد لسلطنة وسلب حقوق المكان والناس جميعاً. لقد ادرك المعلم الرسالة وتعهد بأن يكون ضمن حماة الآثار في المنطقة، ومن بنشأته في تلك المنطقة ربما ادرك مبكرا انه جزء من تاريخ الممالك الاسلامية السودانية الافريقية، وبخلفية ما عرفته فيه من همة كان يعد نفسه لتحمل مسؤولية التغيير في جيله، وهو تغيير آتٍ ولا ريب بتسارع المفاوضين لانجاز العملية السلمية الراهنة لدارفور. ان السودان ومنذ وقت طويل، ظل يفقد ابناءه من الشباب بوسائل مختلفة، بالهجرة الى الخارج، بالاحتجاج على الراهن السياسي والثقافي الاجتماعي والاقتصادي المعيشي، وأيضا بالاخطاء الادارية المهنية، بل وبالمفاهيم والمعلومات الخاطئة هذا فضلا عن الجهل بقيمة المستقبل. ان جملة الذين فقدوا في سباقات عنف لا تعوض حياتهم، ولكن بالوسع تسجيل اخبارهم وتجاربهم وتفاصيل حياتهم، ثم السعي لمحاكمة الظروف الظالمة التي أودت بحياتهم، ومقاضاة الذين تسببوا بطريق أو آخر في نهاياتهم المأساوية والعمل من اجل الحصول على تعويضات لأسرهم. فيما علينا المساهمة في ذلك، علينا ايضا ان نعمل على ايقاف كل أنواع القتل بالاهمال، او التصفية الجسدية خارج الاطار القانوني، بحملة قومية عريضة ومتماسكة بشعار (ضد اغتيال المستقبل) وان تبدأ تلك الحملة التي يرجى لها ان تكون واسعة ومؤثرة من منظمات المجتمع المدني العاملة في حقوق الانسان والمناصرة من خلال عقد مؤتمر مهني، يعرف من خلاله المجتمع السوداني حقيقة ما حدث لآلاف الشباب، وفتح المجال للمعرفة بالاعلام والنشر، ويتوج كل ذلك وفي تضامن كامل بالعمل الا يفلت مرتكب جريمة القتل من العقاب وهو عمل مؤيد بالمثل السوداني (قاتل الروح وين بروح). لنتضامن ونساهم ونسعى ألا يفلت قاتل من العقاب.