أصدق القول أنني لست مقيماً بشكلٍ متواصل ودائم بولاية القضارف؛ ولكنّي يمكن أن يتأتى لي من خلال وسائط عديدة رصد المتغيرات التي تطرأ على المشهد السياسي في الولاية بصورةٍ جيدة ومُحكمةٍ، وما نلحظه هذه الأيام أن تعالت وانبرت بعض الأصوات الجامحة والمنفلتة التي نحسب وبما لا يدعَ مجالاً لأدنى شك خروجها عن سِياقَ النقد الهادف والموضوعي وغير المبرر للأداء العام لحكومة الولاية. وإنها قد جنحت للتعريض بها لتنعق لما لا يسمع لها دعاءٌ ونداء في فضاءِ القضارف الرحيب وسُمائها الملَبّدة هذه الأيام بالغيوم وزخات الماء القٌراحِ، داعيةٍ وبالصوت الجهِير بعيدةٌ عن أروقةِ الحزبِ ودهاليزهِ لإِحداث تغير عاجل وجوهري في هياكل الحزب التي تراهُ بعينها المفقوءة؛ إنه بات على المِحك و قد أصابهٌ «الخرف المُبكِر» ومن ثمّ الموت الناقع، جراء سياسات تقول إنها تفتقر لرشد الممارسة السياسية كما تدعي هرُاءًً وتزعُم، ناسيةً ومتناسيةً قصر الفترة الزمنية الوجيزة التي تمت فيها إعادة الهيكلة للحزب ونفض الغُبار العالِق به وتجديد وضخ الدماء الحارة لإِحداث التغّيير المنشود الذي نادى به كرم الله عباس الشيخ إبان حملتهِ وبرنامجه الانتخابي وعلى رؤوس الأشهادِ، وحقق من خلالهِ الفُوز الساحق ليجلس ويتربع على دست رئاسة الحُكم وكرسي الولاية بهذا التفويض والاستحقاق الضخم الذي لم تشهد له الولاية مثيلا من قبل منذٌ أن تم تأسيسها في مطلع تسعينيات القرن الماضي وهذا الانتصار المدوي لم يشغله الوالي بوضع اليد؛ ولم يخرج فيه للولاية محتلاً، ولم يأتِ به مسنود عبر قبيلة أو عرق إثني، لكنه نال ثقة كل الأطياف والأعراق المتعددة في ملحمة للنصرة فريدة النوع، ولم يتم هذا التلاحم من فراغ لكن مردهُ نسبة لما لمسوهُ في الرجل من علو للهمة ونصرة لقضايا الضعفاء والانحياز لهم بصورة لا تشُوبها شائبة، ولهذا حق له الفوز ليخرج الولاية ومواطنيها من الهوة السحيقة التي تقبعُ فيها، وأُفضت إليها بفعل سياسات خرقاء تراكمت على مر السنوات الفائتة، وبالفعل تم له انتشالها من وهدتها بعد الانتخابات لتتنفس الصُعداء، وكان النصر المؤزر حليف كرم الله عباس ابن الولاية، ورائد نهضتها بإذن الله، وما نود قوله لمن يريد أن يسمع وليس في آذانه وقرٌ، ونريد تأكيده مراراً، فنقول إن هذه الفترة منذٌ أن تم فيها تشكيل حكومة الولاية الحالية بحساب الزمن تعتبر قصيرة جداً، ويمكن أن تحسب بأصابع اليد الواحدة من فرط قصرها، وإذا تساءل المرء الحصِيف المتتبع لشأن الولاية عن سر هذه الجلبة والهرطقة من البعض التي هي في الغالب الأعم لم تتمخض عن شيء إلا السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، وفي خضم هذا الضجيج قد لا يجدُ المرء مبرراً قوياً ومنطقاً عقلانياً لهذه الفئة التي «تلطم الخدود وتشق الجيوب» وتندب حظها العاثِر الذي أبقاها خارج التشكيلة الحكومية. والشاهد القوي أنها ليس لها الحق البتة في أن تقيس هذه الفترة بنجاح أو فشل على قصرها، كما أسلفنا آنفاً، وهي التي تدعي جزافاً لنفسها بأنها الحريصة والأجدر بقيادة الحزب، بالرغم من أنها جثمت وتربعت على عرشه ما يربو على العقدين من الزمان، استأثروا فيها بجميع قدراته ومفاصله التنظيمية، ولم يحققوا شيئاً، ويريدون لهذه الحكومة الوليدة أن تذهب بين يوم وليلة وعشية وضحاها.. هل هذا إنصاف؟ لكنه الكيل بمكيالين، وهنا يحضرني قول الشاعر: أ حلالٌ على بلابلهِ الدوحُ حرام على الطير من كل جنسِ وهذه الفترة الطويلة من عمر الزمن التي تربعوا فيها على رأس الحزب، ألقت بظلال كثيفة ومترتبات كبيرة على مجمل الحياة السياسية في الولاية، وتناولها المراقب السياسي المتفحص لهذا الشأن، ورجل الشارع البسيط ومحمد وحاج أحمد ما بين قادحٍ ومادحٍ، وفيهمّ من ذهب إلى أنها تجربة حكم قاتمة شابها كثير من «الغبش» والضبابية وتقاطعات صراع الإسلاميين وتقريع بعضهم البعض وافتتانهم بالسلطة دونما رؤية ثاقبة داخل البيت الكبير المؤتمر الوطني، وفي هذه الفترة من عمر الحكومة السابقة غابت فيها أدوار رئيسية ومطلوبات تنموية ودستورية وكان فيها إهدار شنيع للمال العام وتردٍ مزرٍ للخدمة المدنية والبعد الظاهر والبيّن في غياب إعمال المحاسبة، وفشل واضح وضوح الشمس في رابعةِ النهارِ لإدارة الولاية، وفوق هذا وذاك عدم تقديم مبادرات لإعادة لحمة الصف ورأب الصدّع، الذي كان يُرجي أن يتم من خلاله لمّ شمل الفُرقاء الإسلاميين في بوتقة واحدة، فهذا الأمر لم يتحقق، وكان ينبغي له أن يكون على رأس جدول وسُلم أولوياتهم إن كانت لهم أولويات وكانوا بالفعل حادبين على مسيرة الحزب وفق ما تحب القواعد وتهوى بعيداً عن هذا التشرذم الذي لا نرى طائلا من ورائه غير أنه فت في عضّدِ الحزب وذهبت ريحهُ وتصدّع جدرانه وسقط كما الحائط المهيض في خريف أسطوري، واختلط فيه الحابل بالنابل وافتقد فيه الحزب للأسلوب الأمثل لإدارة دفة الولاية في عهدهم الغابر قبل الانتخابات والمجيء بكرم الله وتوليته الأمر في الولاية، ومن المآخذ التي لا يمكن أن تغفر وتؤخذ عليهم بشدة إن الحزب اعتراه الضعف، وأُوسد في السابق إلى غير أهله، وطفا على السطح «الرويبضة» الذين قال: فيهم رسول الله «ص» إذا ظهروا في قوم فانتظروا الساعة، وكانوا ما ينفكوا يتحدثون في شؤون العامة دونما رادعٍ أو وازعٍ من دين أو خُلق وطفِقوا ينادون بعد ذلك بإقصاء فلان والإبقاء على عِلاّن، الأمر الذي أفضى بنا إلى ولاية موضع تندر وسخرية من قبل المركز؛ بل من كل من هبَّ ودبَّ، موسومة بهشاشة منظومة العمل السياسي الذي جنحت فيه قيادات الولاية السياسية في الآونة الأخيرة، وللأسف إلى منحى خطير، بانتهاجها أسلوبا أقل ما يوصف بأنه «فج» وبعيد كل البعد عن الدين والمنهج القويم الداعي إلى إعمال الشورى في حياه المسلم، وبانتهاجها هذا المسلك الذي أساسه وركيزته قاعدة مخلة هي الضرب تحت الحزام تحت بصر وسمع أهل الولاية ودون أية مواربة واستتار وراء كواليس الحزب وضوابطه، ظناً منهم وتوهماً أن الغلبة والسؤدد هي لمن يظفر بالضربة القاضية ليقصم بها ظهر أخيه الآخر كما يتم في داخل حلبه الملاكمة، ضاربين عُرض الحائط بكل ما هو منهجي قائم عليه مشروعهم الحضاري الإسلامي الذي بُذلت فيه المهج والأرواح رخيصة وبدا لعمري في الانحسار والتقاصر، واختُزل في صراع لعبة الكراسي، ويا أسفي عندما تخفت إلى هذه الدرجة أنوار الحقيقة وتستبد شهوة السلطة بأهواء القادة، وينفجر الوضع المرتبك أصلاً والغارق إلى شحمة أذنيه في أزمة سياسية مُستفحلة تزداد ضراوتها يوماً بعد يوم، وهذا لا نرى له ما يبرره بعدما تم التغيير في الفترة التي نعيشها الآن، ونتفيَأ فيها ظلال الإصلاح التي تتمدد لتعم كل أرجاء الولاية وأصقاعها المترامية، والكل على أمل ورجاء بأن مقبل الأيام ستسفر خيراً عميماً من بعد ما قنط الجميع، وعلى الذين يضعون المتاريس لهذه الحكومة القائمة نقول لهم اتقوا الله في مواطنيكم ، واعلموا إنما تكمن الحقيقةُ المُرة في أن هذا الدرب الوعر الذي تسلكون لا يُفضي إلى خير العباد والبلاد، ولا بد للعُقلاء داخل الحزب أن يُمعنوا النظر بعين فاحصة إلى ما تشهده الساحة السياسية من احتقان وضبابية، واضعين مقولة الإمام الشهيد حسن البنا نصب أعينهم وليس وراء ظهورهم، التي قال لهم فيها في صدر الدعوة «إني لا أخاف عليكم من أعدائكم ولكن أخاف عليكم من أنفسكم» وصدق حدس الإمام الشهيد، وليتهم استبانوا النصح قبل أن يصعب الرتق على الراتق، وندعوهم بحق أخُوة الدين والمعتقد، أن يسعوا جاهدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، إعمالاً لصوت العقل والحكمة التي هي ضالة المؤمن أين ما وجدها عمل بها وأخذ بتلابيبها، هذا النداء برمتهِ نريده أن يتم تحت قاعدة منهجية قوامها ألا تكمن الغلبة فيه للذي يحوز على الغالبية، ليصيروا متملكين الحزب ومفاصله وقواعده المغلوبة على أمرها، هذا من ناحية والشاهد في الأمر هنا. ومن ناحية أخرى ولعلها الأهم في ما أظن انه ومن وجهة نظري وأتمنى أن يؤخذ بها، أننا لسنا بحاجة إلى صراع، فالولاية «الفيها مكفيها كما يقولون» ولكن نحن بالأحرى بحاجة لمشاركه عريضة دونما إقصاء لأحد وإلغاء لجهود وإنجازات ترصد هنا وهناك لا بد من تثمينها وتعضيدها والأخذ بها كتجربة تضاف لرصيد المرحلة المقبلة، التي نتمنى أن تكون حافلة بالتجارب الثرة حتى نحتفي بها وننشد لها الفلاح، والأمر الثاني نحن بحاجة إلى مكاشفة ومحاققة ورد للمظالم وإشراك الآخرين، بغض النظر عن موازين القوى والربح والخسارة والكسب، وفي هذه الحالة إذا تم كل الذي سبق وقيل بشفافية مطلقة في إدارة الحزب وعلى الهواء الطلق والنأي والابتعاد عن نظريه المؤامرة والتربص وتحين الفرص لإجهاز طرف على الآخر، وهذا يمكن أن يتم وليس بعيد المنال والتحقق، والأمر الأخير والأكثر خطورة يا أيها القادة لو نظرتم من حولكم تجدون من يتحلقون بالخارج، ومنهم من اندس بين ظهرانيكم وأنتم لا تعلمون، فهؤلاء لا يزيدونكم إلا خبالاً، ولا يريدون لكم خيراً ومنعةً، فكل ما يتمنونه الفرقة والضعف حتى ينفذوا إلى صدوركم وبعدها يتشتت شملكم وتذهب ريحكم، وأنتم تعلمون أن هذا البلد محسود لخيراته وتمسكه بدينه، ومتربص به من كل حدب وصوب، ويمكن أن يؤخذ على حين غِرّة ومن أية ثغرة يمكن منها النفاذ لضربه، لذلك عليكم بهؤلاء الذين تعلقوا بأثواب الحزب ليدنسوه، لا تعولوا عليهم كثيراً، لأنهم كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وعند الشدائد والملمات وإذا أتت الهيجاء «والمحاصة» لم يبرزوا إليكم من مخادعهم، كالنساء في خدورهن. أخي رئس الحزب نصائحنا إليك أن نصدع ونجهر بالحق الذي تربينا عليه منذ نعومة الأظافر وهو ديدننا، ولن تأخذنا فيه لومه لائم ، هؤلاء ليسوا رجال دولة، إنما خلقوا ليكونوا بجانب بعض من رجالات القضارف وأعيانها في لياليهم وسهراتهم، لذلك الأكرم لهم أن يذهبوا لإقامة حفلاتهم وسهراتهم الماجنة كما كانوا يفعلون بعيدا عن معترك السياسة ومنعطفاته ولُججه البعيدة الأغوار ... أخي الوالي إننا راضون كل الرضاء عن الجهاز التنفيذي وشخوصه الأتقياء الأنقياء الذين نعرفهم عن كثب «الضو محمد الماحي، معتصم هارون، عبد العظيم مصطفى البدوي، محمد عبد الفضيل السني، أسامة محمد الحسن درزون، عبد الإله أبو سن الأديب الأريب، والمجاهد جعفر الشريف النور الذي عندما نادى المنادي أن يا خيل الله اركبي كان في مقدمة الركب والصفوف الأولى ليذود عن حياض الأمة وبيضتها، هذا هو النموذج من القادة الذي نريد. وعلى كلٍ هذه المنظومة من الوزراء والمعتمدين الذين دفعت بهم لقيادة الولاية اختيار صادف أهله بحق وحقيقة دونما مراء، واشهد الله على ذلك، لكنّ الذي أرمي اليه تلك الأدران التي علقت بالحزب ولا بد من «كنسها» لأنها رجس ونجس ومن عمل الشيطان، حتى لا نؤتى من الخلف، لذلك ينبغي عليكم أن تفوتوا عليهم الفرص، وهذه ليست دعوة إقصائية لكنها ضرورة ملحة تمليها عليك مقتضيات المرحلة، وهذا لا يتم إلا إذا تراص الصف وتم القبول لبعضنا البعض، فساعتها لن يكون هناك رابح وخاسر ومنتصر ومهزوم، بل الرابح القضارف وأهلها، وهذا كله لن يتأتى ويتم إلا إذا تفوقت عند صانعي القرار السياسي في الولاية الهموم الوطنية العليا على الهم الشخصي الضيق، بعدها سيصبح المؤتمر الوطني صخرة صلدة تتحطم عليها كل نصال المؤامرات الدنيئة الرامية إلى تفتيت الحزب حتى يصعب النيل منه؛ «واعلموا أيها الغافلون المتخندقون» إذا لم يتم تدارك الأمر ولمّ الشعث، ستحيق بكم الندامة لا ريب، وساعتها لا ينفع الندم ولا آتٍ حين مناص. وصدق الإمام علي كرم الله وجهه حين قال: فُرض على الناس أن يتوبوا والدهرُ في صرفه عجيبٌ لأن ترك الذنوب أوجبّ وغفلةُ الناسِ فيه أعجبّ أخيراً وليس آخراً إن للإنسان الذي تشرب بالقيم موئلاً وعمقاً، وللعمق سطح، وفي السطح تتراقص أمواج الزبد ثم تتلاشى لأنها زبد، وتذهب جفاءً ويبقى ما ينفع الناس يمكث في الأرض. [email protected]